* قد تندفع حملة حمدين إلى ما لا يرغبه الرجل ولا يعتقد فيه * لا أحد ينازع فى حق حمدين بالترشح هذه المرة أيضا لكن ما كان لن يكون غالبا * جماعات شباب مختلطة تحمست لترشحه ودفعته إلى اتخاذ قرار عاطفى مفاجئ ومن حق السيد حمدين صباحى، وهو أخ وصديق عمر، أن يرشح نفسه، وقد بادر بإعلان ترشحه قبل أن يفتح الباب رسميا، ويملك بالطبع توفير شرط الجدية، وله دوائر أنصار ومحبين واسعة، وقد سبق له أن حقق اختراقا صاروخيا فى انتخابات الرئاسة الأولى، بعد ثورة 25 يناير 2011، وحاز ما يقارب الخمسة ملايين صوت، وحل ثالثا فى الجولة الأولى بعد محمد مرسى مرشح الإخوان واليمين الدينى، وأحمد شفيق مرشح الدولة الفاسدة، وكان صباحى هو الحصان الأسود فى معركة الكبار، برغم أن حملته كانت الأقل مالا والأضعف تنظيما، وبرز اسم حمدين كمرشح أحق بتمثيل الثورة، وكانت جغرافيا التصويت لصالحه هى جغرافيا جماهير الثورة نفسها، ولولا ضعف التصويت لصالحه فى مناطق الصعيد والأطراف الحدودية، لكان حمدين هو الفائز الأول فى الجولة الأولى، ولم يكن بوسع مرسى ولا شفيق ممثلى جناحى الثورة المضادة أن يصمدا أمامه فى انتخابات الإعادة، ولكان حمدين قد أصبح أول رئيس منتخب لمصر بعد ثورتها العظمى، و«لو» حدث ذلك لتغير الكثير مما جرى بعدها، لكن التاريخ للأسف لا يعرف كلمة «لو» (!) . نعم، لا أحد ينازع فى حق حمدين بالترشح هذه المرة أيضا، لكن ما كان لن يكون غالبا، وليس فى كل مرة تسلم الجرة، والذين صوتوا له بحماس فى انتخابات مضت، قد لا يصوت غالبهم له هذه المرة، فقد جرت فى النهر مياه كثيرة، وظل حمدين فى موقعه راسيا، مجرد عنوان على حلم لم يتحقق، لا يشك أحد فى ثوريته وتاريخه الكفاحى، ولا فى مواهبه البلاغية والخطابية والكاريزمية، وإن لحق الشك بمقدرته على الإبداع والخلق السياسى، خصوصا بعد اختلاط الأوراق من جديد، وخلع حكم الإخوان واليمين الدينى بهبة الشعب الأسطورية فى 30 يونيو 2013، وظهور اسم عبد الفتاح السيسى كقطب مغناطيسى جذاب، وفى صورة بطل شعبى جادت به المقادير، وتحول إليه بندول الولاء الشعبى، وعلى نحو جارف غير مسبوق ربما منذ زمن جمال عبد الناصر، حتى وإن كرهه الإخوان الذين انتهوا إلى عزلة موحشة، أو جادلت نخب فى تقييم جدوى ترشح السيسى للرئاسة، وقد بدا غريبا أن يلتحق حمدين بجدال النخب المعلقة، وهو الرجل ذو الحس الشعبى الفياض، والذى خاض معاركه الانتخابية كلها اعتمادا على صوت الشعب، وعلى مواهبه الفطرية فى التواصل مع القواعد الشعبية الواسعة، فالذى يعرف حمدين وقد أزعم أننى أعرفه يعرف طريقته، فالرجل «معجون سياسة» بالمعنى الإيجابى للكلمة، أو قل إنه «محترف انتخابات» بالدقة، قد يعتز بتأييد قادة أو مثقفين أو نخب، لكنه لا ينخدع ببريق الأسماء، ولا يتوقف عند تقديرهم الذى يعتز به، ولا يخوض معركة انتخابية إلا إذا كان واثقا من احتمال الفوز فيها، وربما تكون هذه أول مرة يخطئ فيها الحساب الانتخابى، ويندفع فيها إلى غير طريقته، فقد تزايل عنه تأييد نخب وأسماء براقة، وقد لا تكون هذه هى المشكلة الكبرى عنده، بل المشكلة فى مكان آخر، المشكلة فى إدراكه الفطرى لانصراف القواعد الشعبية الواسعة إلى تأييد السيسى، أضف من فضلك إحساس حمدين العميق باستحقاق السيسى للشعبية الغلابة، فمشاعر حمدين هى ذاتها مشاعر المواطن المحب للسيسى، والمقدر لدوره المنتصر لعموم الناس، وقد ناقشت حمدين فى هذه النقطة بالذات، ولم أجد عنده اعتقادا ولا شبه اعتقاد، ولا تناقض ولا شبهة تناقض بين السيسى ومعنى الثورة الجارية المتصلة فصولها ومعاركها، وإن وجدت شيئا آخر راسبا