تعرض كتاب "الخطاب والتأويل" للمفكر الراحل الدكتور نصر حامد أبو زيد، والذي صدر عن المركز الثقافى العربى عام 2000، وضم بين دفتيه 268 صفحة، للمصادرة وكان عبارة عن رحلة فكرية تقارن الخطاب السلفى بداية من أبى حامد الغزالي، وانتهاءً بالخطاب المستنير الذي أصله ابن رشد وسار على دربه مفكرا الاستنارة على عبد الرازق وطه حسين. وحسب النقاد، فقد حاول أبو زيد في هذا الكتاب استحداث نهج يعمق علم تحليل الخطاب نظريًا وتطبيقيًا؛ لأنه كان يرى أن الخطابات تستعير أدوات بعضها بعضًا، وتسمح لنفسها أحيانًا باستعارة مقولات الخطاب الخصم وتعيد تأويلها حتى تتمكن من توظيفها في سياق خاص. في عام 2003 منع مجمع البحوث الإسلامية تداول كتاب "الخطاب والتأويل" لأبى زيد في مصر ومصادرة ما وُزع من نسخه في الأسواق، بعد اجتماع مع شيخ الأزهر آنذاك الدكتور محمد سيد طنطاوي، الذي انتهى -عقب مناقشة تقرير عن الكتاب وضعه عضو المجمع الدكتور محمد عمارة- إلى قرار جاء فيه أن أبو زيد "طعن على ثابتين من ثوابت العقيدة الإسلامية، وهما التوحيد وحفظ القرآن الكريم، الأمر الذي يمنع تداوله لطعنه في صحيح العقيدة الإسلامية"، وفقًا لما نُشر بمجلة المصور بتاريخ 27/ 11/ 2003. جر الكتاب على صاحبه، تهمة الطعن ب"ثابتين من ثوابت العقيدة الإسلامية، هما "التوحيد وحفظ القرآن الكريم"، حسبما جاء في قرار الأزهر، فقد كتب أبو زيد معظم فصول الكتاب في زمن الاغتراب، بعد يوليو 1995، وأقلها كتب قبل ذلك، ولكن دائمًا في سياق "حرب التكفير" التي بدأت ضده من داخل الجامعة، خلال الفترة الممتدة من 1993 وحتى 1995، وخصص معظم فصول كتابه لعلم "تحليل الخطاب" نظريًا وتطبيقيًا، من خلال أمثلة ملموسة، وكيفية تبادل الخطابات التأثير والتأثر بعضها مع البعض الآخر، عندما قال "مهما تباعدت منطلقاتُها الفكرية وتناقضت آلياتُها التعبيرية والأسلوبية، ومهما اختلف نسقها السردى بين الوعظية الإنشائية في جانب والتوتر المعرفى في جانب آخر" (صفحة 5). وفى دراسته التي تحمل عنوان "التراث السلطة التأويل.. قراءة نقدية لكتاب الخطاب والتأويل، لنصر حامد أبو زيد"، يرى الناقد عمار الكعبى أن أهمية كتاب (الخطاب والتأويل) تكمن في نقده بعض الظواهر الفكرية والدينية التاريخية من خلال الواقع والتراث. ففى القسم الأول من الكتاب، وجد الكعبى أن الكاتب قدمه بعنوان "الموقف العربى والسلطة"، ولاحظ أبو زيد أزمة الخطاب الثقافى العربي، من خلال تقصيه لبعض النتاجات والسجالات لبعض التنويريين والتقليديين والإصلاحيين العرب مثل زكى نجيب محمود ومحمد أركون ومحمد عمارة، مع دراسة لجدلية الغزالى وابن رشد. وفى كتابه يقول أبو زيد عن ذلك: "هناك فارق بين النقد والاختلاف، وبين الإدانة ونزع صفة الإسلام عن المفكر لأنه ينتج فكرًا لا يتطابق مع ما نؤمن به من أفكار، لقد حاول الكاتب (عمارة) أن ينقد الوضعية المنطقية لدى زكى نجيب محمود)، لكن نقده لها هو النقد العامى المبتذل، وليس النقد العلمي". والغريب أن أبا زيد كتب في هذا الفصل سطورًا كان يجدر بها أن تكون الرد القاطع على كل من يتهمه بالطعن بثابت التوحيد من العقيدة الإسلامية، حسب دراسة الأتاسي، فيقول أبو زيد: "حين نقول اختلاف العقائد فإنما المقصود اختلاف التصورات حول العقيدة، عقيدة التوحيد