تعرف على سعر الدولار اليوم الخميس 2 مايو مقابل الجنيه    وزير الدفاع الأمريكي يبحث مع نظيره الإسرائيلي مفاوضات صفقة تبادل الأسرى واجتياح رفح    عقوبات أمريكية على روسيا وحلفاء لها بسبب برامج التصنيع العسكري    عاجل.. الزمالك يفاوض ساحر دريمز الغاني    رياح وشبورة.. تعرف على حالة الطقس اليوم الخميس 2 مايو    ضبط عاطل وأخصائى تمريض تخصص في تقليد الأختام وتزوير التقرير الطبى بسوهاج    تشيلسي وتوتنهام اليوم فى مباراة من العيار الثقيل بالدوري الإنجليزي.. الموعد والتشكيل المتوقع    خبير تحكيمي يكشف مدى صحة ركلة جزاء الإسماعيلي أمام الأهلي    فلسطين.. قوات الاحتلال تقتحم مخيم قلنديا شمال شرق القدس المحتلة    الثاني خلال ساعات، زلزال جديد يضرب سعر الذهب بعد تثبيت المركزي الأمريكي للفائدة    بتهمة التحريض على الفسق والفجور.. القبض على الإعلامية "حليمة بولند" في الكويت    التحضيرات الأخيرة لحفل آمال ماهر في جدة (فيديو)    ما الفرق بين البيض الأبيض والأحمر؟    متى تصبح العمليات العسكرية جرائم حرب؟.. خبير قانوني يجيب    أول ظهور ل أحمد السقا وزوجته مها الصغير بعد شائعة انفصالهما    بتهمة التحريض على الفسق والفجور.. القبض على حليمة بولند وترحيلها للسجن    «البنتاجون»: أوستن أكد لنظيره الإسرائيلي ضرورة ضمان تدفق المساعدات إلى غزة    طريقة عمل الآيس كريم بالبسكويت والموز.. «خلي أولادك يفرحوا»    مسلسل البيت بيتي الجزء الثاني يواصل تصدره التريند بعد عرض الحلقة ال 3 و4    أمطار تاريخية وسيول تضرب القصيم والأرصاد السعودية تحذر (فيديو)    حسن مصطفى: كولر يظلم بعض لاعبي الأهلي لحساب آخرين..والإسماعيلي يعاني من نقص الخبرات    سعر الموز والخوخ والفاكهة بالأسواق اليوم الخميس 2 مايو 2024    مُهلة جديدة لسيارات المصريين بالخارج.. ما هي الفئات المستحقة؟    كيف يؤثر الذكاء الاصطناعي في الموارد البشرية؟    احذر الغرامة.. آخر موعد لسداد فاتورة أبريل 2024 للتليفون الأرضي    لاعب الزمالك السابق: إمام عاشور يشبه حازم إمام ويستطيع أن يصبح الأفضل في إفريقيا    وليد صلاح الدين يرشح لاعبًا مفاجأة ل الأهلي    هاجر الشرنوبي تُحيي ذكرى ميلاد والدها وتوجه له رسالة مؤثرة.. ماذا قالت؟    عميد أصول الدين: المؤمن لا يكون عاطلا عن العمل    بشروط ميسرة.. دون اعتماد جهة عملك ودون تحويل راتبك استلم تمويلك فورى    البنتاجون: إنجاز 50% من الرصيف البحري في غزة    هذه وصفات طريقة عمل كيكة البراوني    أهمية ممارسة الرياضة في فصل الصيف وخلال الأجواء الحارة    صندوق مكافحة الإدمان: 14 % من دراما 2024 عرضت أضرار التعاطي وأثره على الفرد والمجتمع    ترابط بين اللغتين البلوشية والعربية.. ندوة حول «جسر الخطاب الحضاري والحوار الفكري»    حكم دفع الزكاة لشراء أدوية للمرضى الفقراء    مواقيت الصلاة اليوم الخميس 2 مايو في محافظات مصر    بسام الشماع: لا توجد لعنة للفراعنة ولا قوى خارقة تحمي المقابر الفرعونية    مظهر شاهين: تقبيل حسام موافي يد "أبوالعنين" لا يتعارض مع الشرع    الأنبا باخوم يترأس صلاة ليلة خميس العهد من البصخة المقدسه بالعبور    يوسف الحسيني : الرئيس السيسي وضع سيناء على خريطة التنمية    اشتري بسرعة .. مفاجأة في أسعار الحديد    النصر يطيح بالخليج من نصف نهائي كأس الملك بالسعودية    حيثيات الحكم بالسجن المشدد 5 سنوات على فرد أمن شرع فى قتل مديره: اعتقد أنه سبب فى فصله من العمل    برج الميزان .. حظك اليوم الخميس 2 مايو 2024 : تجاهل السلبيات    أخبار التوك شو|"القبائل العربية" يختار السيسي رئيسًا فخريًا للاتحاد.. مصطفى بكري للرئيس السيسي: دمت لنا قائدا جسورا مدافعا عن الوطن والأمة    أول تعليق من الصحة على كارثة "أسترازينيكا"    بعد أيام قليلة.. موعد إجازة شم النسيم لعام 2024 وأصل الاحتفال به    لبنان.. الطيران الإسرائيلي يشن غارتين بالصواريخ على أطراف بلدة شبعا    مفاجأة للموظفين.. عدد أيام إجازة شم النسيم في مصر بعد قرار ترحيل موعد عيد العمال    بروسيا دورتموند يقتنص فوزا صعبا أمام باريس سان جيرمان في ذهاب نصف نهائي دوري أبطال أوروبا    القوات الأوكرانية تصد 89 هجومًا روسيًا خلال ال24 ساعة الماضية    حمالات تموينية للرقابة على الأسواق وضبط المخالفين بالإسكندرية    النيابة تستعجل تحريات واقعة إشعال شخص النيران بنفسه بسبب الميراث في الإسكندرية    أكاديمية الأزهر وكلية الدعوة بالقاهرة تخرجان دفعة جديدة من دورة "إعداد الداعية المعاصر"    بقرار جمهوري.. تعيين الدكتورة نجلاء الأشرف عميدا لكلية التربية النوعية    الوطنية للتدريب في ضيافة القومي للطفولة والأمومة    وزير الأوقاف: تحية إعزاز وتقدير لعمال مصر    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الحقيقة الغائبة ..فرج فودة
نشر في صوت الأمة يوم 14 - 11 - 2012

أثارت كتابات د. فرج فودة جدلا واسعا بين المثقفين والمفكرين ورجال الدين، واختلفت حولها الآراء، فقد طالب بفصل الدين عن الدولة، وكان يرى أن الدولة المدنية لا شأن لها بالدين. وشنت جبهة علماء الأزهر هجوما كبيرا عليه، وأصدرت فى 1992 بياناً، نشرته جريدة «النور»، بتكفير فودة ووجوب قتله. دفع فرج فودة حياته ثمنا لآرائه المثبتة فى اعماله وفى صدارتها «الحقيقة الغائبة» الذى أراد من خلاله أن يثبت من التاريخ الإسلامى أنه لا يوجد ما يسمى ب«الدولة الدينية»، وأن الدولة الإسلامية وصلت إلى أوج مجدها عند تحقق أحد الأمرين: الاجتهاد المرن الذى يواكب العصر(سيدنا عمر بن الخطاب رضى الله عنه)، ، أو حين فصلت الدين عن الدولة (باقى الخلفاء الأقوياء فى الدولتين الأموية - مثل معاوية بن أبى سفيان وعبد الملك بن مروان وهشام بن عبد الملك – والعباسية – مثل المنصور والرشيد المأمون)، وخلال طرحه لهذه القضية الشائكة – العلمانية والدولة الدينية – وثق عمله بإسناده إلى أمهات الكتب التاريخية مثل تاريخ الطبرى والبداية والنهاية ومروج الذهب وغيرها.
والكاتب يثير بلبلة وقلقا للذين كونوا صورة مثالية لكبار الصحابة والتابعين وخلفاء المسلمين، فيظهر مواقف وفتاوى وخلافات وصراعات تصل إلى حد التراشق والتحريض وحتى الاغتيال أحيانا، بل والتمثيل بالجثث بعد قتل أصحابها، والمشكلة فى أنك كقارئ لا تستطيع التسليم للكاتب فى كل ما ذكره، لكنك فى ذات الوقت لا تستطيع إنكاره، خاصة مع وجود توثيق دقيق لكل رواية، كما سبق ذكره.. ورغم عدم الاتفاق مع بعض ما جاء فى الكتاب، إلا أنه بلا شك دعوة لإعمال العقل وعدم التسليم للحكايات المتوارثة عبر الأجيال، لأن هذا التسليم حسب رأى الكاتب «هو الهروب لأنه أسهل من المواجهة، وهو النكوص لأنه أهون من الإقدام، وهى المظهرية لأنها أيسر من إدراك الجوهر». والكاتب يؤيد بكل وضvvوح وجرأة السماح بقيام أحزاب دينية، ويبرر ذلك فيقول: «السماح لهم ولغيرهم من التيارات السياسية الدينية بتشكيل أحزابهم له من المزايا ما لا يستهان به، فسوف يلزمون بوضع برامج سياسية، وسوف يدور الحوار معهم على أرض الواقع السياسى، وسوف يكون حوار دنيا لا حوار دين، وسوف يكون هدفهم كراسى الحكم لا قصور الجنة». «الحقيقة الغائبة» كتاب من القطع الصغير لا تتعدى صفحاته 150 صفحة يحكى فيها فودة عن 1300 سنة من الحكم الذى كان يطلق عليه خلافة إسلامية، ويقدم قراءة جديدة لحكم الخلافة يعرف منها القارئ تاريخا ربما قرأ بعضه وعرف أسماء أبطاله، لكنه لم يعرف ماذا فعلوا بالدين من أجل السياسة وكراسى الحكم. عندما تقرأ الكتاب تعرف لماذا اغتالوا فرج فودة.. إن الوطن ليس حلما لحكم الخلافة الذى يراودهم، فليحكمونا ولكن ليس باسم الإسلام لكن باسم السياسة، فإن المستقبل يصنعه القلم لا السواك، والعقل لا الدروشة، والأهم من ذلك كله عليهم أن يدركوا حقيقة غائبة عنهم وهى أنهم ليسوا وحدهم.. جماعة المسلمين.
