قبل حملة بونابرت علي مصر1213 ه1798 م كانت بلادنا ومعها الشرق الإسلامي تعاني من التخلف الموروث عن العصور المملوكية العثمانية.. وكانت تتلمس النهوض من قيود هذا التخلف الموروث. فلما جاءت الحملة الفرنسية كانت البداية لتحدي الهيمنة الغربية العسكرية.. والاقتصادية.. والفكرية.. التحدي الذي لا يقف عند احتلال الأرض ونهب الثروات, وإنما يسعي لاحتلال العقل وتغريب الوجدان, لتأييد وتأبيد احتلال الأرض ونهب الثروات.. ومع تزايد تأثيرات هذه الهيمنة الغربية عبر القرنين التاسع عشر والعشرين قرني هيمنة الامبريالية الغربية علي عالم الإسلام عملت هذه الهيمنة علي إجهاض بوادر التجديد التي سبقت الحملة الفرنسية, وعلي حراسة تخلفنا الموروث لتتمدد في فراغه فكرية التغريب والاستلاب الحضاري الغربي, فوقع الشرق الإسلامي في المأزق الحضاري الذي تمثل في تحديات جناحي التخلف الموروث والهيمنة الغربية. لكن العقل الإسلامي لم يستسلم أمام هذه التحديات.. بل كان أمينا علي خصصية الحضارة الإسلامية التي بنت أمجادها التاريخية في مواجهة التحديات.. فكان أن قاوم هذا العقل الاسلامي تحديات التخلف الموروث والهيمنة الغربية بالإبداعات الفكرية التي مثلت معالم النهضة الإسلامية المنشودة, تلك التي تتطلع إلي طي صفحة التخلف الموروث مع بعث ثوابت الاعتقاد الاسلامي ومعالم الشريعة الإسلامية وروح الحضارة الاسلامية, كما اجتهد هذا العقل الاسلامي في التمييز بين ما هو مشترك انساني في الوافد الغربي وبين ما هو خصوصية غربية تحاول مسخ هويتنا الحضارية وتشويهها. ولقد تمثل فكر النهضة هذا في العديد من الإبداعات الفكرية العربية والاسلامية, التي أبدعها أعلام العرب والمسلمين علي امتداد القرنين التاسع عشر والعشرين.. هذه الإبداعات التي ظل بعضها حبيس الأدراج, أو محدود الانتشار, أو متفرقا لا يمثل مشروعا نهضويا متكاملا, إلي ان نهضت مكتبة الاسكندرية بجمع هذا التراث النهضوي وتحقيقه ودراسته وتقديمه في صورة فريدة لم يسبق أن قامت بها مؤسسة من مؤسسات الفكر والنشر في عالم الإسلام. ولقد شاء الله أن يواكب هذا المشروع لنشر الفكر النهضوي قيام ثورات الربيع العربي التي تفجرت خلال عام2011 م. وهي الثورات التي فتحت باب النهضة الحضارية أمام الشرق الإسلامي ليتجاوز المأزق الحضاري الذي عاشته الأمة لعدة قرون, حتي لكأن نشر هذا التراث النهضوي الذي مثل ويمثل معالم طريق النهضة قد كان الإرهاص لثورات هذا الربيع النهضوي وجدول الأعمال الذي يمثل دليل العمل لأمتنا علي طريق التقدم والنهوض والانعتاق. لقد وصف السيناتور الأمريكي جون ماكين إبان زيارته القاهرة في20 فبراير2012 ثورة25 يناير2011 م في مصر بأنها الحدث الأهم في الشرق منذ انهيار الامبراطورية العثمانية.. وان التغييرات التي ستشهدها مصر في المرحلة القادمة هي التي سترسم مستقبل المنطقة كلها.. وأن ثورات الربيع العربي التي أذهلت العالم بأكمله قد تحولت الي مصدر إلهام للعالم كله.. وان هذا الحدث سيؤثر علي العالم بأسره. فماذا تعني هذه الكلمات المدروسة بعمق, والمختارة بدقة وعناية؟.. إنها تعني أن ثورات الربيع العربي وخاصة في مصر قد فتحت أبواب النهضة الإسلامية التي أوصدها الغرب الاستعماري عندما أسقط الخلافة العثمانية, وكسر الوعاء الجامع والرمز المعبر عن الهوية الإسلامية لأول مرة منذ أربعة عشر قرنا.. وأن استبعاد المرجعية الاسلامية كخيار شرقي للنهضة الذي نجح فيه الغرب الاستعماري في عشرينيات القرن العشرين قد بدأت موجته في التراجع والانحسار وأن خيار النهضة الإسلامية قد فتحت أمامه الأبواب من جديد. وعلي غرار رؤية السيناتور الأمريكي جون ماكين جاءت تصريحات رموز الكيان الصهيوني التي قالت: إن نجاح ثورات الربيع العربي في الامتداد الي دول المشرق العربي إنما يعني قيام بحيرة إسلامية تغرق فيها اسرائيل! إذن نحن نعيش لحظات تاريخية, تمثل بدايات نهضة عربية إسلامية, وليس مجرد ثورة لتغيير نظام فاسد في نطاق قطري وجغرافي محدود كما يظن الذين لا يفقهون. وفي ضوء هذه الأبعاد للأحداث الثورية التي تعيشها أمتنا, نبصر معني هذا المشروع