الطفرة التى أحدثها الفن في عصر النهضة، جعلت البعض يعتقدون أن رحلة تطوير الأساليب والتقنيات الفنية قد وصلت إلى نهايتها، على يد العباقرة الكبار من أمثال «دافينشى ومايكل أنجلو»، غير أن الحركات والمدارس الفنية الجديدة لم تتوقف، حتى أنه فى منتصف القرن 19، ظهرت فى إنجلترا حركة حملت اسم «أخوية ما قبل الرفائيلية»، منتقدة معايير الكمال القياسية المنسوبة ل«رفاييل»، آخر عنقود الكبار في عصر النهضة، ورأت فيها سببا لاضمحلال الفن، وعملوا على استعادة رونقه السابق. ◄ عوامل متداخلة أنتجت تيارات فنية جديدة ◄ عصر النهضة قام على سياسات السلام وازدهار التجارة ■ الفنان جاكسون بولوك يعمل في مرسمه عام 1949 واصل الفنانون ابتداع الأساليب الجديدة بعد عصر النهضة، حتى أن القرن 19شهد وحده بضع مدارس جديدة، قبل أن يشتعل هوس التجديد فى القرن العشرين الذى لم يمضِ عقد منه دون حركة فنية جديدة أو أكثر، وهو ما كان يستغرق من قبل قرونا، ما جعل المهتمين ومؤرخى الفن يتساءلون عن الأسباب التى تؤدى إلى تغير الأساليب والرؤى الفنية عبر التاريخ. ■ لوحة الغيرة من أعمال إدوارد مونش التعبيرية 1935 ◄ قصة الفن طوال أغلب التاريخ الإنساني عبرت الأساليب الفنية عن الروح الراسخة للثقافات. وبعد الثبات النسبى خلال القرون الوسطى، بزغ فن عصر النهضة مختلفا كليا، قبل أن تتوالى النقلات المتلاحقة. ■ لوحة زيادة الإنتاج للفنان ليوري بيميوف واقعية اشتراكية 1927 ويعتبر كتاب «قصة الفن» للباحث «إى إتش جومبريتش» الذى نشر 1950 أحد الدراسات الرائدة حول أسباب اختلاف الإبداعات الفنية عبر العصور، وتناولها فى 28 فصلا، منها ما يتعلق ببزوغ أسلوب عصر النهضة الذى رجع لعوامل سياسية كالتوقف النسبى للحروب، واقتصادية كتوسع التجارة، وظهور طبقة جديدة، بثقافة مختلفة. كما كان للفلسفة الإنسانية تأثير كبير على طبيعة الفن، والتحول فى صورة الإنسان التى مثلتها جدارية «خلق آدم»، على سقف كنيسة «سيستين» فى روما، معلنة عن تسلمه زمام مسئولياته. كما تأثر بوضوح بالتواصل مع الموروث الكلاسيكى، واعتماد البحث العلمى على يد «ليوناردو دافينشي» وآخرون قاموا بتشريح الجسد البشرى. وساعد إعادة اكتشاف المنظور الخطي على يد المعمارى «فليبو برولينسكى» على بلوغ أسلوب عصر النهضة الكمال. وهو ما لم يمنع من ظهور الأسلوب الباروكى فى القرن 17، مشحونا بالعاطفة، والتعبير الدرامى، ومتأثرا بالفكر الإصلاحى المضاد، الذى اتبعته الكنيسة الكاثوليكية كرد فعل للإصلاح البروتوستانتى. ■ من أعمال جورج براك التكعيبية وحيث خصصت المزيد من الاعتمادات لتزيين الكاتدرائيات والكنائس لتعزيز هيمنتها، فظهر فن الباروك باذخا كما فى تصميم الفنان «جيان لورينزو برنينى» لكرسى القديس بطرس. وسعى فنانون مثل «كرافاجيو» إلى إلهام التقوى من خلال أعمالهم الفنية، ممعنا فى درامية لوحاته، بتأثير روحى عميق حققه بتباينات حادة بين النور والظلال. ولكن سرعان ما تغيرت الأذواق خلال قرن واحد، ليظهر فن «الروكوكو» بنعومته، وحسيته، ومرحه، وبعده عن الجدية. كما جاء متوازنا وعقلانيا معبرا عن فلسفات عصر التنوير. وناسبت رقته أذواق