في عشرينيات القرن ال19 ظهرت المحاولات الفوتوغرافية الأولى، وكانت بدائية، وتتطلب ثماني ساعات لالتقاط المنظر، قبل أن تظهر أول صور مكتملة عام 1839، التي أصابت الفنانين بالرعب من أن يتم الاستغناء عن خدماتهم بسبب تلك التقنية التي استطاعت صنع لقطات أكثر واقعية ودقة من أعمالهم، وخلال ثوان. الآن وفيما تلامس رحلة الفوتوغرافيا نحو 200 سنة، لم ينته دور الفنانين، بل انفتحت أمامهم مسارات جديدة، بفضل التطورات المتلاحقة للفوتوغرافيا، التي تحولت هى الأخرى من حرفة ميكانيكية إلى فن، له اتجاهاته، وأيقوناته، وفنانوه. ◄ الصور الأولى كانت تتطلب ثماني ساعات لالتقاطها ◄ حداثة اللوحة الفنية مدينة للصورة الفوتوغرافية ◄ كيف فتحت الفوتوغرافيا الباب أمام الانطباعية والواقعية؟ ◄ الذكاء الاصطناعي يدفعنا لاكتشاف مفاهيم وتقنيات وجماليات جديدة ■ التصوير الفوتوغرافي في أعمال البوب آرت في رواية الخيال العلمي المبكرة «جيفانتي» التي صدرت عام 1760 للكاتب الفرنسي «تيفاجين دى لاروش» تصور الكاتب مادة لزجة يطلى بها سطح القماش، لتعكس صور الأشخاص مثل المرايا. وبعد تركها فى غرف مظلمة لتجف، تبقى محتفظة بتلك الصور التى تطابق الأصل. هذا الخيال تحقق بالفعل بعد عقود، من خلال أول صور فوتوغرافية التقطها «نيكفور نيبس» عام 1826، وكانت تحتاج إلى ثمانى ساعات لالتقاط الصورة الواحدة، قبل أن يطورها بشكل حاسم «لويس داجيرو» عام 1839 بتقنية حملت اسمه، وكانت تتطلب تعريض ألواح نحاسية مطلية بأملاح الفضة للضوء لعدة دقائق فقط. وقد حصل كلاهما على براءة اختراع ومعاش مدى الحياة تقديرا لجهودهما فى تطوير الفوتوغرافيا التى ستغير العالم. ■ الحياة العادية في صورة 1855 ◄ تطور سريع تطورت الفوتوغرافيا سريعا، من حيث التقنيات التى استهدفت مزيدا من الدقة والسرعة والوضوح، بالإضافة لتسهيل العملية وتقليل تكلفتها، وأيضا محاولات التلوين التى حققت نتائج معقولة فى وقت قياسى خلال القرن التاسع عشر. وبالتوازى مع إنجازات «داجيرو» فى باريس، نشر الإنجليزى «ويليام هنرى فوكس تالبوت» عن تقنية تصوير فوتوغرافى خاصة به فى كتاب بعنوان «تقارير عن فن الرسم الفوتوغرافى»، وكانت تعتمد على ورق معالج بكلوريد الصوديوم ونترات الفضة. وبعد عامين قدم تحسينًا جديدا ضاعف من حساسية التصوير وخفض وقت التعرض اللازم إلى ثوانٍ معدودة. واستطاع «جون آدامز ويبل» التقاط صور للقمر عام 1850، باستخدام تلسكوب مرصد جامعة «هارفارد»، مدشنا عصر التصوير الفلكي. أما التصوير الصحفى، فرسخ مكانته عام 1863، عندما وصل «فيليس بياتو»، أحد أوائل المصورين الصحفيين والمراسليين العسكريين إلى يوكوهاما فى اليابان، لتصوير الحرب هناك. وفى عام 1885 استخدمت الفوتوغرافيا لتحديد هوية المجرمين، على يد عالم الإجرام والأنثروبولوجيا الفرنسى «ألفونس بيرتيلون». ■ بورتريه شخصي للفنان مان راي أما تحول التصوير لعملية سهلة ومتاحة للجميع فبدأ عام 1888، مع تسويق «جورج إيستمان» لكاميرا كوداك رقم 1 تحت شعار «أنت تضغط على الزر، ونحن نقوم بالباقى». ومع بدايات القرن العشرين قدمت شركته كاميرا «براوني» بسعر دولار واحد، ما جعل التصوير الفوتوغرافى للهواة أكثر انتشارًا وسهولة. وفى عام 1903، أحدث اختراع