فى نفس حمدين، فهو يعرف أن السيسى سيفوز قطعا، وأنه لا فرصة لأحد غيره فى الوصول لكرسى الرئاسة، وكان يتمنى من أعماق نفسه ألا يرشح السيسى نفسه، وأن يظل وزيرا للدفاع وقائدا للجيش الذى يحبه الشعب، وقد عبر حمدين بعد إعلان ترشحه عن هذه الرغبة باللفظ والحرف، وكررها مرارا، ليس عن اقتناع بأن رجلا ذا خلفية عسكرية لايصح له أن يترشح، فحمدين قائد ناصرى بارز، ويؤمن بوحدة الشعب والجيش، وبشراكة الثورة والدولة، ولا يستسيغ عبارات من نوع «حكم العسكر» تطلق لإدانة عبد الناصر نفسه، وليس فى هذا شيء من اعتقاد حمدين، بل هى الرغبة النفسية الضاغطة فى إزاحة رجل كتب له الفوز الانتخابى، ويعيق حلم حمدين فى الوصول لكرسى الرئاسة، وليس من حق حمدين فيما أعتقد أن يصادر على حق السيسى فى الترشح، تماما كما أنه ليس من حق أحد أن يصادر على حق حمدين أو حق غيره، حتى وإن بدت المعركة محسومة سلفا وبامتياز لصالح السيسى . وقد كنت أفضل ألا يخوض حمدين معركة خاسرة، لا أمل له فيها بالفوز، ولا إحراز تصويت انتخابى يضيف إلى ما كان، ولا وضوح فيها لخلاف جوهرى فى المبادئ والمطالب، فقد يخوض المرء معركة انتخابية بطعم السياسة، ينتصر فيها للمبادئ حتى وإن خسر التصويت، وهو ما لا يبدو متوافرا فى معركة حمدين ضد السيسى، فالرجل أى حمدين لا يرى فى السيسى عيبا سياسيا، بل لا يفتأ يعدد مزايا السيسى العقلية والوطنية والأخلاقية، ويرفض وصف 30 يونيو ثم 3 يوليو بالانقلاب، بل وتقول حملته إنها لا تريد أصوات الذين يصفون 30 يونيو بالانقلاب العسكرى، لا تريد أصوات الإخوان، ولا أصوات غيرهم من أرباب عبارة «حكم العسكر»، وحمدين نفسه يصف معركته مع السيسى بأنها مباراة بين الحسن والأحسن، وهى عبارة طريفة حين تقال فى معركة انتخابية يفترض أن تكون ساخنة، وأن يتحدث فيها المرشح عن مزايا اختياره دون غيره، وهو ما يظهر ارتباكا مرئيا فى دعاية حمدين، فهو يعرف أنه لن يكون من فارق محسوس بين برنامجه وبرنامج السيسى، ولا فى قيم الولاء لثورة 25 يناير 2011 وموجتها الأعظم فى 30 يونيو 2013، ولا حتى فى الإيحاء المؤثر على تصويت الناخبين، فظل جمال عبد الناصر حاضر فى حالتى السيسى وحمدين، ومع فارق حاسم لصالح السيسى الموحى بخبرة ومقدرة لاتتوافر لحمدين، ومع غياب الفارق الملموس فى البرنامج والسياسة والإيحاء، فقد تندفع حملة حمدين إلى ما لا يرغبه الرجل ولا يعتقد فيه، قد تندفع الحملة إلى تمييز وتمايز «شكلانى» تماما، ومن نوع أن حمدين مرشح من خلفية مدنية، بينما السيسى مرشح من خلفية عسكرية، وعلى ظن أن هذا التمييز قد يصلح مبررا لترشح حمدين وحلمه بالفوز، وهو ظن بائس وعظيم الجهل بمزاج المصريين، فالدين والجيش والعدل ثلاث عقائد كبرى تحكم مزاج المصريين، وقصة الخلفية المهنية مدنية أو عسكرية مجرد عنوان جانبى، وتمييز بدائى يتسم بالبلاهة العقلية، وليست ميزة أو عيبا حاسما بالضرورة، وفى لحظة الخطر العاصف التى تعيشها مصر الآن بالذات، ثم أن ظاهرة شعبية السيسى تجاوزت دواعى الخلفيات، وصار السيسى اسم علم مفرد، يثق فيه الناس لشخصه لا لرتبة المشير التى يحملها، وهو ما يدركه حمدين صباحى بحسه الشعبى قبل غيره، ويخشى انزلاق حملته إلى هوس شعارات ضالة من نوع «يسقط يسقط حكم العسكر»، وهو ما لا يعتقد فيه حمدين، والذى يردد فى خطبه شعار «الجيش والشعب إيد واحدة»، وكأنه يرد على جماعات شباب مختلطة تحمست لترشحه، ودفعته إلى اتخاذ قرار عاطفى مفاجئ بإعلان الترشح، وقد لا يشك أحد فى صدق وتلقائية العواطف، وإن كنت لا أثق فى عقلها، ولا فى ثوريتها. نشر بعدد 689 بتاريخ 21/2/2014