وكأننا أفقنا ذات صباح لنكتشف أن هناك ما يُسمى تحرش جنسى، حقا؟ إن هذه الصدمة التى بالغ جميع الأطراف فى إظهارها تجاه مسألة التحرش تدل على عدم المعرفة الفعلية بالمجتمع، وهو أمر غير مُبشر، أو ادعاء عدم المعرفة، وهو أسوأ. ولا يُمكن أن أغفر سوى لأجيال جديدة لا تزال دون العشرين من العمر أو فوقها بقليل. وعندما أقول «كل الأطراف» فإننى أضع على رأسها الإعلاميات والإعلاميين المخضرمين، والصحفيين ذوى الخبرة، فلا أعتقد أنهم لم يعاصروا قصة اغتصاب فتاة المعادى التى كانت بصحبة خطيبها، وهى الواقعة التى تحولت إلى فيلم قامت ببطولته ليلى علوى. لنقل إنه لم يكن تحرشا. ألم يعاصروا واقعة ما يُسمى فتاة العتبة عام 1993؟ تلك الفتاة التى انتهك عرضها فى أوتوبيس نقل عام فى عز ظهر شهر رمضان، وكانت بصحبة والدتها وأخيها. انطلقت هجمة وسائل الإعلام على الفتاة، نعم الفتاة وليس الجناة، وكان السؤال الرئيسى حينها ما إذا كانت ملابسها قد دفعت بهؤلاء الشباب إلى ارتكاب تلك الجريمة (طبعا لم يستخدم أحد فى ذاك الوقت كلمة جريمة). وبدا أن ذاك هو الحل الأسهل، ولكن المسألة ازدادت صعوبة عندما اكتشف هؤلاء المتشدقون أن الفتاة كانت ترتدى الحجاب. تكلم خبراء علم الاجتماع وعلم النفس (وكثير منهم كان نساء) وبشكل ما، تحولت إلى جانية، ومسؤولة عن سلوك الجناة، وتم تسييد خطاب أخلاقى متشدد مفاده أن ملابس النساء تدفع الشباب إلى الإتيان بتلك الجرائم. وما زاد الطين بلة، أن مناقشة الجريمة -تسميتى- رسخت التحرش بوصفه فعلا يُشين المرأة، وعليه فالحديث عنه يُسبب «فضيحة»، ولذلك كان إصدار قانون ضد التحرش يدخل فى الأحلام. وبالفعل التزم المجتمع الصمت الكامل حيال وقائع تحرش تقع كل يوم، رغم أن صفحة الحوادث فى الصحف الرسمية كانت تطالعنا يوميا بعنوان درامى من قبيل «ثلاث ذئاب بشرية....». لكن الأمر تطور بعد ذلك بسنوات كثيرة، أى بعد ظهور التكنولوجيا التى فضحت الكثير المختفى والمسكوت عنه. ففى عام 2005 تم التحرش بالصحفية نوال على -رحمة الله عليها- وتم تصوير الواقعة بكاميرا المحمول، وربما تذكرون جميعا هذه الواقعة، لكن بالتأكيد لا تتذكروا الهجوم الرهيب الذى نالته هذه السيدة، والشتائم، والتشكيك، حتى إن البعض اتهمها أنها فعلت ذلك بنفسها. وتوالت حوادث التحرش، حتى أصبح الاحتفال بالأعياد مرادفا للتحرش. وتطور الأمر كثيرا منذ اندلاع الثورة، ولم يرد أحد أن يثير المسألة، حتى تحول التحرش إلى سياسة ممنهجة فى أغلب الأحيان، لماذا إذن تتصرفون وكأن التحرش واقعة تحدث لأول مرة؟ عليكم بالدخول على موقع جمعية «نظرة للدراسات النسوية» لقراءة شهادات الفتيات اللاتى تم التحرش بهن فى ميدان التحرير والمنطقة المحيطة به على مدى الأعوام الثلاثة ونصف العام الماضية. التحرش يقع، التحرش موجود، التحرش محتمل فى أى لحظة، بل هو محتمل حتى هذه اللحظة. أى لحظة صدور قانون وتحرك مؤسسى للمواجهة. الاختلاف الوحيد بين الآن وبين ما كان هو أننا تمكنا من الحديث عن التحرش بوصفه جريمة، فعل جنائى، جريمة تستوجب عقابا، وهى جريمة لا علاقة لها بما ترتديه الفتاة أو ما تفعله. والحقيقة أن ما وصلنا إليه من القدرة على الحديث الصريح والطرح القانونى المجتمعى الذى يسعى لإيجاد سبل لمناهضة التحرش لم يأت من فراغ، بل هو نتاج مجهودات ضخمة قامت بها مجموعات تطوعية ثورية مبكرا لا بد أن نوفيها حقها كاملا، وهو ما سأفصله فى المقال القادم.