هذا حديث سوف ينكره الكثيرون، لأنهم يودون أن يسمعوا ما يحبون، فالنفس تأنس لما تهواه، وتتعشق ما استقرت عليه، ويصعب عليها أن تستوعب غيره، حتى لو تبينت أنه الحق، أو توسمت أنه الحقيقة، وأسوأ ما يحدث لقارئ هذا الحديث، أن يبدأه ونفسه مسبقة بالعداء، أو متوقعة للتجنى، وأسوأ منه موقف الرفض مع سبق الإصرار للتفكير واستعمال العقل.
هذا حديث تاريخ لا يزعم صاحبه أنه متخصص فيه، أو فارس فى ميدانه، لكنه يزعم أنه قارئ له فى أناة، محلل له فى صبر موثق له فى دقة، ناقد له فى منطق، يهوى أنه يقلبه ذات اليمين وذات الشمال، لا يستطيع أن يمد خياله متجاوزاً الحقيقة بالإضافة أو منتقصاً منها بالإهمال، وما أكثر ما فعل ذلك من لهم تاريخ واسم، وقلم وفكر، ومنهج وبحث، لا يجدون راحتهم إلا حيث يستريح القارئ، ولا يراعون وهم يفعلون ذلك حرمة لتاريخ أو لعقل أو حتى لنقل.
هذا حديث ما كان أغنانى عنه، لولا أنهم يتنادون بالخلافة، ليس من منطلق الدعابة أو المهاترة أو الهزل، بل من منطلق الجد والجدية والاعتقاد، فسيتدرجون مثلى إلى الخوض فيما يعرف ويعرفون، ويعلم وينكرون، وينكر ويقبلون، ليس من أجلهم، ولا حتى من أجل أجيال الحاضر التى من واجبها أن تعرف وتتعرف، وتعلم وتتعلم، وتفكر وتتكلم، بل قبل ذلك كله من أجل أجيال سوف تأتى فى الغد، وسوف تعرف لنا قدرنا وإن أنكرنا المنكرون وسوف تنصفنا وإن أداننا المدينون، وسوف تذكر لنا أننا لم نجبن ولم نقصر، وأننا بقدر ما أفزعنا بقدر ما دفعنا المجتمع للأمام، وبقدر ما أقلقنا بقدر ما استقر المجتمع فى أيامهم، وبقدر ما واجهنا بقدر ما توجهوا هم إلى المستقبل. هذا حديث تاريخ وسياسة وفكر وليس حديث دين وإيمان وعقيدة، وحديث مسلمين لا حديث إسلام، وهو قبل ذلك حديث قارئ يعيش القرن العشرين وينتمى إليه عن أحداث بعضها يعود إلى الوراء ثلاثة عشر قرناً أو يزيد، ومن هنا يبدو الحديث صعباً على من يعيشون وينتمون لواقع ما قبل ثلاثة عشر قرناً، ويقيمون من خلال معايشتهم وتبنيهم لذلك الواقع أحداث حاضر القرن العشرين، وهو فى النهاية حديث قد يخطئ عن غير قصد، وقد يصيب عن عمد، و قد يؤرق عن تعمد، وقد يفتح باباً أغلقناه كثيراً وهو حقائق التاريخ، وقد يحيى عضواً أهملناه كثيراً وهو العقل، وقد يستعمل أداة تجاهلناها كثيراً وهى المنطق، وهو حديث فى النهاية موجز أشد ما يكون الإيجاز، لا يهتم بالحدث. فى ذاته بقدر ما يعتنى بدلالاته ويرى أنه بوفاة الرسول استكمل عهد الإسلام وبدأ عهد المسلمين، وهو عهد قد يقترب من الإسلام كثيراً وقد يلتصق به، وقد يبتعد عنه كثيراً وقد ينفر منه، وهو فى كل الأحوال والعهود ليس له من القداسة ما يمنع مفكراً من الاقتراب منه، أو محللاً من تناول وقائعه، وهو أيضاً وبالتأكيد ليس حجة على الإسلام، وإنما حجة للمطالبين بالحكم بالإسلام أو حجة عليهم، وسلاح فى أيديهم أو فى مواجهتهم، وليس أبلغ من التاريخ حجة، ومن الوقائع سنداً، ومن الأحداث دليلاً، وليس لهم من البداية أن ينكروا علينا ما رجعنا إليه من مصادر وما استندنا إليه من مراجع، فهى ذات المراجع التى يحتجون بها على ما يرون أنه فى صالحهم، ومع دعواهم، ولو أهملنا معاً هذه المراجع، لما بقى من تاريخ الإسلام شىء، ولما بقيت فى أيديهم حجة، ولما استقر فى كتاباتهم دليل، ولما وجدوا لمنطقهم سنداً أو أصلاً أو توثيقاً.
د. فرج فودة
هذا حديث قصدت فيه أن أكون واضحاً كل الوضوح، صريحاً كل الصراحة، زاعماً أن الوضوح والصراحة فى الموضوع الذى أناقشه استثناء، فقد صبت فى المجرى روافد كثيرة، منها رافد الخوف، ومنها رافد المزايدة، ومنها رافد التحسب لكل احتمال، وخلف ذلك كله يلوح سد كبير، يتمثل فى الحكمة التى يطلقها المصريون، والتى تدعو إلى (سد) كل باب يأتيك منه الريح، فما بالك إذا أتاك إعصار التكفير، وارتطمت بأذنك اتهامات، أهونها أنك مشكك، وأسئلة أيسرها – هل يصدر هذا من مسلم؟ - وواجهتك قلوب عليها أقفالها، وعقول استراحت لاجتهاد السلف، ووجدت أن الرمى بالحجارة أهون من إعمال العقل بالبحث، وأن القذف بالاتهام أيسر من إجهاد الذهن بالاجتهاد..
هذا حديث دنيا وإن بدا لك فى ظاهره حديث دين، وأمر سياسة وحكم و إن صوروه لك على أنه أمر عقيدة وإيمان، وحديث شعارات تنطلى على البسطاء، ويصدقها الأنقياء، ويعتنقها الأتقياء، ويتبعون فى سبيلها من يدعون الورع (وهم الأذكياء)، ومن يعلنون بلا مواربة أنهم أمراء، ويستهدفون الحكم لا الآخرة، والسلطة لا الجنة، والدنيا لا الدين، ويتعسفون فى تفسير كلام الله عن غرض فى النفوس ويتأولون الأحاديث على هواهم لمرض فى القلوب، ويهيمون فى كل واد، إن كان تكفيراً فأهلاً، وإن كان تدميراً فسهلا، ولا يثنيهم عن سعيهم لمناصب السلطة ومقعد السلطان، أن يخوضوا فى دماء إخوانهم فى الدين، أو أن يكون معبرهم فوق أشلاء صادقى الإيمان.
لعلك أدركت أيها القارئ أننى أخوض معك فى موضوع قريب إلى ذهنك بقدر ما ألح عليه، وما أكثر ما ألح، بل ما أصرح ما ألح، حين ارتفعت ولا تزال ترتفع، فى الانتخابات السياسية والنقابية فى مصر رايات مضمونها (يا دولة الإسلام عودى، الإسلام هو الحل، إسلامية إسلامية) .
وهى رايات لا تدرى أهى دين أم سياسة، لكنك تجد مخرجاً فى تصور مصدريها أن الدين والسياسة وجهان لعملة واحدة، وأن تلك الأقوال تعبير عاطفى عن شعارات الإخوان المسلمين القديمة، بأن الإسلام دين ودولة، مصحف وسيف... الخ .
وقبل أن تسألنى (وهل تنكر ذلك) يجدر بى أن أضعك أمام وجهتى نظر، كل منهما تقبل الاجتهاد، بل وقبل ذلك كله، تقتضى الإجهاد، وأقصد بذلك إجهاد الفكر بحثاً عن حقيقة غائبة.
أما وجهة النظر الأولى، ولا أشك أنها وراء ما ذكرت من دعاوى، فأنها تتمثل فى أن المجتمع المصرى مجتمع جاهلى أو بعيد عن صحيح الدين .
وبين مقولة تجهيل المجتمع، ومقولة الابتعاد عن صحيح الدين، تتدرج مواقف القائلين بين التطرف لأصحاب المقولة الأولى، والاعتدال للقائلين بالثانية، لكنهم جميعا متفقون على أن نقطة البدء بالحل تكمن فى التطبيق الفورى للشريعة الإسلامية، وأصحاب وجهة النظر هذه يطرحون خلف ظهورهم خلافهم حول رأيهم فى المجتمع الحالى، ويستقرون بدعوة تطبيق الشريعة، مؤكدين أن هذا التطبيق (الفورى) سوف يتبعه صلاح (فورى) للمجتمع، وحل (فورى) لمشاكله.
