قلنا إن تأثير أعمال المستشار طارق البشرى كبير، ويبدو جليا فى أبحاث المتخصصين فى شؤون الحركات الإسلامية، وإن لم يقتصر عليهم، وأضيف أن المهتمين بأوضاع الأقباط وبالعلاقات بينهم والمسلمين وجدوا فى دراسته الرائدة كنزا من المعلومات الموثقة، وبعضهم تبنى مقولاته الرئيسية، وأكثرهم وظَّف المعلومات الواردة فى هذا الكتاب لخدمة تأويلات وقراءات مختلفة، وأذكر أن باحثين مشهورين طلبا منى (كل على حدة) ترجمة الفصول الأخيرة لكتابه «المسلمون والأقباط». أولهما تخصص فى الذود عن الحركات الإسلامية ظالمة أم مظلومة، والآخر فى الهجوم الضارى عليها وعلى رفاق دربها. نعود إلى تأثير البشرى فى خبراء شؤون الإسلام السياسى. أسهم طارق البشرى فى ترسيخ المقاربات التى ترى فى الهوية والدفاع عنها محركا رئيسيا للتاريخ المصرى المعاصر، وفى مراجعة الأفكار التى تسفه الإسلام السياسى وفى صياغة مقولات ترفض هذا التسفيه. حرص المستشار دائما على إبقاء مسافة بينه وبين القوى المتبنية مشروعا إسلاميا بديلا عن الحضارة الغربية، فكان كثير النقد لها، لأنه كان مدركا قوة وإنجازات النموذج الغربى، والفقر الفكرى الشديد للحركات الإسلامية، وأحسب أنه رأى فى هذا الفقر الفكرى مكونا عارضا طارئا وليس سمة رئيسية، وقدر أنه يشكل خطرا جسيما على المشروع الإسلامى، وسعى سعيا حثيثا لمصالحة تاريخية بين تلك القوى ومفهوم المواطنة، ونجح فى تأصيل هذا المفهوم تأصيلا فكريا أقنع قامة مثل المرحوم الشيخ محمد الغزالى، إلا أنه من الجلى الواضح أنه لم ينجح فى تغيير نظرة الإسلاميين إلى الآخر، كما أنه لم ينجح فى إقناعهم بشرعية الوافد، المكتسبة فى مراحل التحرر الوطنى والنضال من أجل الاستقلال والتقدم. لا أريد الخوض فى تفاصيل مقولات البشرى، ما لها وما عليها، ما يهمنى هنا هو كيف تم إدماجها فى الخطاب الأكاديمى الغربى، أهم نقطة فى تقديرى هو تبنى الكثيرين تبسيطا مشوها لقراءاته التاريخية، فقيل على سبيل المثال إن تاريخ التحرر الوطنى مر بثلاث مراحل: مرحلة السعى للاستقلال السياسى وإقامة الدولة الدستورية الحديثة (عصر الوفد)، ومرحلة السعى للاستقلال الاقتصادى ولإنهاء التبعية الاقتصادية ولتحقيق عدالة اجتماعية تقضى على ثلاثية الجهل والفقر والمرض، وهى مرحلة ناصر، الذى أدرك أن الاستقلال السياسى يبقى شعارا دون مضمون، إن لم تصاحبه القدرة على مقاومة الضغوط الاقتصادية، وإن ظل الرأسمال الأجنبى قادرا على التحكم فى الاقتصاد الوطنى، والمرحلة الثالثة هى مرحلة الإسلاميين، الساعين وفق هذا المنظور إلى تتويج الاستقلالين السياسى والاقتصادى باستقلال ثقافى تام، وإلى شق طريق إلى الرقى لا يمر بالعواصم والمرجعيات الفكرية الغربية. الإسلاميون «يدركون» استحالة تحقيق أى استقلال اقتصادى طالما ارتبطت الفئات والطبقات المؤثرة ارتباطا ثقافيا عضويا بالغرب، ويعبرون عن رفض شعبى هائل لقمع الأنظمة، التى لا تستطيع أن تصمد دون توحش بالغ فى الاستبداد، ويضيف البعض أن الطلاق البائن بين الأنظمة والشعوب يرجع إلى تمسك النخب بالتغريب ودفاع الشعوب عن أصالة يجسدها الإسلاميون، وبمعنى آخر يرى هذا البعض أن أى مشروع نهضوى (باستثناء الإسلام السياسى) هو مشروع تغريبى، وأن أى مشروع تغريبى هو مشروع قمعى بالضرورة. ويخطو البعض خطوة إضافية على هذا الطريق ليقول بمنطق يحسد عليه إن أى مقاوم للاستبداد متبنٍ للديمقراطية بالضرورة. علينا أن نؤكد أن المستشار البشرى لم يقل هذا أبدا، هذا التأويل التافه تأويل غربى مستمد من قراءة سطحية لمقولاته، وعيوب هذا التحليل الشائع تعد ولا تحصى، فهو يتناسى أن الإسلام السياسى أقدم من الناصرية، ويفترض من عندياته تراتبية، تجعل من مشروع الإسلاميين أسمى مراحل النضج الثورى والإصلاحى والوعى التاريخى، بينما الدقة تقتضى أن نقول إن هناك على الأقل ثلاثة مشاريع للاستقلال، بينها اختلافات جذرية، مشاريع يجمعها العجز عن الاستفادة من إيجابيات المشروعات الأخرى، ويحكمها إشكاليات متناحرة من الصعب التوفيق بينها.. وللحديث بقية.