أترك مؤقتًا حديثى عن القضايا المتعلقة بإصلاح الدولة لأعبّر عن تخوفاتى وحيرتى فى موضوعات مختلفة، بعضها متعلق بالشأن الخارجى والبعض الآخر بقضايا داخلية. أعترف أننى لا أفهم السياسة الخارجية الأمريكية رغم سعيى الدؤوب لاكتشاف خطوطها العامة واطلاعى الواسع نسبيًّا على مقولات مراكز الأبحاث والصحافة. المتفائلون يقولون إن الولاياتالمتحدة تشبه حاملة طائرات ضخمة، لا تستطيع أن تغيّر واجهتها فى يوم وليلة، وتحتاج إلى وقت لاستيعاب الأوضاع الجديدة فى المنطقة والتأقلم معها، ويلومون الإعلامين المصرى والأمريكى المضخمين للمشكلات الراسمين لصورة سوداء للطرف الآخر العاجزين عن طرح القضايا المهمة وعن نقل هموم الطرف الآخر بصدق. وكل هذا صحيح، فتغطية الواشنطن بوست و النيويورك تايمز للأحداث وكلماتهما الافتتاحية مثال يدرس فى انعدام الموضوعية والتحيّز الغبى، ويجب أن لا نقلل من تأثير هذا الإعلام على دوائر صنع القرار الأمريكية والغربية، وأن لا نتصور أنه بإمكاننا تغيير مضمون الخطاب بتوضيح الحقائق كما هى، لأن القضية أعمق من ذلك، هم يركزون بحسن أو بسوء نية على جانب من الصورة هو موجود فعلًا، ويرونه دالًّا ومعبرًا عن حقيقة النظام السياسى المصرى الثابتة الدائمة، ولا يلتمسون لنا الأعذار ولا يقدرون ظروفنا وتحدياتنا ولا يصدقوننا عندما نتحدَّث عن رضا وتأييد شعبى يعبران إما عن اقتناع بتوجهات النظام وسياساته وإما عن إدراك حقيقة عدم وجود بديل أحسن. وإن صدقوننا عندما نواجههم بأرقام المشاركة يعودون ويقولون إن هذا التأييد لا يبرر كل شىء بل يعمق من الأزمة. 90٪ من المشكلة تكمن فى خياراتهم الأيديولوجية وفى قناعاتهم، النبيلة منها والعبيطة. سيظلون متمسكين بسردية مفادها أن الرئيس مرسى انتخب، وأن فشله فى الحكم يعود إلى قلة الخبرة (ولا إلى عوار فى المشروع)، وأن المؤسسة العسكرية استغلت فرصة سانحة أسهمت الأجهزة السيادية فى خلقها وهى مظاهرات 30 يونيو للانقضاض على الإخوان والثورة والمشروع الديمقراطى، ولا يصدقون المقولات عن مشروع الإخوان وعن خطره على الهوية المصرية (بل يرونه مجسدًا لتلك الهوية) والديمقراطية والأمن القومى وعن الرفض الشعبى له، وعن ضرورة الاستعجال لمواجهته، قبل أن يقضى على خصومه ويتسبب فى حروب أهلية. ومن الواضح أنهم لن يغيّروا تلك السردية ما دامت الأحوال كما هى، عدم وجود نظام سياسى وآليات للحكم تتوافق عليهم كل أطراف اللعبة، وممارسات قمعية بالغة الحزم والشدة ضد النشطاء الشباب، ومراقبة مقيدة لأنشطة المجتمع المدنى، وسيظلون رافضين تحميل أعداء وخصوم النظام أى مسؤولية فى ما آلت إليه الأمور، والحقيقة أن موقف بعض أركان النظام الحالى من الحراك الشبابى لا يمكن قبوله وتبريره مهما كان الوضع دقيقًا، نقول هذا رغم استيائنا من سلوكيات ومواقف بعض الرموز الشبابية. ولكن الحقيقة أيضًا أن الإعلام الغربى لا يرى ولا يريد أن يرى حقيقة وخطر التحدّى الإخوانى ومدى رفض الشارع له ولممارساته. ولكن الإعلام الأمريكى -على أهمية تأثيره- لا يرسم السياسة الخارجية الأمريكية ولا يعبر عنها بالضرورة، هو مكون مهم من مكونات القوة الناعمة الأمريكية، لكنه ليس تابعًا لأولياء الأمور، قد يكون حليفًا لهم وقد يكون خصمًا، قد يساعد سياساتهم الخارحية وقد يعوقها، وفى كل الأحوال، لا يسعفنا كثيرًا بيان العوار الذى يشوب الركائز الأيديولوجية للخطابات الإعلامية والأكاديمية فى فهم تفكير ودوافع وعقلية وحسابات الفصائل الأخرى من نخب الحكم الأمريكية. هناك طبعًا سمات مشتركة بين الخطابات الإعلامية وتصورات أولياء الأمور، وتأثير متبادل، ولكن أوجه الخلاف عميقة وجوهرية. محاولة فهم السياسة الخارجية الأمريكية تقتضى أولًا فهم تصورات الفاعل الرئيسى، وهو باراك أوباما، ودراسة تصريحاته وأحاديثه، سواء تلك التى تناولت الخطوط العامة لسياساته الخارجية والداخلية، أو تلك التى تعلقت بالشرق الأوسط وبالإسلام والمسلمين، ونقر أولًا أن الرجل يشكّل لغزًا لكل سياسى تعامل معه، لجمعه بين خصال متناقضة، ولمهنيته الشديدة. وللحديث بقية.