الطائرة على يد الأخوين «رايت» ثورة بتدشين التصوير الجوي، الذى أتاح رؤية العالم من منظور جديد. ورغم وجود عدة تقنيات للتلوين خلال القرن التاسع عشر فإن الصور الملونة لم تصبح متاحة وشائعة إلا عام 1907، عندما قدم الأخوان «لوميير» عملية تلوين «الأوتوكروم» فى فرنسا. وسرعان ما تحولت الفوتوغرافيا لفن قائم بذاته، حتى أنه فى عام 1924، تم تقديم التصوير الفوتوغرافي السريالي ضمن منشور «أندريه بريتون» «بيان السريالية». وخلال العقود التالية ترسخت مكانة الفوتوغرافيا كفن، قبل أن يبدأ عصر التصوير الرقمى وتقنياته الفنية، كما أنه جعل التقاطا الصور نشاطا يوميا لمليارات البشر حول العالم. كذلك كان اختراع الفوتوغرافيا الأساس الذى قامت عليه كاميرات وآلات العرض السينمائى، التى اعتمدت على لقطات متتالية سريعة، تزيد على 20 لقطة فى الثانية، وينتج عرضها متتالية الشعور بالحركة. ■ عائلة في حديقتهم لإدوارد مانيه لوحة انطباعية تأثرت بالفوتوغرافيا ◄ أبوب الحداثة كانت فنون الرسم قد تطورت منذ عصر النهضة بصورة غير مسبوقة، على يد عدد من العباقرة من أمثال دافينشى ومايكل أنجلو ورفاييل، وأصبح بمقدور الفنانين رسم المناظر والأشخاص ببراعة تضاهى الواقع من خلال فهمهم لهندسة المنظور، وعلوم التشريح، وتقنيات التلوين، وتأثيرات الضوء. وكانت البراعة فى جعل اللوحة تطابق الواقع هى معيار عبقرية الفنان. لكن ظهور الفوتوغرافيا أطاح بقيمة هذه البراعة، حتى أن البعض توقع أنهم يعيشون الفصل الأخير من تاريخ الفن. غير أن ما حدث كان على العكس تماما. سبّب ظهور الفوتوغرافيا الحيرة أولا. وفى حين تجاهلها بعضهم، اهتم آخرون، وحاولوا البحث عن طريق يؤكد بصمة الإنسان. وسعى فريق إلى الاستفادة من التقنية الجديدة. بدأ ظهور مدارس وأساليب كالانطباعية التى ركزت على تأثير الضوء والطقس على الألوان، وجعلها تتبدل كل لحظة، بخلاف بالتة الألوان المثالية التى كان الفنانون يستخدمونها من قبل. واستطاع الفنانون أن يلتفتوا إلى حقيقة أن المنظر الواحد يتغير عدة مرات على مدار اليوم بتغير الضوء. واحتاجوا إلى تنفيذ ذلك بسرعة كبيرة، لالتقاط اللحظة. وساعدهم على ذلك اختراع أنابيب الألوان الجاهزة الصغيرة والمحمولة. وقد فعلوا ذلك بضربات فرشاة واضحة، إذ لم يعد الصقل الذى يسعى لمحاكاة الواقع ذا أهمية. وهنا انفتح الباب أمام رؤية الألوان من منظور الانطباع البشري، حيث لوحظ مثلًا أنها تكاد تتلاشى عند الظهيرة فى الصيف، ويسيطر الأبيض والأسود، بتباينات حادة للظل والنور، بخلاف ما تبدو عليه فى الإضاءة غير المباشرة. ولجأ البعض للاهتمام بإضافة ملمس للوحة ك»إدجار ديجا»، و»كلود مونيه». ■ كاميرا محمولة مبكرة ترجع إلى عام 1866 وبينما كان الفنان الواقعى الفرنسي «جوستاف كوربيه» (1819-1877)، من أوائل الذين استخدموا الصور الفوتوغرافية كنماذج لأعمالهم الفنية، كما فى لوحته «دفن فى أورنان» (1849-1850) حيث ظهر تأثير الفوتوغرافيا فى تصوير التفاصيل الواقعية، اعتمد الانطباعيان «كلود مونيه» (1840-1926)، و»بيير أوجست رينوار» (1841-1919) على الاستفادة من الفوتوغرافيا فى دراسة الضوء واللون، كما يظهر فى أعمال مثل «الزنابق المائية» لمونيه. ◄ اقرأ أيضًا | أحدهم