هذا عن وجهة النظر الأولى، أما وجهة النظر الثانية، فلعلى ألمح على وجهك قبل أن أعرضها تساؤلاً مضمونه (وهل هناك وجهة نظر ثانية)، ولعلى أتلمس خلف هذا التساؤل تصوراً بأن وجهة النظر الثانية لابد وأن تتناقض مع ما توصلت إليه وجهة النظر الأولى، وأنها تصبح والأمر كذلك مصطدمة أو متصادمة مع دعوة لتطبيق أصل من أصول العقيدة .
لكنى أبادر فأطمئنك بأن وجهة النظر الثانية، لا تناقض الإسلام بل تتصالح معه، ولا تأتى من خارجه بل تخرج من عباءته، ولا تصدر عن مارق بل تصدر عن عاشق لكل قيم الإسلام النبيلة والعظيمة..
إن وجهة النظر الثانية تستند إلى مجموعة من الفروض يمكن عرضها فيما يلى :
أولا : إن المجتمع المصرى ليس مجتمعاً جاهلياً، بل هو أحد أقرب المجتمعات إلى صحيح الإسلام إن لم يكن أقربها، حقيقة لا مظهراً، وعقيدة لا تمسكاً بالشكليات، بل أن التمسك الأصيل والشديد بالقيم الدينية يمكن أن يمثل ملمحاً مصرياً .
يصدق هذا على موقف المصريين من العقائد الدينية الفرعونية قبل ظهور الأديان السماوية، بقدر ما يصدق على موقف المصريين من الدين المسيحى قبل دخول الإسلام مصر، بقدر ما يصدق أيضاً بدرجة أوضح من كل ما سبق على موقف المصريين من الإسلام، والشواهد على ذلك كثيرة، بدءاً من تردد المصريين على المساجد وحماسهم، وتنافسهم على مركز الصدارة فى عدد الحجاج من بلاد العالم الإسلامى كله، واحتفائهم بالأعياد الدينية، بل وتحول شهر رمضان إلى عيد دينى قومى لا يمكن تبرير الشغف به، والاحتفاء بحلوله، والحسرة على انتهائه إلا بأصالة وعمق الشعور الدينى، وانتهاء بما ساهمت مصر فى مجال العقيدة والاجتهاد، بدءاً بالليث بن سعد، وفقه الشافعى فى مصر، وانتهاء بالأزهر الشريف ودوره كمنارة للفكر الإسلامى.
ثانياً: إن تطبيق الشريعة الإسلامية ليس هدفاً فى حد ذاته، بل إنه وسيلة لغاية لا ينكرها أحد من دعاة التطبيق وأقصد بها إقامة الدولة الإسلامية، وهنا مربط الفرس ومحور النقاش، ودعاة تطبيق الشريعة الإسلامية كما سبق وذكرنا يرفعون شعار إن الإسلام دين ودولة، والشريعة الإسلامية فى مفهومهم تمثل حلقة الربط بين مفهوم الإسلام الدين ومفهوم الإسلام الدولة، ليس ربطاً بين مفهومين مختلفين، بل تأكيداً على أنهما وجهان لعملة واحدة – فى رأيهم – وهى صحيح الإسلام.
هنا ينتقل النقاش إلى ساحة جديدة، هى ساحته الحقيقية، وهى ساحة السياسة، وهنا يطفو على سطح النقاش سؤال بسيط وبديهى، ومضمونه أنهم ما داموا قد رفعوا شعار الدولة الإسلامية وانتشر أنصارهم بين الأحزاب السياسية يدعون لدولة دينية يحكمها الإسلام، فلماذا لا يقدمون إلينا – نحن الرعية – برنامجاً سياسياً للحكم، يتعرضون فيه لقضايا نظام الحكم وأسلوبه، سياسته واقتصاده، مشاكله بدءاً من التعليم وانتهاء بالإسكان، وحلول هذه المشاكل من منظور إسلامى.
أليست هذه نقطة ضعف جوهرية يواجههم بها من يختلفون معهم سواء بحسن نية، وهو ما نظن، أو بسوء نية، وهو ما يعتقدون وما يتعين عليهم سد ذرائعه حتى لا يتركوا لأحد مجالاً لنقد أو رفض.
هنا يبدو الأمر منطقياً لا تناقض فيه، وهنا يصبح رفعهم شعار الدين والدولة معاً أمراً مقبولاً، وهنا يصبح رفضهم لفصل الدين عن السياسة وأمور الحكم رفضاً له من الوجاهة حظ كبير، وله من المنطق سند قوى، بل وأكثر من ذلك تصبح قضية تطبيق الشريعة الإسلامية جزءاً من كل، وهى جزء لا يتناقض مع الكل بحال بل يتناسق معه، ففى مجتمع الكفاية والعدل، حيث يجد الخائف مأمناً، والجائع طعاماً، والمشرد سكناً، والإنسان كرامة، والمفكر حرية، والذمى حقاً كاملاً للمواطنة، يصعب الاعتراض على تطبيق الحدود بحجة القسوة، أو المطالبة بتأجيل تطبيقها بحجة المواءمة، أو عن قبول بارتكاب المعصية اتقاء لفتنة، أو تشبها بعمر فى تعطيله لحد السرقة فى عام المجاعة، أو لجوءاً للتعزير فى مجتمع يعز فيه الشهود العدول.
لعلك متفق معى – أيها القارئ – فيما توصلت إليه من أن مسألة كهذه، يحب ألا تفوت على المشتغلين بالعمل السياسى الدينى، بل لعلك تتجاوز التعجب إلى الاعتقاد بأن هذا أمر يسير وأنه إلى تدارك، بل ربما اعتقدت عن تفاؤل بأنه أمر سهو، وأن السهو إلى زوال، لكنى لا أشاركك تفاؤلك، لسبب يعلمه دعاة تطبيق الشريعة ويعانون منه، وأقصد به عقم الاجتهاد، بل إن شئت الدقة اجتهاد العقم، وخوف الاختلاف، بل إن شئت الدقة اختلاف الخوف، وطمع الاستسهال، بل إن شئت الدقة استسهال الطمع، وعجز القدرة، بل إن شئت الدقة قدرة العجز.
ليس فيما أقوله بلاغة باللفظ، بل هى حقيقة تستطيع أن تلمس عشرات الأمثلة على صدقها، ودونك أيها القارئ العزيز ما حدث فى قوانين الأحوال الشخصية، والتى شهدنا ثلاثة منها فى عشر سنوات، أثار الأول منها ثائرة المدافعين عن حقوق المرأة فكان القانون الثانى الذى أثار حفيظة المدافعين عن حقوق الرجل، فكان الثالث الذى هدأت به ثائرة الثائرين إلى حين، على الرغم من أن قانون الأحوال الشخصية جانب هين من جوانب أى برنامج سياسى، بل إنه أسهل جوانب تطبيق الشريعة الإسلامية، لأنه لا خلاف عليها أو حولها فى كونها المصدر الوحيد للتشريع فى هذا المجال، وهى فى النهاية قضية يبدو وجهها الدينى أكثر وضوحاً من أى وجه آخر .
لكن المشكلة أتت من مواجهة العلماء لعالم جديد، ترتبت فيه للمرأة حقوق لم تترتب فى عصر سابق، وأصبح عمل المرأة على سبيل المثال واقعاً لا منّة أو منحة، وحقاً مكتسباً لا سبيل إلى مناقشته، وطرحت المتغيرات الجديدة فى المجتمع من الظروف ما لا سابقة له فى عهد مالك أو أبى حنيفة أو الشافعى أو ابن حنبل، فأزمة الإسكان قائمة، بل إن هناك ما لم يعرفه الفقهاء الأربعة حين ناقشوا هذه القضية، من حكم الشقة المستأجرة أو (التمليك)، وهى كلها أمور أوقعت العلماء فى حيص (وهو الاختلاف بينهم)، وفى بيص (وهو الخلاف بينهم من ناحية وبين قطاعات كبيرة فى المجتمع من ناحية أخرى) .
وفى كل حال من الأحوال الثلاثة – أقصد القوانين الثلاثة – وجد العلماء ضالتهم فى الانتقال من مالك إلى أبى حنيفة، فإن لم يجدوا انتقلوا إلى فتاوى فقهاء أقل حظاً من الشهرة من أمثال سهل بن معاوية، وهم فى كل الأحوال لم يتجاوزا القرن الثانى الهجرى قيد أنملة، أو إن شئنا الدقة قيد عام.
ماذا سيكون الحال إذا تطرق الأمر إلى مجال الاقتصاد، وشغل دعاة الدولة الإسلامية أنفسهم بقضية زيادة الإنتاج فى المجتمع، وفوجئوا بحجم استثمارات القطاع العام التى تتراوح بين ثلاثين إلى خمسين مليار جنيه، يعتمد تمويلها على مدخرات المصريين فى بنوك القطاع العام. والمدخرات فى صورة ودائع، والودائع تستحق فوائد، وآخر اجتهادات القرن الثانى الهجرى، والتى لم تعاصر قطاعاً عاماً أو بنوكاً أدخلت العائد الثابت للمدخرات فى دائرة الربا، وآخر ما و صل إليه الداعون للدولة الإسلامية هو الركون إلى اجتهادات هؤلاء الفقهاء، وكأنها تنزيل من التنزيل، ماذا سيكون الحال؟..