مثلًا كثرت التصورات حولها بين الفِرَق". (صفحة 86). ويضيف: "أول شروط الحوار: التخلى عن تصور امتلاك الحقيقة والاستئثار بالحديث عن الإسلام، فكلنا مسلمون بداهة، وإسلامنا هو الأصل الذي لا يحتاج إلى برهان". وفى قسمه الثانى (التراث والتأويل) احتوى الكتاب على نقديات ومداخلات حول جملة قضايا تتعلق بالتراث والسلطة والتأويل، محاولا نقد هذه الظواهر من خلال خمسة فصول، وتتلخص فيه جملة من أفكار أبو زيد، التي أُدين بسببها في المحاكم (الشرعية) والأوساط السلفية بمصر. خصص أبوزيد جانبًا من الكتاب لدراسة كيف أن معظم تيارات الفكر العربى لا تزال مسجونة داخل النفق المظلم نفسه الذي حصر سؤال "النهضة" في بُعْد "الدين" وحده، وينتهى هذا الفصل بحوار شائق وموسَّع أجراه الناشر مع أبو زيد يتناول فيه نشأته ودخوله الجامعة والمفكرين الذين أثَّروا في تكوين وعيه، متحدثًا بإسهاب عن محنته بعدما اضطر لمغادرة مصر وعن المعالم الجديدة في مشروعه الفكري. وحاول أبو زيد من خلال الكتاب تقديم تحليل تاريخى معرفى للعلاقة بين مراكز القرار السياسي والدين، وأن ينقد التجارب التي سعت إلى تأصيل العلاقة بين النص الدينى والدولة، وتحيط نظام الحكم وطبيعته وشكله بهالة النص المذكور للوصول إلى قداسته، حسب الكعبي. ويرى أبو زيد أن السقيفة كانت بداية الطريق لعملية الإقحام هذه، حيث قام بعض الصحابة بتوحيد السلطة والنص في بوتقة واحدة هي قبيلة قريش، وكانت لحظة معاوية في حربه ضد "على بن أبى طالب" بصفين نقطة إضفاء طابع القداسة في تجاذبات الصراع السياسي الذي استمر بين أطراف متعددة، ففى الوقت الذي يفسر فيه الكثيرون هدف معاوية من رفع المصاحف كمحاولة إقناع العراقيين بانتمائه إلى القرآن، كان لمعاوية، حسب أبو زيد، هدف أبعد يتضمن إفهام أهل الشام بقداسته في المعركة التي يخوضها من أجل القضاء على الانحراف. وما ساعد الخلافة على لعب دور القداسة هو قابلية أغلب الاتجاهات الفكرية الدينية على تقديم خدماتها للحاكم، حسب أبو زيد، وتبرير شمولية حكمه، وهو ما حدث فعلًا للمعتزلة -الاتجاه الأكثر مظلومية وبعدًا عن مراكز القرار السياسي في أغلب مفاصل التاريخ- وذلك عندما اندمجوا مع المأمون، وهو اندماج أنتج انتهاكات واضحة بررت بقضية خلق القرآن، واستفاد الخليفة من "فذلكتها" وصراعها الفكرى في قمع خصومه. وصاغ "أبو زيد" مفهوم (المحو والإثبات) بشكل يفسر عمليات النسف للكثير من البنى الثقافية والدينية والفكرية وزوالها تمامًا عن صفحة الواقع وتحولها إلى مجرد ذكريات تاريخية لايمكن حتى إعادتها إلى الواقع -وفقا لما ذكره الكعبي- فالمحو والإثبات يعنى زوال الأفكار واندثار البنى المعرفية والأيديولوجية والثقافية وحلول بُنى أُخرى بديلة عنها. وقد حاول الكاتب أن يستثنى عصر النبى صلى الله عليه وسلم، من عمليات محو كبيرة وواسعة عندما انخفضت جملة من الأنماط الثقافية الاجتماعية لكل مجتمع في عهد النبي، في حين أن قريش قد قامت بهذه العملية عند اتحادها مع النص الدينى -الصورة الرئيسية للفكرة آنذاك- وعملت على محو كل ما يخالف رؤاها أو يؤثر فيها، وإبدالها بالنص الديني، وذلك لإنهاء مبررات غير تلك التي تستفيد منها لبقائها في هرم السلطة. وفى كل الأحوال ظل «أبو زيد» في دائرة الحظر والتكفير حتى رحيله قبل 4 سنوات.