النساء اللائى كن قد ارتقين اجتماعيا، وصرن راعيات للفن. ■ من أعمال كرافاجيو في حقبة الباروك ◄ اقرأ أيضًا | سبب غريب لعدم إكمال دافنشي ل«الموناليزا» ◄ تسارع شهد القرن التاسع عشر تسارعا فى ظهور المدارس الفنية، بتأثير عوامل مختلفة. ويتناول كتاب «تقنية المراقب: عن الرؤية والحداثة فى القرن 19» تأليف «جوناثان كرارى» أحد هذه العوالم باستفاضة، وهو التطورات التكنولوجية والبصرية. ويأتى اختراع التصوير الفوتوغرافى على رأس تلك المؤثرات. فبعد الدور الذى لعبته الطباعة، فى نشر الأعمال الفنية على نطاق واسع، واستحداث تقنيات فن الجرافيك، وجهت الفوتوغرافيا الفنانين نحو مستويات أعمق من التعبير الفنى، بالإضافة لإعادة فهم الواقع عبر منظور العدسة، وإعادة فهم جماليات التكوين، والاهتمام بموضوعات كانت هامشية. وسرعان ما صارت الفوتوغرافيا فنا قائما بذاته، وتفرع عنها فنون أخرى. ■ من أعمال كرافاجيو في حقبة الباروك ووفقا لكتاب «التاريخ الاجتماعى للفن» ل«أرنولد هاوزرز»، فقد أثرت الثورة الصناعية فى ظهور بعض الحركات مثل حركة الفنون والحرف، وأدت الطفرات التكنولوجية إلى ظهور حركات مثل المستقبلية فى القرن العشرين، التى قدمت نفسها كبديل عن كل ما أنتج من فنون الماضى. عكست بعض المدارس الفنية تأثر مبدعيها برؤى فلسفية، وجمالية. ويعرض كتاب «نظرية الفن 1900-2000» للباحثين «تشارلز هاريزون»، و«بول وود» كيف تسارع التغيير فى النظرية الجمالية خلال القرنين التاسع عشر والعشرين، التى نتجت هى الأخرى عن التطورات المتلاحقة على مستوى العلوم والبنية الاقتصادية والأوضاع السياسية. وكمثال على ذلك تأثير فلسفة «إيمانويل كانت» فى ظهور الكلاسيكية الجديدة أواخر القرن الثامن عشر كنتاج للعقلانية، التى أعادت التواصل مع الثقافة اليونانية والرومانية، وأثرت أيضا بظهور الواقعية التى انتهجت تصوير الواقع بعيدا عن الصور المثالية والمتخيلة والدرامية. ■ من أعمال ليوناردو دافينشي في عصر النهضة كما قادت فلسفة «جان جاك روسو» إلى الرومانسية لتركيزها على العاطفة والطبيعة، وتجلى ذلك فى أعمال الكثيرين مثل «فرانشيسكو جويا» و«وليام تيرنر». وعكست الانطباعية تطور فهم العالم على ضوء المعارف العلمية الطبيعية كالضوء وتأثيره، وهو ما ظهر فى أعمال «كلود مونيه»، و«إدوارد مانيه». وخلال القرن العشرين ظهرت السيريالية متأثرة بأفكار «سيجموند فرويد» حول النفس البشرية، وعوالم الأحلام واللاوعى، ما تجلى فى أعمال «سلفادور دالى»، وألهمت الفلسفة التحليلية رواد التكعيبية، وقامت التعبيرية على الفكر الوجودى، منذ إرهاصاته عند «نيتشه» و«كيركيجارد». وعكست أعمال فنانين مثل «مونش» هذه النظرة الفلسفية حول المعاناة الإنسانية. كما ظهر الفن المفاهيمى متأثرا بفلسفة اللغة والتحليل المنطقى. ■ من أعمال وليام تيرنر من الحقبة الرومانسية ◄ أيديولوجيا تناولت كتابات عديدة تأثير الأوضاع السياسية على نشوء اتجاهات فنية، وركز كتاب «الثقافة البصرية والأيديولوجيات الثقافية: حالة الواقعية الاشتراكية» للباحث «ديفيد إليوت» على تأثير الشيوعية على ظهور الواقعية الاجتماعية فى الفن، وتسيدها كأسلوب