العملاق الذي تفردت بإنجازه مكتبة الاسكندرية... مشروع اختيار ما يمكن ان نسميه موسوعة الفكر النهضوي التي أبدعها العقل العربي المسلم علي امتداد القرنين الماضيين, والتي حوت معالم النهضة الحضارية التي تغالب لتغلب المأزق الحضاري المتمثل في جناحي التخلف الموروث وهيمنة الغزو الفكري الغربي. ففي هذا المشروع تقدم مكتبة الاسكندرية( دفاع عن الشرعية) للعلامة المغربي علال الفاسي1328 1394 ه و1910 1974 م الذي كان قائدا في معركة الاستقلال السياسي والاستقلال الحضاري معا.. كما تقدم( مقاصد الشريعة) للعلامة التونسي محمد الطاهر بن عاشور1296 1393 ه1891 1973 م الذي قاد تيار الإحياء والتجديد في تونس البلد الذي انطلقت منه شرارة ثورات الربيع العربي.. كما تقدم مكتبة الاسكندرية( طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد) للعلامة الشهيد عبد الرحمن الكواكبي1270 1320 ه1854 1903 م الذي فتح عقول الأمة علي مكامن الداء, ورسم لها طريق تحطيم القيود, حتي تعي ان إسلامها قد جاء ليضع عن الناس إصرهم والأغلال التي كانت عليهم, وأن الحرية هي الحياة, وأن الاستبداد والعبودية هي الموت, وإذا كان التخلف قرين الجمود والتقليد, وإذا كان التقدم والنهوض مشروطين بالتجديد فإن مكتبة الاسكندرية تقدم للعلامة محمد إقبال1293 1357 ه1877 1938 م كتابه الفذ( تجديد الفكر الديني في الإسلام). وفي مواجهة الذين يريدون تحويل التدين الي أشكال وطقوس خالية من الروح, تقدم مكتبة الاسكندرية في مشروع كتب النهضة للعلامة المجاهد الشيخ عبد العزيز جاويش1293 1347ه1876 1929 م رائعته( الاسلام دين الفطرة والحرية).. وإذا كانت النهضة التي فتحت ثورات الربيع العربي نافذتها أمام الأمة إنما تعني أول ما تعني العودة إلي الذات الحضارية للأمة فإن كتاب( علي شريعتي)1352 1397 ه1933 1977 م( العودة إلي الذات) إنما يقدم دلالة ذات مغزي في هذا المقام. وحتي لا تكون نهضتنا الإسلامية تقليدا للفلسفات الوضعية والمادية والغربية, وحتي يتم البعث لذاتنا الفلسفية الإسلامية ولعقلانيتنا المؤمنة, يقدم مشروع مكتبة الاسكندرية للعلامة الشيخ مصطفي عبد الرازق كتابه الفذ( تمهيد لتاريخ الفلسفة الإسلامي).. وإذا كان رفاعة رافع الطهطاوي1216 1290 ه1801 1873 م قد ارتاد ميادين التنوير لشعوب الشرق في العصر الحديث, فإن كتابه( مناهج الألباب المصرية ومباهج الآداب العصرية) إنما يمثل معلما ذا دلالة في هذا المشروع. تلك أمثلة مجرد أمثلة لموسوعة فكر النهضة التي تقدم عشرات الكتب التي تمثل معالم علي طريق النهضة العربية الإسلامية.. والتي حظيت بعد التحقيق والتعليم بالدراسات العلمية التي مهدت للقارئ المعاصر طريق التعامل السلس مع نصوص الأعمال الفكرية لهذا المشروع. ويزيد من أهمية هذا الانجاز الرائع لمكتبة الاسكندرية شبكة الباحثين المتميزين والممتازين الذين قاموا ويقومون علي تقديم هذا المشروع.. والذين يمثلون مختلف أقطار عالم الإسلام وقومياته.. فكتب هذا المشروع هي ثمرات ناضجة لعقل الأمة الإسلامية وإبداعات علمائها, والباحثون الذين نهضوا بالدراسات العصرية لهذه الثمرات إنما يمثلون هم الآخرون كل قوميات جامعة الإسلام. وبهذا المشروع تبوأت مكتبة الاسكندرية مكانتها الطبيعية,, مكانة المنارة التي لا تقف فقط عند تعريف الشرق بثمرات الفكر الغربي وإنما تقدم كذلك أفضل ما لدي الشرق الإسلامي.. تقدمه لأمتنا أولا.. وللعالم من حولنا ثانيا, لتجسد المعني الحقيقي لدورها ورسالتها في التفاعل الخلاق بين الثقافات والحضارات. إنه مشروع معالم النهضة الإسلامية تقدمه مكتبة الاسكندرية لثورات الربيع العربي التي فتحت نافذة النهضة الحضارية العربية الإسلامية في مناخ عالمي سقطت فيه الشيوعية سنة1991 م ودخلت فيه الليبرالية والرأسمالية المتوحشة التي حسبوها نهاية التاريخ: نفقا مظلما لن تخرج منه سالمة أبدا.. الأمر الذي جعل ويجعل خيار الاسلام في النهضة ونموذجه في التقدم متفردا بالصلاحية للتألق, ولإعادة الشرق الإسلامي إلي مكان الريادة والقيادة بين الأمم والحضارات من جديد. المزيد من مقالات د. محمد عمارة