مأزق إن تجمدوا، وبرنامج سياسى إذا اجتهدوا، ولعل أول الحالين أقرب لتصوير الواقع، فالتصوير أهون من التطوير، والحكم بخروج المجتمع كله من دائرة الإيمان أسهل، والحكم بعدم مشروعية الفوائد أيسر، وتجهيل المجتمع ومؤسساته أضمن، والنحو باللائمة على الزمان أسهل السبل، والترحم على الشاعر العربى وارد حين قال (نعيب زماننا والعيب فينا)، هذا عن هين الأمور، وأقصد به التفصيلات، أما أصعبها وأقصد به الأمور العامة، والمنظمة لأسلوب اختيار الحاكم أو أسلوب الحكم أو العلاقة بين السلطات فإن تناول أى منها هو المحك الحقيقى لدعوة (الدولة الدينية) بعيداً عن سجع الألفاظ وشقشقات البلاغة.
وأنت فى طرحك للأسئلة وبحثك عن الإجابات تكتشف أنك فى سباق للموانع، ومباراة لاستعراض حجم ضخم من الخلافات التى لم تحسم، ولم يمنع عدم حسمها، نتيجة غياب الاجتهاد المستنير، أن يدعوك البعض إلى خوض التجربة، وأن يتحاشى الجميع الخوض فيها إيثاراً لراحة البال (بالهم هم)، وتجنباً للخلاف (خلافهم هم)، وهم فى كل الأحوال فى مأمن، إن أعجزتهم الإجابة أفتوا بأنك لا تملك أدوات البحث فى القضايا الدينية، وإن أفحمهم المنطق تنادوا بأنك عميل للامبريالية، أو متأثر بالشيوعية، أو ناطق بلسانهما معاً .
وحتى لا تتحول القضية إلى تراشق فإننى سأحاول معك أن أستعرض بعضاً من تلك الموانع التى أشرت إليها، ولنبدأ بالحاكم، وبديهى أن أول ما سيتبادر إلى ذهنك هو الشروط التى يجب أن تتوافر فيه، وقد تتصور أن الشروط سهلة، وأنها يمكن أن تتمثل فى كونه مسلماً عاقلاً رشيداً إلى آخر هذه الأوصاف العامة، لكنك تصطدم بشرط غريب، تذكره كثير من كتب الفقه، وهو أن يكون (قرشياً)، وقد تتعجب من أن ينادى البعض بهذا الشرط باسم الإسلام، الذى يتساوى الناس أمامه (كأسنان المشط)، والذى لا يعطى فضلاً لعربى على عجمى إلا بالتقوى .
وقد يتبادر إلى ذهنك خاطر غريب، وإن كان صحيحاً، يتمثل فى أن هذا الشرط قد وضع لكى يبرر حكم الخلفاء الأمويين أو العباسيين، وكلهم قرشى، بل قد يتداعى إلى ذهنك ما قرأته فى كتب التاريخ القريب عن الملك فاروق فى أول عهده، حين قدمه محترفو السياسة إلى المصريين فى صورة الملك الصالح، وظهر فى الصور بلحيته ومسبحته ونصف إغفاءة من عينيه، وتسارع بعض رجال الدين (الطموحين) إلى المناداة به ملكاً (وإماماً) للمسلمين، واجتهد الأذكياء منهم فى إثبات نسبه للرسول، وتبارى الإعلام فى الإعلان عن هذا النسب وتأكيده ، تحقيقاً لشرط من شروط الإمامة، وسداً للذرائع على المعترضين .
ولعلك مثلى تماماً لا تستريح لهذا الشرط، الذى يصنف المسلمين إلى أصحاب دم أزرق وهم القرشيون الحكام، وأصحاب دم أحمر ينتظم الأغلبية، لكنهم يواجهونك بحديث نبوى مضمونه أن الإمامة من قريش، وتتبادر إلى ذهنك فى الحال عشرات الأحاديث التى وضعها الوضاعون، والتى و صلوا فيها إلى تسمية الخلفاء العباسيين وتحديد موعد خلافتهم بالسنة واليوم، وهى كلها أحاديث وضعها من لا دين لهم ولا ضمير لهم ولا عقيدة، لكنك فى نفس الوقت تخشى من اتهامك بالعداء للسنة، خاصة من الذين قصروا دراستهم للأحاديث النبوية على أساس السند وليس على أساس المتن (أى المعنى والمضمون ومدى توافقه مع النص القرآنى).
ولا تجد مهرباً إلا بتداعيات اجتماع سقيفة بنى ساعدة فى المدينة، والذى اجتمع فيه الأنصار لانتخاب سعد بن عبادة، وسارع أبو بكر وعمر وأبوعبيدة الجراح إليهم ورشحوا أبا بكر، ودار حوار طويل بين الطرفين، انتهى بمبايعة أبى بكر، وأنت فى استعراضك للحوار، لا تجد ذكراً للحديث النبوى السابق، وهو إن كان حديثاً صحيحاً لما جرؤ سعد بن عبادة سيد الخزرج على ترشيح نفسه، ولكفى أبا بكر وعمر والجراح مؤونة المناظرة، ولما فاتهم أن يذكروه وهو فى يدهم سلاح ماض يحسم النقاش، ويكفى أن تعلم أن سعد بن عبادة ظل رافضاً لبيعة أبى بكر إلى أن مات، ولم يجد من يأخذ بيده إلى هذا الحديث فيبايع عن رضى وهو الصحابى الجليل ذو المواقف غير المنكورة فى الإسلام، غير أن لكل ظاهرة سيئة وجهها المفيد، فقد انبرى أصحاب الرأى الآخر، والذين يؤمنون بحق الاكفأ فى الحكم دون اعتبار لنسبه إلى ذكر أحاديث مضادة بمنطق «وداوها بالتى كانت هى الداء»، مضمونها أنه لا مانع من أن يحكم المسلمين عبد حبشى أسود (كأن رأسه زبيبة) فأعادوا للمنطق توازنه، وأعطوا لكثير من الطوائف الإسلامية التى نشأت فيما بعد سنداً لرأيهم المعارض لخلافة العباسيين، وإن كانت نتيجة ذلك كله، وضع المانع الأول فى مسيرة الدولة الإسلامية، وهو الخلاف الفقهى حول نسب الحاكم وهل يكون بالضرورة قرشياً أم أنه الاكفأ بغض النظر عن نسبه، ولا عبرة هنا بالمنطق أو بواقع الحال، فسيف إنكار الحديث وارد على رقاب كل من الطرفين، فى قضية أتصور أنا وأنت أنها هينة سهلة، لا تستحق عناء ولا تقتضى طول بحث، ولا تنتقل منها أو تتجاوزها إلى أسلوب تولية الحاكم حتى تكتشف مانعاً ضخماً يدور حوله الجدل إلى اليوم ولا يقنع المتجادلون فيه بمنطق بسيط وواضح وهو أن القرآن لم يترك قاعدة فى هذا الأمر، والرسول لم يعرض لها من قريب أو بعيد وإلا لما حدث الخلاف والشقاق فى اجتماع السقيفة، ولما رفض على قبول تولية أبى بكر ومبايعته على اختلاف فى الرواية بين رفضه المبايعة أياماً فى أضعف الروايات، وشهوراً حتى موت فاطمة فى أغلبها، بل إن أسلوب السقيفة لو كان هو الأصح، لاتبعه أبو بكر نفسه وترك تولية من يليه إلى المسلمين أو أهل الحل والعقد منهم، وهو ما لم يفعل حين أوصى لعمر بكتاب مغلق بايع عليه المسلمون قبيل وفاته دون أن يعلموا ما فيه، وهو أيضاً مرة أخرى ما خالفه عمر فى قصر الاختيار بين الستة المعروفين، وهم على وعثمان وطلحة والزبير وابن عوف وسعد، وهو ما اختلف عن أسلوب اختيار على ببيعة بعض الأمصار، ومعاوية بحد السيف، ويزيد بالوراثة.
أنت هنا أمام ستة أساليب مختلفة لاختيار الحاكم، يرفض المتزمتون تجاوزها، ويختلفون فى تفضيل أحدها على الآخر، ويرى المتفتحون أن دلالتها الوحيدة أنه لا قاعدة، وأن الإسلام السمح العادل، لا يرفض أسلوب الاختيار بالانتخاب المباشر أو غير المباشر، وهو ما لا أظن أنه كان يوماً، حتى يومنا هذا محل اتفاق أو قبول عام من أنصار الدولة الدينية .
ولعلى لا أتحدث من فراغ، بل أصدر عن واقع النظم الإسلامية المعاصرة فى عالمنا الحديث، فهناك بيعة أهل الحل والعقد (المختارون) فى السعودية مع قصر الترشيح على أفراد الأسرة المالكة، وهناك المبايعة على كتاب مغلق يكتبه الحاكم ويوصى فيه لمن يليه اشتقاقاً من أسلوب اختيار أبى بكر لعمر، فى السودان فى عهد النميرى، وهناك ولاية الفقيه فى إيران، وهناك اعتبار الموافقة فى الاستفتاء على الشريعة الإسلامية موافقة ضمنية على الحاكم واختياراً له فى الباكستان، وهناك فى كل الأحوال مانع جديد يضاف إلى ما سبق، وهو أن مدة تولية الحاكم فى كل الأحوال السابقة مستمرة مدى حياته، ولا عبرة فى ذلك بأن البيعة على أساس الالتزام بكتاب الله وسنة رسوله، وأن الحاكم يعزل إذا خالف ذلك، فما أكثر ما خالف، دون أن يعزل أو حتى يعترض عليه قديماً كان أو حديثاً، وحديث التاريخ فى هذا ذو شجون بل قل ذا جنون، سواء فى تطرف الحاكم فى خروجه على صحيح العقيدة أو تطرف الرعية فى الخنوع لإرادته والخضوع لبطشه، ولعل القارئ يلاحظ أننى قد تشددت فى العبارات الأخيرة حتى أستلهم فى ذهن دعاة الدولة الدينية رداً منطقياً بأن الشورى مانعة لبطش الحاكم، حافظة لحق الرعية، غير أنى آسف إذا ذكرت لهم أن هذا بدوره يقود إلى مانع جديد هو الخلاف حول كنه الشورى، وهل هى ملزمة للحاكم وهو رأى الأقلية أم أنها غير ملزمة له وهو رأى الأغلبية التى تفرق بين كون الحاكم ملزماً بأن يستشير، وبين كونه فى نفس الوقت غير ملزم باتباع رأيهم حتى إن اجتمعوا عليه جميعهم أو أغلبهم.