حبسوه لرفضه تنفيذ لوحة دون عربون.. مفارقات التاريخ في حكايات «رسامي البلاط» ■ لوحة دفن في أورنان لجوستاف كوربييه متأثرة بالفوتوغرافية ◄ من الواقعية للرقمية بعد استيعاب المفاهيم الجديدة للإبداع الفني، تأمل بعض الفنانين الصور الفوتوغرافية، ووجدوا فيها فرصة لإعادة رؤية الواقع من منظور تلك الآلة العجيبة. وسمح لهم ذلك بالخروج عن الطرق المتكلفة والمثالية فى تكوين صورهم، وانتبهوا لجماليات اللحظات العابرة والعفوية، والمناظر البسيطة والأشخاص العاديين، ما غيّر منظور الفن التشكيلى بشكل حاسم. وظهرت حساسية جديدة، وموضوعات للرسم لم تكن لتخطر على البال عندما كانت اللوحات تصور الموضوعات الدينية أو الأوضاع المتكلفة للملوك والأميرات منذ عصر النهضة، فضلا عن الوضعيات الممسرحة لحقبة الباروك. ■ من أعمال السيريالي مان راي الفوتوغرافية ومن جانب آخر ومع بدايات القرن العشرين، كان الفن قد تغيّر كليًا، حتى أن الفنانين الذين كانوا لا يزالون يرسمون بالطريقة الكلاسيكية والأكاديمية صاروا محل استهجان وتشكك، لإصرارهم على القيام بأشياء يمكن للكاميرا أن تقوم بها بدقة أكبر وفى لحظات. وهكذا تغيرت معايير الجمال، وأعاد الفن اكتشاف نفسه من خلال المدارس الحداثية، فاتجه التعبيريون للبعد النفسى على حساب الشكل، واتجه السيرياليون لرسم عوالم اللاوعى والأحلام، وقام التكعيبيون بتفكيك المنظور كلية، وحلق آخرون فى عالم تجريدى. وبقيت الفوتوغرافيا حاضرة فى إلهام العديد من الحركات الجديدة، وصارت هى أيضا فنا، كما دخلت ضمن أساليب مزجت بين الرسم والتصوير الفوتوغرافى والطباعة والكولاج ضمن حركة البوب آرت فى الستينيات. وفي العشرينيات من القرن الماضي، استفادت الحركة الدادئية من الفوتوغرافيا بشكل كبير. وصعد نجم الفوتوغرافيا السيريالية على يد «مان راي» (1890-1976) وآخرين، كما استخدمت التقنيات الفوتوغرافية بدون كاميرا. ومع ظهور الفوتوغرافيا الرقمية، شهد الفن التشكيلي تحولاً كبيرًا، مثّله فنانون مثل «سيندى شيرمان» (1954-) و»جيف وول» (1946-)، حيث عبرت أعمالهما عن قضايا معاصرة، بطرق مبتكرة. ■ من أعمال جوستاف كوربييه التي استفادت من الفوتوغرافيا ولم تكن الفوتوغرافيا مجرد وسيلة جديدة للتوثيق، بل ثورة فنية غيّرت كيفية رؤية الفنانين للعالم. ومن الواقعية إلى الانطباعية، مرورًا بالسريالية والدادية، وصولاً إلى الفوتوغرافيا الرقمية، كانت الفوتوغرافيا دائمًا قوة دافعة فى تطوير الفن التشكيلي. اليوم يسود رعب مماثل من قبل المبدعين فى كل مجالات الفنون، مع التطور اليومى فى تقنيات وأدوات الذكاء الاصطناعى، والذى صار قادرا على الرسم والتصميم وتأليف الموسيقى وكتابة الأدب. وهى على الأغلب رسالة جديدة. فكما كانت رسالة الفوتوغرافيا قبل نحو قرنين مفادها أن تصوير الواقع كما هو لا يجب أن يكون هاجس الفن، فلا شك أن الذكاء الاصطناعى يشير لنا كى نتحرك للأمام، وأن نبحث عن أرض جديدة، ونعيد اكتشاف مفاهيم وتقنيات وجماليات غير التى نعرفها. وهو تحد جديد أمام البشرية التى لم تستسلم قط أمام تطور التقنيات. وستكشف السنوات القادمة مدى قدرتنا على فتح آفاق وعى مختلف، ومساحات غير مسبوقة، يمكن للإنسان أن يفتحها، ليضع عليها بصماته وتوقيعه.