شرعت فى كتابة هذه السطور صباح أمس، بينما الصورة (التخيلية) لهذا الشاب المصرى الذى لامس بشجاعته وتصميمه وجرأته وعبقريته حدود الأسطورة، شخصيا ساكنة لا تبرح خيالى. أقصد ذلك الفتى الذى نجح فجر أمس (بجسده الغض العارى وحده) فى تسلق بناية من نحو 26 طابقا حتى وصل إلى الطابق الأخير حيث يتشعلق مقر سفارة العدو، وحيث كانت رايته القذرة منصوبة تتلوى كالأفعى فى الهواء فتلوث منظر صفحة النيل الجارى تحتها وتصفع عيون الرائح والغادى، لكن الفتى أنزل الراية التى لدائما ما كانت عنوانا للقتل والهمجية واللصوصية والعدوان، ونصب مكانها علم مصر. والآن أغادر مضطرا سيرة هذا الشاب العبقرى البطل، وأذهب رأسا إلى واحد من مظاهر الغباوة والجهل والخيبة القوية التى نرى هذه الأيام «أبطالها» يجاهدون جهاد الصناديد الأشاوس لكى يفرضوا علينا وعلى أهالينا تخلفهم العقلى وتشوههم الروحى ساعين ومصممين على دحرنا وهزيمتنا هزيمة منكرة من دون حرب ولا من يحزنون! وأبدأ بأن عندى إيمانا وعقيدة راسخة أن الغوص والسباحة فى الغباوة والجهل حق من حقوق الإنسان (البعض قد يراها من حقوق الحيوان) غير أنه، كأى حق آخر، لا بد لصاحبه أن يتوقف ويخرس خالص عند الحدود التى تبدأ منها حقوق الآخرين.. يعنى من حقى أن أتمسك بجهلى وأسهر عليه بالرعاية والعناية، بيد أن لا حق لى مطلقا فى أذية عقول الناس بأن أبث عليهم علنا من فائض غباوتى وتفاهتى. أقول قولى هذا بمناسبة التصريحات الكوميدية التى هلفط بها أحدهم مؤخرا وبثتها إحدى الفضائيات، فقد وصف هذا الأخ الحضارة المصرية القديمة بأنها «عفنة» ثم طالب بفرض حجاب شمعى على آثارها وتماثيلها الباقية لأنها «تشبه الأصنام والأوثان التى كانت موجودة فى مكة قبل الإسلام!» طبعا لا بد من شكر الأخ المذكور على تواضعه وكرمه الزائدين، إذ تفضل وتعطف علينا فامتنع عن توجيه الدعوة لتحطيم «أوثان» الحضارة المصرية التى يعتبرها البعض (من فرط الكفر والعياذ بالله) أثمن وأعظم ما خلفته مسيرة الترقى والتحضر الإنسانيين، واكتفى الرجل بالحض على تغطيتها وستر وجوهها ب«الشمع» صحيح أن مقاطيع من أتباعه (حسبما نشرت التحرير يوم الجمعة الماضى) لم يكذبوا خبرا وانطلقوا يكسرون ويشوهون ما طالته أياديهم من آثار حضارتنا «العفنة» بيد أن ذلك لا ينال من فضله ولا ينتقص أبدا من كرم معاليه!! ولا تعليق عندى على غوص ذلك المذكور أعلاه فى ظلام العقل وبؤس الحس والروح إلى حد دمغ أعظم الحضارات الإنسانية ب«العفن» فقط أذكر القراء الأعزاء بأن التلفاز يستطيع أن ينقل صور الناس وأصواتهم، لكنه لا يستطيع أن يظهر أو يكشف روائحهم. وأختم بأنك لو تحاملت على نفسك وعقلك وغامرت بسؤال رجل الظلام هذا أو أى من أمثاله عن سبب وعلة عدائهم لمنتجات الفن والإبداع وآثار الحضارات الإنسانية بما فيها إرث حضارتنا الخالد، لقالوا لك تفاهات وهلاوس مجنونة من نوع أن الصور والتماثيل والمنحوتات عموما «لأنها تشبه أوثان مكة» القديمة، هى قد «تفتن» المؤمنين وتجعلهم يعودون (بعد 14 قرنا) لعبادتها من دون المولى تعالى!! ولك أن تتخيل رجلا (مثل صاحبنا المذكور) دخل المتحف المصرى ذات يوم وشاهد هناك تمثال «العجل أبيس» فأعجبه صنعته، ومن فرط الإعجاب خر فجأة تحت أقدامه ساجدا ثم تمادى وصلى لتمثال العجل ركعتين! يا مثبت العقل والدين، يا ربِّ أغثنا وارحمنا برحمتك الواسعة.