لقد أدرك بعض المخلصين من الدعاة أنهم يواجهون من ظروف المجتمعات الحديثة ما لم يواجهه السلف، وأن الديمقراطية بمعناها الحديث، وهو حكم الشعب بالشعب لا تتناقض مع جوهر الإسلام وأن اجتهادات المؤمنين بالديمقراطية، والتى تمخضت عن أساليب الحكم النيابى، والانتخابات المباشرة، لا يمكن أن تصطدم بجوهر العدل فى الدين الإسلامى، وروح الحرية التى تشمل ويشملها، ومن أمثالهم الأستاذ الكبير خالد محمد خالد والعالم الجليل محمد الغزالى، لكنهم واجهوا تياراً كاسحاً من الرفض لما أملاه عليهم اتساع أفقهم، وفهمهم لجوهر العقيدة الأصيل، وانبرى زعماء التيارات الثورية والتقليدية فى نقد الآراء وتفنيدها، لا فرق فى هذا بين معتدل أو متطرف، ودونك ما نشر على لسان الأستاذ عمر التلمساني والأستاذ عمر عبدالرحمن وهو فى مجمله يرفض مقولة حكم الشعب بدعوى أن الحكم لله، وهو أمر لو أمعنت النظر فيه لما وجدت تناقضاً، لكنهم يحاولون تأصيل منهجهم بافتراضات منها أن الأغلبية قد تقر تشريعاً يعارض شريعة الله، وأن التسليم بحق المجالس النيابية فى التشريع سلب لحق إلهى ثابت ومقدس، وهو كونه جل شأنه المشرع الأكبر والوحيد .
وأنها – أى الديمقراطية – قد تعطل النص الشرعى بالرأى الشخصى، وهكذا أيها القارئ لا تنتهى عقبة أو مانع إلا وتظهر عقبة جديدة أو مانع جديد، وهى كلها موانع قد يسعد بها المجتهدون المتفتحون، لأنها تفتح أمامهم باباً واسعاً للرأى وللاجتهاد دون خروج على صحيح الدين، ودون تصادم مع روح العصر، لكنها فى الجانب الآخر تفزع من ركنوا إلى اجتهادات السلف أيما فزع، وتضعهم بين شقى الرحى، إن دارت يميناً طحنت برفض العصر، وإن دارت شمالاً طحنت برفض العقل، وإن سكنت أبقتهم حيث هم، يهربون من الأصل إلى الفرع، ويخفون منطقاً أواجههم به، بل إن شئت الدقة أتحداهم به، وهو أن الشريعة وحدها لا تستقيم وجوداً أو تطبيقاً إلا فى مجتمع إسلامى أو بمعنى أدق دولة دينية إسلامية، وأن هذه الدولة والجزئيات، وأنهم أعجز من أن يصيغوا مثل هذا البرنامج أو يتقدموا به، وأنهم يهربون من الرحى برميها فوق رءوسنا، داعين إيانا إلى تطبيق الشريعة الإسلامية، التى تقودنا بالحتم إلى دولة دينية إسلامية، نتخبط فيها ذات اليمين وذات اليسار، دون منارة من فكر أو اجتهاد مستنير، وليحدث لنا ما يحدث، وليحدث للإسلام ما يحدث، وما علينا إلا أن نمد أجسادنا لكى يسيروا عليها خيلاء، إن أعجزهم الاجتهاد الملائم للعصر رفضوا العصر، وأن أعجزهم حكم مصر هدموا مصر.
ثالثا : إنه من المناسب أن أناقش معك أيها القارئ مقولة ذكرتها لك ضمن وجهة نظر الداعين للتطبيق الفورى للشريعة، وهى قولهم إن التطبيق (الفورى) للشريعة، سوف يتبعه صلاح (فورى) لمشاكله، وسوف أثبت لك أن صلاح المجتمع أو حل مشاكله ليس رهناً بالحاكم المسلم الصالح، وليس أيضاً رهناً بتمسك المسلمين جميعاً بالعقيدة وصدقهم فيها وفهمهم لها، وليس أيضاً رهناً بتطبيق الشريعة الإسلامية نصاً وروحاً، بل هو رهن بأمور أخرى أذكرها لك فى حينها، دليلى فى ذلك المنطق وحجتى فى ذلك وقائع التاريخ، وليس كالمنطق دليل، وليس كالتاريخ حجة، وحجة التاريخ لدى مستقاة من أزهى عصور الإسلام عقيدة وإيماناً، وأقصد به عصر الخلفاء الراشدين.
أنت أمام ثلاثين عاماً هجرياً (بالتحديد تسعة وعشرون عاماً وخمسة أشهر) هى كل عمر الخلافة الراشدة، بدأت بخلافة أبى بكر (سنتين وثلاثة أشهر وثمانية أيام) ثم خلافة عمر (عشر سنين وستة أشهر وتسعة عشر يوماً) ثم خلافة عثمان (إحدى عشرة سنة وأحد عشر شهراً وتسعة عشر يوماً) ثم خلافة على (أربع سنين وسبعة أشهر) .
وتستطيع أن تذكر بقدر كبير من اليقين أن خلافة أبى بكر قد انصرفت خلال العامين والثلاثة أشهر إلى الحرب بين جيشه وبين المرتدين فى الجزيرة العربية، وأن خلافة على قد انصرفت خلال الأربعة أعوام والسبعة أشهر إلى الحرب بين جيشه فى ناحية وجيوش الخارجين عليه والرافضين لحكمه فى ناحية أخرى، بدءاً من عائشة وطلحة والزبير فى موقعة الجمل، وانتهاء بجيش معاوية فى معركة صفين ومروراً بعشرات الحروب مع الخوارج عليه من جيشه، وأنه فى العهدين كانت هموم الحرب ومشاغلها أكبر بكثير من هموم الدولة وإرساء قواعدها .
أضف إلى ذلك قصر عهد الخلافتين، حيث لم يتجاوز مجموع سنواتهما ست سنوات وعشرة أشهر، ويبقى أمامك عهد عمر وعهد عثمان، حيث يمكن أن تتعرف فيهما على الإسلام الدولة فى أزهى عصور الإسلام إسلاماً، وأحد العهدين عشر سنين ونصف (عهد عمر)، والثانى حوالى أثنى عشر عاماً (عهد عثمان)، وهى فترة كافية لكل من العهدين لكى يقدم نموذجاً للإسلام الدولة كما يجب أن تكون، فعمر وعثمان من أقرب الصحابة إلى قلب الرسول وفهمه، والاثنان مبشران بالجنة، وللأول منهما وهو عمر مواقف مشهودة فى نصرة الإسلام وإعلاء شأنه، وهى مواقف لا تشهد بها كتب التاريخ فقط، بل يشهد بها القرآن نفسه، حين تنزلت بعض آياته تأييداً لرأيه، وهو شرف لا يدانيه شرف، وللثانى منهما وهو عثمان مواقف إيمان وخير وجود، ويكفيه فخراً أنه زوج ابنتى الرسول، هذا عن الحاكم فى كل من العهدين .
أما عن المحكومين، فهم صحابة الرسول وأهله وعشيرته لا تحدث واقعة إلا تمثل أمامهم للرسول فيها موقف أو حديث ولا يمرون بمكان إلا وتداعت إلى خيالهم ذكرى حدث به أو قول فيه ولا تغمض أعينهم أمام المنبر إلا وتمثلوا الرسول عليه قائماً ولا يتراصون للصلاة خلف الخليفة إلا وتذكروا الرسول أمامهم إماماً، وهم فى قراءتهم للقرآن يعلمون متى نزلت الآية، وأين، ولماذا إن كان هناك سبب للتنزيل، وباختصار يعيشون فى ظل النبوة ويتأسون بالرسول عن قرب وحب، هذا عن المحكومين، ولا يبقى إلا الشريعة الإسلامية وهى ما لا يشك أحد فى تطبيقها فى كل من العهدين .
