نواصل تناولنا النقدى للقراءات الغربية لأعمال طارق البشرى، مع إقرارنا أن قلة (كما) من الباحثين الغربيين أدركت اعوجاج تلك القراءات. يمكننا التمييز بين حقبات تاريخية محددة، وحب أو كراهية عصر أو آخر، وتفضيل فترة معينة، ويمكننا أن نعرف كل حقبة بسمة غالبة فيها، ما لم نتجاهل تعقيدات الصورة، لكننا لا نستطيع أن نقول إن اللاحق دائما أفضل وأسمى من السابق، وبناء عليه، المشروع الإسلامى لا يمثل أسمى مراحل التحرر الوطنى (ولا أحطها)، أعترف أننى لا أفهم المقولة التى تنسب إلى الإسلاميين إدراكا عميقا بضرورة ومغزى ومقتضيات تكملة مشوار التحرر الوطنى بالقضاء على التبعية الثقاقية للغرب، أولا، لا يجوز الخلط بين الانغلاق، على فرض إمكان تحقيقه، والتحرر والاستقلال، التحرر الثقافى يفترض وجود مشروع ثقافى وطنى مستقل لا يخشى التفاعل مع الثقافات الأخرى، لا توجد فى العالم ثقافة ما تدرك قيمتها الذاتية وتفردها ما لم تحتك بغيرها وتعاملت معه، بالتعاون أو المواجهة، بالاقتباس أو النقد، ولا يصح الافتراض أن الثقافة الغربية ستمحو الثقافة المصرية لو تركت الأمور لتأخذ مجراها الطبيعى، ثانيا، التيارات السياسية التى حاولت رسم سياسة ثقافية تتفق و«ضرورات» التحرر الوطنى هى التيارات الناصرية واليسارية، بصرف النظر عن تقييمنا لنجاح أو فشل مشروعاتها، ثالثا، إذا عرف الإسلاميون مشروعهم الثقافى (على فرض وجوده) بأنه إعلاء للمرجعية الإسلامية، وجب عليهم الاعتراف بكل التراث الإسلامى البالغ الثراء، وعدم الاكتفاء بما يناسب تصوراتهم، وإدراك ضرورة اللجوء إلى مناهج البحث التاريخى والتأويل لفهم هذا التراث وظروف إنتاجه ومقاصده، وإذا عرفوه بأنه مقاومة التغريب، والفصل بين ما هو إسلامى وما هو غربى، وجب علينا القول إنها معركة ولى زمانها، التغريب حدث، التغريب توطن وتجذر وتمصر، منذ نشأة الدولة المصرية الحديثة وبناء مؤسساتها ونظامها التعليمى، ويقر المستشار البشرى بذلك، العودة إلى الوراء غير ممكنة، حتى فى إطار حكم شمولى، وإن كانت ممكنة ستكون نتائجها كارثية، أما التمييز والفصل بين ما هو إسلامى وما هو غير إسلامى، فهو نظريا ممكن، إلا أنه عمليا عسير جدا، لتنوع واختلاف الاجتهادات والمناهج فى التفسير والتأويل، وأعتقد أيضا أن الأصل أن هذا الفصل غير مستحب، مع الإقرار بوجود استثناءات، لأنه يمهد إلى محاكم تفتيش لم يعرفها التاريخ الإسلامى، وحصيلة تلك المحاكم التاريخية كارثية، ولأنه يحمل فى طياته الإقصاء والتكفير. بصفة عامة يدرك كاتب تلك السطور أن سؤال الأصالة هيمن على الحياة الثقافية المصرية منذ ما لا يقل عن قرن من الزمان، وأنه لا يجوز أن نرفض كل الإجابات والمشروعات التى طرحت أو أن ننكر قيمة بعضها، إلا أنه آن الأوان لرصد حصاد تلك الإشكالية، وإدراك منافعها ومخاطرها، الإيجابية الكبرى هى بناء ثقافة مصرية تجمع بين الأصالة والمعاصرة، السلبيات الكبرى هى توظيف هذا السؤال للإقصاء والطرد والتكفير وتبادل الاتهامات، القوى المدنية تعتقد أن الإسلام السياسى تيار وافد غريب على التربة المصرية والقوى الإسلامية ترد التحية بأحسن منها (ويشاركها فى ذلك عدد معتبر من الباحثين الغربيين)، والصحيح طبعا أن التيارين متجذران فى المجتمع المصرى، ولن يختفيا، سؤال الأصالة أثرى الثقافة المصرية من ناحية، وأفقرها من ناحية أخرى، وأزعم أن ضرره صار أكبر من نفعه، انتصر فى المعركة الكبرى، وسيخوض حتما معارك أخرى ضد العولمة، إلا أننى أخشى حاجته الماسة إلى أعداء أغلبهم وهمى، وأكره توظيفه فى الصراعات الداخلية، التى قد ترتقى بسببه إلى درجة الفتنة. أجمل هنا حيث لا يجوز الإجمال، سؤال الهوية سؤال مشروع، الهوية الوطنية مفهوم يصمد أمام نقد علماء السياسة والمؤرخين وبعض الفلاسفة، وله مضمون موضوعى لا يخضع للأهواء إلا فى نطاق ضيق، ما ينهار عند الاختبار الصارم هو ما يبنى عليه، وتحويله إلى صنم يمنع ويأمر، وتعريفه الأحادى الرافض تنوع مصادر وتجليات تلك الهوية وللحديث بقية.