أوحد، لضمان الوفاء للمثل الاشتراكية، ومبدأ الصراع الطبقى. وجرى تعبئة المبدعين، وقمع وملاحقة الخارجين على الخط المرسوم. كما اتسم الفن بالشعبوية باعتباره نابعا من الشعب وموجها إليه. وبالطبع تحت شعارات براقة مثلما جاء فى رسالة «لينين»: «الفن الحر فى خدمة البروليتاريا». وحيث وصم أى فن خارج السياق بغير الملتزم، والضار. واعتبر الفنانون فى طليعة العمال اليدويين. ومن أبرز فنانى تلك الحقبة فى الاتحاد السوفييتي «ليوري بيمينوف» صاحب لوحة «زيادة الإنتاج» التى يظهر فيها العمال فى مواجهة اللهب، والفنان «إسحق برودسكى» صاحب لوحة «لينين فى سمولنى» التى صورته كخادم متواضع للبروليتاريا بخلفية بسيطة على خلاف قصور القياصرة السابقين. وسمح الشيوعيون ببعض الأعمال المثالية لفنانيهم الموثوقين على سبيل الدعاية، ومنهم الفنان «ألكسندر دينيكا» ولوحته «ستاخانوفيت» التى صورت الروس مبتهجين ويتحركون بفرح، بينما كانوا فى الواقع يعانون عملية تطهير استبدادية تحت حكم «ستالين»، وحرص الشيوعيون على عرض هذه اللوحة ومثيلاتها فى الخارج. ■ من الفن الرقمي ◄ اقتصاد كان الاقتصاد على مر العصور أحد أهم محركات الفن، سواء من خلال الفوائض التى سمحت بإنشاءات طموحة ومزخرفة، أو دعم الفنانين، واقتناء أعمالهم. وتأثر الفن بطبيعة الطبقات الممكنة اقتصاديا، وأذواقها. وكما كان الاقتصاد حاسما فى ظهور فنون عصر النهضة فكذلك حدث تحول كبير مع عصر الصناعة، الذى رسخ طبقة برجوازية، وطبقة عاملة واسعة منذ القرن التاسع عشر، أفرزت الواقعية التى صورت حياة البسطاء. ومن أبرز أعمال تلك الحقبة رسوم الفنان «جوستاف كوربييه» كلوحته الشهيرة «مدافن فى أرونان». كما أدت الرأسمالية وتوسع المدن إلى صعود الفن الحداثى كالتكعيبية التى تطورت على أيدى «جورج براك» و«بابلو بيكاسو»، وازدهرت التجريدية فى أعقاب الحرب العالمية الثانية، وبلغت مداها فى الولاياتالمتحدة فى أعمال «جاكسون بولوك»، تعبيرا عن الحرية الإبداعية المطلقة، فى وقت ازدهرت فيه الأسواق الفنية، وصار بإمكانها الترويج لمثل هذا النوع من الأعمال. كما أدى الاقتصاد التكنولوجى لاحقا إلى ازدهار الفن الرقمى. ■ من الفن المفاهيمي ◄ حداثة يتناول كتاب «الفن منذ عام 1900: الحداثة، معاداة الحداثة، وما بعد الحداثة» الصادر عام 2012 لخمسة مؤلفين، السياقات المعقدة التى أنتجت الفنون منذ بدايات القرن التاسع عشر إلى مطلع الألفية الثالثة، فى 120 مقالا يتناول كلٌ منها حدثا مؤثرا، أو عملا فنيا حاسما، أو معرضا كبيرا، ومن خلالها يعيد صياغة قصة الفن. ومنها مقال عن حركة «دى ستايل» وآخر عن استخدام العارضات والآلات فى حركة الدادئية، وثالث عن التصميم الجرافيكى بين الحربين، وغيرها. ولا يمكن أيضا إغفال دور الصحافة والإعلام فى تعزيز شعبية بعض التيارات كالسيريالية والتكعيبية والترويج لفنانين وأساليب. كما ساهم فى نشوء الثقافة الشعبية التى تبنتها حركة «البوب آرت» فى الستينيات. وخلال العقود الأخيرة ساهم الإعلام الرقمى فى دعم فنون الهامش والفنون البديلة كفن الشارع والجرافيتى والفنون التجريبية، كما حول الفن إلى سلعة تجارية.