بل أنك لا تتزيد إن أعلنت أن هذا العهد أو ذاك، كان أزهى عصور تطبيقها لأنها لزوم ما يلزم فى ضوء ما سبق أن ذكرنا بشأن الحاكم والمحكوم، ومع ذلك فقد كان عهد عمر شيئاً وعهد عثمان شيئاً آخر فقد ارتفع عمر بنفسه وبالمسلمين إلى أصول العقيدة وجوهرها، فسعد المسلمون به، وصلح حال الدولة على يديه، وترك لمن يليه منهجاً لا يختلف أحد حوله، ولا نتمثل صلاح الحكم وهيبة الحاكم إلا إذ استشهدنا به، بينما قاد عثمان المسلمين إلى الاختلاف عليه، ودفع أهل الحل والعقد إلى الإجماع على الخلاص منه، إما عزلاً فى رأى أهل الحجى، أو قتلاً فى رأى أهل الضراب، واهتزت هيبته فى نظر الرعية إلى الحد الذى دفع البعض إلى خطف السيف من يده وكسره نصفين أو حصبه على المنبر، أو التصغير من شأنه بمناداته (يا نعثل) نسبة إلى مسيحى من أهل المدينة كان يسمى نعثلاً وكان عظيم اللحية كعثمان، أو الاعتراض عليه من كبار الصحابة بما يفهم منه دون لبس أو غموض أنه خارج على القرآن والسنة، ووصل الأمر إلى الدعوة الصريحة لقتله، حيث يروى عن عائشة قولها : اقتلوا نعثلاً لعن الله نعثلاً، وهي كلها أمور لا تترك لك مجالاً للشك فيما وصل إليه أمر الخليفة قبل رعيته، وما وصل إليه أمر الرعية قبل الخليفة.
وعلى الرغم من أن عمر وعثمان قد ماتا مقتولين، إلا أن عمر قد قُتل على يد غلام من أصل مجوسى، وترك قتله غصة فى نفوس المسلمين، وأثار فى نفوسهم جميعاً الروع والهلع لفقد عظيم الأمة، ورجلها الذى لا يعوض، بينما على العكس من ذلك تماماً، ما حدث لعثمان عند مقتله، فقد قتل على يد المسلمين الثائرين المحاصرين لمنزله وبإجماع منهم، وقد تتصور أن قتلة عثمان قد أشفوا غليلهم بمصرعه على أيديهم، وانتهت عداوتهم له بموته، لكن كتب التاريخ تحدثنا برواية غريبة ليس لها نظير سابق أو لاحق، وإن كانت لها دلالة لا تخفى على أريب :
فالطبرى يذكر فى كتابه تاريخ الأمم والملوك الجزء الثالث ص 439:
(لبث عثمان بعدما قتل ليلتين لا يستطيعون دفنه ثم حمله أربعة «حكيم ابن حزام وجبير بن مطعم ونيار بن مكرم وأبو جهم بن حذيفة «فلما وضع ليصلى عليه جاء نفر من الأنصار يمنعوهم الصلاة عليه فيهم أسلم بن أوس بن بجرة الساعدى وأبو حية المازنى ومنعوهم أن يدفن بالبقيع فقال أبو جهم ادفنوه فقد صلى الله عليه وملائكته فقالوا لا والله لا يدفن فى مقابر المسلمين أبداً فدفنوه فى حش كوكب (مقابر اليهود) فلما ملكت بنى أمية أدخلوا ذلك الحش فى البقيع)
وفى رواية ثانية (أقبل عمير بن ضابئ، وعثمان موضوع على باب فنزا عليه فكسر ضلعاً من أضلاعه)، وفى رواية ثالثة أنهم دفنوه فى حش كوكب حين رماه المسلمون بالحجارة فاحتمى حاملوه بجدار دفنوه فوقع دفنه فى حش كوكب.
هذا خليفة المسلمين الثالث، يقتله المسلمون، لا يستطيع أهله دفنه ليلتين ويدفنوه فى الثالثة، يرفض المسلمون الصلاة عليه، بقسم البعض ألا يدفن فى مقابر المسلمين أبداً، يحصب جثمانه بالحجارة، يعتدى مسلم على جثمانه فيكسر ضلعاً من أضلاعه، ثم يدفن فى النهاية فى مقابر اليهود.
أى غضب هذا الذى يلاحق الحاكم حتى وهو جسد مسجى، وينتقم منه وهو جثة هامدة، ولا يراعى تاريخه فى السبق فى الإسلام والذود عنه، ولا عمره الذى بلغ السادسة و الثمانين، ويتجاهل كونه مبشراً بالجنة وزوجاً لابنتى الرسول، ويرفض حتى الصلاة عليه أو دفنه فى مقابر المسلمين شأنه شأن أفقرهم أو أعصاهم. هو غضب لا شك عظيم، وخطب لا ريب جليل، وحادث لا تجد أبلغ منه تعبيراً عن رأى المسلمين فى حاكمهم، وأمر لا يؤثر فى الإسلام من قريب أو بعيد، فعثمان رضى الله عنه ليس ركناً من أركان الإسلام، وإنما هو بشر يخطئ ويصيب، وحاكم ليس له من الحصانة أو القدسية ما يرفعه عن غيره من المسلمين، لكنك لا تملك إلا أن تتساءل معى وأن تجيب.
* ألم يكن عثمان وقت اختياره واحداً من خيار المسلمين، مبشراً بالجنة وأحد ستة هم أهل الحل والعقد، وأحد اثنين لم يختلف المسلمون على أن الخلافة لن تخرج عنهما وهما عثمان وعلى؟
والإجابة (بلى)
* ألم يكن المسلمون فى أعلى درجات تمسكهم بالعقيدة، وأقرب ما يكونون إلى مصدرها الأول وهو القرآن ومصدرها الثانى وهو السنة، بل كان أغلبهم أصحاباً للرسول وناقلين عنه ما وصلنا من حديث وأحداث؟
والإجابة (بلى)
* ألم تكن الشريعة الإسلامية مطبقة فى عهد عثمان رضى الله عنه؟
والإجابة (بلى)
* هل ترتب على ما سبق (حاكم صالح ومسلمون عدول وشريعة إسلامية مطبقة) أن صلح حال الرعية؟، و حسن حال الحكم؟ وتحقق العدل؟ وساد الأمن و الأمان؟
والإجابة (لا).
وهنا نصل سوياً إلى مجموعة من النتائج نستعرضها معاً عسى أن تحل لنا معضلة التفسير وأن تجيب معنا على السؤال الحائر و موجزه لفظ (لماذا).
النتيجة الأولى :
أن العدل لا يتحقق بصلاح الحاكم، ولا يسود إلا بصلاح الرعية، ولا يتأتى بتطبيق الشريعة، وإنما يتحقق بوجود ما يمكن أن نسميه (نظام حكم)، وأقصد به الضوابط التى تحاسب الحاكم إن أخطأ، وتمنعه إن تجاوز، وتعزله إن خرج على صالح الجماعة أو أساء لمصالحها، وقد تكون هذه الضوابط داخلية، تنبع من ضمير الحاكم ووجدانه، كما حدث فى عهد عمر، وهذا نادر الحدوث، لكن ذلك ليس قاعدة ولا يجوز الركون إليه، والأصح أن تكون مقننة ومنظمة .
فقد واجه قادة المسلمين عثمان بخروجه على قواعد العدل بل وأحياناً بخروجه على صحيح جوهر الإسلام، فلم يغير من سياسته شيئاً، وبحثوا فيما لديهم من سوابق حكم فلم تسعفهم سابقة، ومن قواعد لتسيير أمور الدولة فلم يجدوا قاعدة، وأشتد عليهم الأمر فحاصروه وطلبوا منه أن يعتزل، ولأن قاعدة ما فى الأمر لم تكن موجودة، فقد أجابهم بقوله الشهير والله لا أنزع ثوباً سربلنيه الله (أى ألبسنيه الله)، وحين اقترب الأمر من نهايته، وأصبح قاب قوسين أو أدنى من ملاقاة حتفه على يد رعيته، أرسلوا إليه عرضاً فيه من المنطق الكثير ومن الصواب ما لا يختلف عليه .
فقد خيروه بين ثلاث :
- إما الإقادة منه (أى أن يعاقب على أخطائه شأنه شأن أى مسلم يخطئ) ويستمر بعدها خليفة بعد إدراكه أنه لا خطأ دون عقاب.
- وإما أن يتبرأ من الإمارة (أى أن يعتزل الخلافة بإرادته) .
- وإما أن يرسلوا الأجناد وأهل المدينة لكى يتبرأوا من طاعته (أى أن يعتزل الخلافة بإرادة الرعية) .
فكان رده كما ورد فى رسالته الأخيرة كما انتسخها بن سهيل (وهم يخيروننى إحدى ثلاث إما يقيدوننى بكل رجل أصبته خطأ صواباً غير متروك منه شىء، وإما أعتزل الأمر فيؤمرون آخر غيرى وإما يرسلون إلى من أطاعهم من الأجناد وأهل المدينة فيتبرأون من الذى جعل الله سبحانه لى عليهم من السمع والطاعة فقلت لهم أما إقادتى من نفسى فقد كان من قبلى خلفاء تخطئ وتصيب فلم يستقدمن أحد منهم وقد علمت إنما يريدون نفسى وأما أن أتبرأ من الإمارة فإن يكلبونى أحب إلى من أن أتبرأ من عمل الله عز وجل وخلافته وإما قولكم يرسلون إلىَّ الأجناد وأهل المدينة فيتبرأون من طاعتى فلست عليكم بوكيل ولم أكن استكرهتهم من قبل على السمع والطاعة ولكن أتوها طائعين).
هنا يوضح عثمان بصراحة أن مراجعة الخليفة على الخطأ لم تكن واردة فيمن سبقه من الخلفاء (أبو بكر وعمر) أو على الأقل ليس لها قاعدة، وهنا أيضاً يعلن بلا مواربة أنه مُصر على تمسكه بالحكم حتى النهاية وأن اعتزاله غير وارد، وهنا أيضاً يواجه الدعوة إلى سحب البيعة بمنطق غريب مضمونه، وهل كنت أكرهتكم حين بايعتم؟ وكأن البيعة أبدية ولا مجال لسحبها أو النكوص عنها.
