نواصل عرضنا النقدى لتصورات الرئيس أوباما فى ما يتعلق بالولاياتالمتحدة، وثَمَّنَّا إدراكه لحدود القوة العسكرية، وذكرنا رفضه لسياسات بلاده فى المنطقة، وحديثه عن الطائفية وعن محاولاته لتهدئة الأجواء بين السُّنة والشيعة. ونتوقف قليلًا عند تقييمه السلبى لسياسات أسلافه. من الواضح فى تقديرى أنه يعتقد اعتقادًا راسخًا أن سياسات الاعتماد على أنظمة سلطوية كانت خطأً جسيمًا، وأن التحالف مع الشعوب أجدى وأسلم. وهذا الكلام ظاهره وجيه، ولكنه سطحى ويثير مشكلات عديدة. أولًا، مَن يمثّل الشعوب؟ الافتراض أن الشعب كتلة موحّدة تتحدَّث بصوت واحد افتراض تكذّبه كل الحقائق، حتى عندما يجتمع الشعب على هدف واحد (إسقاط مبارك على سبيل المثال) نجده لا يتحدَّث بصوت واحد، هناك مَن كره آل مبارك، ومَن كان يحترم الرئيس السابق ولا يطيق فكرة التوريث، ومَن لا يكره العائلة ويرفض النظام المتسلط.. إلخ. ويزيد الطين بلة ميل الرئيس أوباما إلى اعتبار العالم الإسلامى كتلة واحدة يمكن مخاطبتها دون التمييز بين مكوناتها. ثانيًا، كيف يتصرَّف الرئيس أوباما عندما يكتشف أن الانقسام سيد الموقف فى دولة ما؟ هل ينتصر للعدل أم للأغلبية أم لمصالح الولاياتالمتحدة على فرض إمكانية تشخيصها؟ هل ينسحب ويراقب إلى أن تتضح الأمور؟ ثالثًا، تترتَّب حتمًا على مقولة الرهان على الشعب أحكام قيمية مشكوك فى صحتها ونتائج فاسدة، وعلى سبيل المثال يعتقد عدد كبير من أعضاء النخب الغربية (ويبدو لى أن أوباما يشاركهم الرأى إلى حد ما) أن جماعة الإخوان، صاحبة القواعد الشعبية الغفيرة، والنظام الإيرانى المنبثق من ثورة شعبية عظيمة، أقرب بحكم وجود سند شعبى إلى القيم الديمقراطية والتقدمية من حكام الخليج ومن الدولة المصرية، وهذا التشخيص المفضّل للإخوان ولإيران يعوزه الدليل القاطع على أقل تقدير، ويميل أعضاء تلك النخب إلى قياس الأوضاع الإقليمية الحالية على أوضاع أوروبا بعد الثورة الفرنسية، حرب بين القوات الثورية وقوات الأنظمة الملكية الرجعية، رغم وضوح فساد هذا القياس. وحتى إن سلّمنا جدلًا بصحة التشخيص لصالح الإخوان وإيران، هل تترتب عليه ضرورة نقض العهود السابقة مع حلفاء الأمس وعقد تحالفات جديدة؟ ويزداد الطين بلة عندما ترفض تلك النخب تصديق الواقع، والأخذ فى الاعتبار الانهيار المذهل لشعبية الإخوان فى أقل من سنتَين. رابعًا، تحصر تلك المقولة الفجوة بين الولاياتالمتحدة والشعوب فى نقاط محددة، مساندة الولاياتالمتحدة للطغاة، أو قُل قبولها التعامل معهم، والغزو الأمريكى للعراق، وتتناسى الأسباب الأخرى، ولا يتسع المجال لذكرها كلها، ولذلك سنكتفى بالإشارة إلى إسرائيل والقضية الفلسطينية ومشكلة القدس، وأشار الرئيس الأمريكى، كما أسلفنا فى المقال السابق، إلى عدوانية السياسة الخارجية التى ينتهجها، رغم رفضه اللجوء إلى القوة العسكرية، ويقصد أن استبعاد الخيار العسكرى لا يشل الولاياتالمتحدة لاعتمادها على أشكال متنوعة من القوة الناعمة، مما يسمح لها بالتصعيد وبممارسة الضغوط وبالتهديد بالعقوبات، وقد يبدو هذا الكلام وجيهًا، ولكن التجربة أبرزت وأثبتت عوار وحدود هذا المنطق، والأزمة الأوكرانية مثال بليغ، اختارت الإدارة الأمريكية سياسة التصعيد المتواصل (الإقرار بذلك لا يعنى أن موقف روسيا سليم بالضرورة)، وفوجئت بعدم خضوع موسكو، واضطرت واشنطن إلى نوع من التراجع المهين بعد أن خذلت أنصارها، وقصة الخطوط الحمراء فى سوريا لردع النظام مثال آخر معروف، التهديد بضربة عسكرية ثم التراجع أفقدا الإدارة مصداقيتها. خلاصة كلامى أن رفض اللجوء إلى الخيار العسكرى يقتضى اتباع سياسات أكثر حصافة وأقل «عدوانية» فى أحوال ليست بالقليلة. سنتناول فى المقالة القادمة مقولاته عن «القيادة من الخلف»، لأننى أعتقد أنها ليست أخلاقية وليست عملية فى آن واحد.