لم أتابع الفقرات الساخرة التى أطلقها باسم يوسف، على «يوتيوب» وقت الثورة وبعدها بقليل، لكننى شاهدته لأول مرة عندما استضافته منى الشاذلى فى برنامجها، وأذاعت بعضا من فقراته.. شعرت وقتها أننا أخيرا نقترب من الشكل المقبول لما يمكن أن نطلق عليه «المتابعة الإخبارية التليفزيونية الساخرة».. إنه فن متكامل، له متطلبات وأصول وقواعد، لا أدرى إن كانت نشأته الأولى أمريكية أو أوروبية، لكننى أعلم أن له نجوما قدامى من أمثال «ديفيد ليترمان، جاى لينو، كانون أوبراين» ونجوما جدد ومجددين من أمثال «جيمس ستيوارت، ديفيد كولبير». هذه البرامج تبدو بمثابة رأس الحربة فى الإعلام الأمريكى، فالسخرية شديدة القسوة، والتى تقف على بعد ملليمترات قليلة من حدود الإهانة، سلاح مدمر وكاسح لا يمكن أن تصمد أمامه إلا الشخصيات الواثقة المتماسكة والقادرة على استيعاب النقد واحترامه، مع ملاحظة أن السخرية هناك لا تستثنى أحدا، ولا تعترف بفكرة «الرموز»، سواء كانت سياسية أو فنية أو إعلامية أو حتى دينية. إعلامنا المصرى لم يكن يحتمل هذا النوع من البرامج حتى يناير الماضى، وقد ظهرت بضعة محاولات على مدار السنوات العشر السابقة، شاركت شخصيا فى إحداها، لكنها كانت محاولات مجهضة قبل ولادتها، لأنها تصطدم فورا باستحالة فرض السخرية المباشرة القاسية دون تعرض للمنع أو الحذف، وما ولد منها بالفعل، ظهر ممسوخا مبتسرا.. لكن هذا الواقع تغير تماما عندما استخدمت ثورتنا سلاح السخرية الحارقة بكثافة، حتى كان من ألقابها «الثورة الضاحكة»، وهو الأمر الذى فرض غطاء شرعيا إجباريا يسمح بنفاذ هذه السخرية إلى الإعلام. باسم يوسف استوعب مبكرا جدا أهمية استثمار هذا الغطاء الثورى الشرعى، للوصول بسخريته إلى أقصى حدود ممكنة إعلاميا، وهو ما حققه فى الكليبات القصيرة التى أطلقها على الإنترنت وقت الثورة.. لكن الأجمل، والأكثر استحقاقا للاحترام، هو أنه عندما أتيحت له فرصة أن يكون مسؤولا عن برنامج تليفزيونى فى محطة فضائية، كان حريصا على تطوير أدواته، وعلى عمل بناء متكامل لبرنامجه، يحتذى فيه ببناء هذا النوع الخاص من البرامج، مدركا أن المسألة أبعد ما تكون عن الفهلوة، بل هى دراسة وإتقان ومجهود ضخم.. برنامج «البرنامج؟!» بالنسبة لى، هو أول نتيجة ملموسة للثورة على المستوى الإعلامى، أنصح بمتابعته، وأشجع على ظهور برامج منافسة له، وأتمنى للقائمين عليه كل التوفيق.