لا قاعدة إذن ولا نظام للرقابة، والأمر كله موكول لضمير الحاكم إن عدل وزهد كان عمر، وإن لم يعدل ويمسك بالحكم كان عثمان.
لقد أعلن عثمان أن نظام الحكم الإسلامى (من وجهة نظره) يستند إلى القواعد الآتية :
- خلافة مؤبدة
- لا مراجعة للحاكم ولا حساب أو عقاب إن أخطأ.
- لا يجوز للرعية أن تنزع البيعة منه أو تعزله، ومجرد مبايعتها له مرة واحدة، تعتبر مبايعة أبدية لا يجوز لأصحابها سحبها وإن رجعوا عنها أو طالبوا المبايع بالاعتزال.
ولأن أحدا لا يقر ولا يتصور أن تكون هذه هى مبادئ الحكم فى الإسلام، قتله المسلمون، لكن السؤال يظل حائراً، ومضمونه، هل هناك قاعدة بديلة؟
أو نظام حكم واضح المعالم فى الإسلام؟
هل هناك قاعدة فى القرآن والسنة تحدد كيف يبايع المسلمون حاكمهم، وتضع ميقاتاً لتجديد البيعة، وتحدد أسلوباً لعزل الحاكم بواسطة الرعية، وتثبت للرعية حقها فى سحب البيعة كما تثبت لها حقها فى إعلانها، وتعطى المحكومين الحق فى حساب الحاكم وعقابه على أخطائه، وتنظم ممارستهم لهذا الحق؟
أعتقد أن السؤال كان حائراً ولا يزال، بل إن السؤال نفسه قد اختفى بعد عهد الخلفاء الراشدين، وحرص المزايدون والمتزيدون فى عصرنا على إخفائه، تجنباً للحرج، وتلافياً للخلاف، ونأياً بأنفسهم عن الاجتهاد وهو أمر بالنسبة لهم عسير، ربما عن قعود، وربما عن جمود، وربما عن عجز.
النتيجة الثانية :
إن تطبيق الشريعة الإسلامية وحده ليس هو جوهر الإسلام، فقد طبقت وحدث ما حدث، وأخطر من تطبيقها بكثير وضع قواعد الحكم العادل المتسق مع روح الإسلام، فقد رأينا أن الشريعة كانت مطبقة، وأن الحاكم كان صالحاً، وان الرعية كانت مؤمنة، وحدث ما حدث، لغياب ما غاب، وأظنه لا يزال غائباً.
ولعل ما حدث فى السودان خير دليل على مغبة البدء بالوجه العقابى للإسلام، وهو ما حدث حين أعلن الحاكم عن تطبيق الشريعة الإسلامية وبدأ فى إقامة الحدود فى مجتمع مهدد بالمجاعة، الأمر الذى ترتب عليه أن أصبح أنصار تطبيق الشريعة الإسلامية بعد تلك التجربة أقل بكثير من أنصارها قبل التطبيق، فالبدء يكون بالأصل وليس بالفرع، وبالجوهر وليس بالمظهر، وبالعدل قبل العقاب، وبالأمن قبل القصاص وبالأمان قبل الخوف، وبالشبع قبل القطع.
النتيجة الثالثة:
إنك إن انتقلت من عهد عثمان إلى عهدنا الحاضر، لا تجد شيئاً قد اختلف أو استجد سواء بالنسبة لحل مشاكل المجتمع، أو بالنسبة لمواجهة السلطة إن انحرفت، من خلال منظور إسلامى، ودونك ربطهم بين تطبيق الشريعة وحل مشاكل المجتمع، واسألنى وأسأل نفسك.
* كيف ترتفع الأجور وتنخفض الأسعار إذا طبقت الشريعة الإسلامية؟
* كيف تحل مشكلة الإسكان المعقدة بمجرد تطبيق الشريعة الإسلامية؟
* كيف تحل مشكلة الديون الخارجية بمجرد تطبيق الشريعة الإسلامية؟
* كيف يتحول القطاع العام إلى قطاع منتج بما يتناسب وحجم استثماراته فى ظل تطبيق الشريعة الإسلامية؟
هذه مجرد عينات من الأسئلة، على الداعين للتطبيق الفورى (للشريعة) والمدعين أنها سوف يترتب عليها حل (فورى) لمشاكل المجتمع أن يجيبوا عنها، وهم إن حالوا الإجابة وجدوا أنفسهم أمام المأزق الذى يدور هذا الحوار حوله، وهو وضع برنامج سياسى متكامل، بل إن تفرغهم للإبداع (النقلى) من اجتهادات القرن الثانى الهجرى يمكن أن يقودهم إلى تعقيد المشاكل بدلاً من حلها، فالنظرة الضيقة إلى مفهوم الربا إن طبقت فى عالم اليوم، سوف تقود إلى ارتباك هائل فى سوق المال وسوف تلجئ إلى تحايل نرى ملامحه فى تجربة البنوك الإسلامية، وربما أدت إلى الخراب بدلاً من التنمية، والكساد بديلاً عن الرواج.
وقبل أن تفغر فاك مندهشاً أو ترفع يدك معترضاً دعنى أذكر لك أن الشريعة لا تقود إلى ذلك، بل إنه اجتهاد القرن الثانى الهجرى هو الذى يقود إذا طبق فى عالم تغيرت معالمه وتبدلت أحواله، وعرف أنماطاً من التعامل لم يعرفها السلف، وطرأت فيه من المتغيرات ما لا يقصر الاستدانة على الحاجة، أو الادخار على مفهوم إقراض الغير، وعرف التضخم الذى يترتب عليه خفض القوة الشرائية للنقود، إلى غير ذلك مما لا يسعه حصر ولم يشمله اجتهاد بعد، اللهم إلا اجتهاد فى مناخ غير المناخ، ولعصر غير العصر.
هذا عن الربا، فماذا عن الأجور والأسعار والإسكان، هل هناك علاقة بين هذه الظواهر أو المشاكل وبين تطبيق الشريعة، المؤكد أنه لا علاقة ولا ارتباط، لكن الارتباط قائم ومؤكد إن كان الحديث عن برنامج سياسى ينتظم مفردات المجتمع بما فيه الشريعة فى منظومة لا تتناقض مع الإسلام ولا تتصادم مع متغيرات الواقع.
النتيجة الرابعة :
إننا يجب أن نفرق بين الهروب والمواجهة، وبين النكوص والإقدام، وبين المظهرية والجوهر، فالمجتمع لن يتغير والمسلمون لن يتقدموا بمجرد إطالة اللحية و حلق الشارب، والإسلام لن يتحدى العصر بإمكانيات التقدم بمجرد أن يلبس شبابنا الزى الباكستانى، ومصر لن يتألق وجهها الإسلامى الحضارى بمجرد أن يتنادى الشباب بغير أسمائهم فيدعو الواحد منهم الآخر باسم (خزعل) ويرد عليه الآخر التحية بأحسن منها فيدعوه (عنبسة) .
واللحاق بركب التقدم العلمى لن يحدث بمجرد استخدام السواك بديلاً عن فرشاة الأسنان أو تكحيل العينين أو استعمال اليد فى الطعام أو الاهتمام بالقضايا التافهة مثل نظرية (حبس الظل) فى شأن التماثيل أو الصور أو إضاعة الوقت فى الخلاف حول طريقة دخول المرحاض وهل تكون بالقدم اليمنى أم اليسرى، وميقات ظهور المهدى المنتظر، ومكان ظهور المسيخ الدجال، فكل هذه قشور، والغريب أنها تشغل أذهان الشباب وبعض الدعاة بأكثر مما يشغلهم جوهر الدين وحقيقته .
وهو جوهر لا يتناقض مع التقدم بحال، وهى حقيقة لا تتوقف أمام هذه الأمور الصغيرة، ولعلى أعترف لك أيها القارئ أننى حزين أشد الحزن، ومكلوم حقيقة لا مجازاً، وأنا أشهد شبابنا وقد امتلأ رأسه بهذه الأمور التافهة، وأشهد قادته من أصحاب الطموح، ومدعى إحياء الإسلام، وهم يرسخون فيه هذه الأسس، بل ويتجاوزون ذلك إلى دعوته لترك العلوم (الوضعية) أو الأعمال (العلمانية) والتفرغ للعبادة.
هل هذا هو وجه الإسلام الحقيقى، وهل هذا هو ما سنواجه به القرن الحادى والعشرين، وهل هؤلاء الذين يسيئون قيادة أنفسهم وأتباعهم هم الصالحون لقيادة المجتمع، وهل أقبل منهم أو تقبل منهم دعوتهم للدولة الدينية وهم لا يتمسكون من الدين إلا بالقشور، ولا يعرفون من العقيدة إلا مظهرها الذى لا أصل له فى كتاب الله، ولا سند له إلا التأسى بالرسول فى مسايرته لعصر غير عصرنا، ولمجتمع يختلف جملة وتفصيلاً عن المجتمع الذى نعيشه، وليتهم تأسوا به وهو يدعو للرحمة، ويستنكر قتل المسلم للمسلم، ويدعو لطلب العلم ولو فى الصين، ويستنكر اعتزال العمل للعبادة، ويعدل فى قسمته بين الدين والدنيا، ويعلن حكمته الخالدة للأجيال التالية له، ومضمونها أنهم أعلم بشئون دنياهم.
هؤلاء قوم كرهوا المجتمع فحق للمجتمع أن يبادلهم كرهاً بكره، ولفظوه فحق له أن يلفظهم، وأدانوه بالجاهلية فحق له أن يدينهم بالتعصب وانغلاق الذهن، وخرجوا عليه فحق له أن يعاملهم بما اختاروه لأنفسهم، معاملة الخارجين على الشريعة والقانون، ووضعوا أنفسهم فى موضع الأوصياء على الجميع، وهم أولى الناس بأن يعاملوا معاملة المحجور عليهم، وهم من قبل ومن بعد، أساءوا للإسلام ذاته حين ادعوا عليه ما ليس فيه وأظهروا منه ما ينفر القلوب، وأعلنوا باسمه ما يسئ إليه، وأدانوه بالتعصب وهو دين السماحة، واتهموه بالجمود وهو دين التطور، ووصموه بالانغلاق وهو دين التفتح على العلم و العالم، وعكسوا من أمراضهم النفسية عليه ما يرفضه كدين، وما نرفضه كمسلمين.
هو الهروب لأنه أسهل من المواجهة، وهو النكوص لأنه أهون من الإقدام، وهى المظهرية لأنها أيسر من إدراك الجوهر، وهم فى مزايدتهم على المظاهر يغالون فى المطالبة بالشريعة، وهى مطالبة تتسق مع ما درجوا عليه واتسق تفكيرهم معه، فتطبيق الشريعة فى مجتمعنا الحالى، على ما تركه السلف دون اجتهاد ومراجعة، إنما تمثل مظهراً لا غناء فيه، وظاهراً من الأمر لا جوهر له، ومجرد إطار شكلى لا مضمون داخله، أما الجوهر والإطار والمضمون فهو ما أشرت إليه من قواعد تنظم المجتمع على أساس لا تتناقض مع جوهر الدين فى شىء، ولا تصطدم مع معطيات العصر فى إطارها العام، وهو مطلب بالنسبة لهم عسير، فهم مطالبون أولاً أن يروا العصر على حقيقته قبل أن ينظروا له، وأن يعيشوه قبل أن يبرمجوه، وأن يتفاعلوا معه قبل أن يخططوا مستقبله، وهم فى النهاية سحابة صيف لا أشك أنها إلى زوال، وغيم داكن لا أحسب إلا أنه إلى انقشاع.
رابعا : إن أصحاب وجهة النظر الأولى، وأقصد بهم الداعين إلى التطبيق الفورى للشريعة الإسلامية، يضمرون عداء لا حد له للديمقراطية، إما عن قصد نتيجة عدم إيمانهم بها كما أسلفت، وإما عن حسن نية من الكثيرين الذين يدفعهم حماسهم للشريعة إلى المطالبة بإقرارها بعرضها على مجلس الشعب، دون أن تناقش على نطاق شعبى واسع، مع تلويحهم بسيف الخروج عن الدين لأعضاء المجلس، إن هم رفضوا أو تأنوا أو ترددوا ويتجاوز البعض فيحالون القفز فوق المجلس، متوجهين مباشرة إلى رئيس الجمهورية، ومطالبين له بوضعها – هكذا – موضع التنفيذ الفورى الناجز.
ولأن الأمر كما أوضحت ليس أمر شريعة بل أمر اختيار بين الدولة الدينية والدولة المدنية، وهو اختيار كما شرحت من قبل، بين بديل واضح ومطبق وهو الدولة المدنية، وبديل آخر لم يجهد أصحابه أذهانهم فى بلورته وتوضيحه وهو الدولة الدينية، فأنه من الصعب والأمر كذلك أن يقضى بشأن هذا الأمر فى جلسة أو اثنتين، أو فى أسبوع أو اثنين، بل إننى أتصور سبيلاً آخر لطرح هذا الأمر ومناقشته، وهو سبيل أرى أنه الأوفق والأصح، ليس فقط من وجهة نظرى، بل إنه لزوم ما يلزم بالنسبة لأمر هذا شأنه، وتلك طبيعته، ولعلى قبل أن أعرض تصورى فى هذا الشأن، أتسمع رأى المعارضين لقولى جملة وتفصيلاً، وكأنى بهم يقولون، ها هو يلتوى بالكلم، وينكر علينا حقاً يرضاه للآخرين ويطلبه لنفسه، ويتصور الديمقراطية وفقاً على آرائه ونظرائه، ولا يلتزم بالدستور الذى أقر أن تكون مبادئ الشريعة الإسلامية هى المصدر الرئيسى للقوانين، ولا يلزم نفسه بإرادة الأمة التى أنشأت هذا التعديل، وتمثلت فى استفتاء شعبى أعطى التأييد الكامل له، وهى كلها آراء جديرة بالبحث والمناقشة، وتستحق بالفعل كثيراً من التوقف والتأمل.
أما عن الدستور فلا أحسب أنه قد جاء بجديد، فأغلب القوانين القائمة مستمدة من مبادئ الشريعة الإسلامية، مما يجعل منها المصدر الرئيسى للتشريع فى مصر، مع ملاحظة أرى أن إبداءها واجب، وتتلخص فى أن الدستور ليس كتاباً مقدساً، وأنه يحق لأى مواطن أن يختلف مع بنوده أو أن يعترض عليها، وله أيضاً أن يطالب بتعديلها، على أن يسلك فى هذا السبيل ما نظمه الدستور نفسه من سبل لتعديل مواده أو إلغائها أو الإضافة إليها، بل إن أصحاب وجهة النظر الأولى يعترضون على الكثير من نصوص الدستور، مثل النص على تعدد الأحزاب الأمر الذى يختلف عن اعتقادهم فى قصرها على حزبين هما حزب الله وحزب الشيطان، بل ويتجاوز أغلبهم تلك الجزئية إلى الاعتراض على ما يتعلق بنظام الحكم فى الدستور جملة وتفصيلاً.
ما بالهم إذن يلقون الحجة وهى مردودة إليهم، ويطلقون الرأى وهو مأخوذ عليهم، ويستندون للدستور وهو غير مقبول منهم.
وقريب من ذلك احتكامهم إلى الاستفتاء دليلاً على التأييد الشعبى ورفضهم الاعتراف بشرعية جميع الاستفتاءات التى حدثت منذ اختلفت معهم الثورة وحتى الآن، عدا استفتاء واحد صادف هوى فى نفوسهم، ومس من قلوبهم الشغاف، وحلق بهم فى أحلام وردية وامتشقوه سلاحاً يخرسون به الألسنة، ويذودون به عن أوهامهم حيناً وأحلامهم أحياناً.
هو الهوى حين يتسلط، والغرض حين يستبد، والمنطق حين يهرب، والعقل حين تغشاه العاطفة، والحجة حين يشوبها الضعف والكلام حين يحتوى خبيئاً، معناه ليست لنا عقول.
ليس الدستور إذن هو السند، و ليس الاستفتاء هو الحجة، وإنما سبيلهم الوحيد كما أتصور، أن يفعلوا ما فعله الآخرون، وهو أن يتقدموا إلى الشعب ببرنامجهم السياسى، وأن يشكلوا حزبهم أو أحزابهم، فإن حازوا الأغلبية فى انتخابات حرة فقد ألزمونا بالحجة الدامغة، وأخرسونا بالفعل السديد، و قد اخترت لفظ (أخرسونا) عن قصد لاعتقادى أنه سوف يكون واقعاً لا مراء فيه، ففاقد الديمقراطية لا يعطيها، لكنه إن توصل للحكم بإرادة الشعب كان له ما أراد.
هنا قد يحتج القارئ بأن القوانين الحالية لا تتيح لهم تشكيل أحزاب على أساس العقيدة الدينية، وهو نص قانونى له وجاهته، لكون الأحزاب السياسية منبراً لكل المصريين مهما اختلفت عقائدهم، لكنى أحسب أن المناخ الردىء قد تجاوز ذلك وأن الإخوان المسلمين على سبيل المثال يملكون حزباً، ومكتب إرشاد، وصحفاً ومجلات حزبية وغير حزبية تدافع عنهم وتتبنى آراءهم بل ووصل الأمر إلى تواجد ممثلين لهم فى المجلس النيابى بعد تحالف الوفد والإخوان المسلمين، ذلك التحالف الذى يشبهه بعض الظرفاء بزواج المتعة الذى تعترف به بعض طوائف الشيعة وتنكره طوائف السنة.
هم موجودون إذن، وهم توصلوا بالشرعية إلى تواجد شرعى، وإنكار تواجدهم إخفاء للرءوس فى الرمال، والسماح لهم ولغيرهم من التيارات السياسية الدينية بتشكيل أحزابهم له من المزايا ما لا يستهان به، فسوف يلزمون بوضع برامج سياسية، وسوف يدور الحوار معهم على أرض الواقع السياسى، وسوف يكون حوار دنيا لا حوار دين وسوف يكون هدفهم كراسى الحكم لا قصور الجنة، وسوف يحجم أئمة المساجد عن المزايدة على مقولاتهم لدخولهم آنذاك فى دائرة العمل السياسى الصريح .
وسوف تتحول الأحزاب السياسية إلى معارضتهم بدلاً من المزايدة عليهم، وسوف يختلفون فيما بينهم بأكثر من اختلافهم مع الآخرين، وسوف يواجهون بعضهم البعض بأكثر مما يواجهون الآخرين، وسوف يتحاورون فى ساحة ليست ساحتهم، ويتكلمون لغة تصعب عليهم مفرداتها ناهيك عن قواعدها، وفى كل هذا رحمة من الله أى رحمة، ولطف بالوطن أى لطف، ولا حجة هنا للقائلين بأن ذلك سوف يدعو إلى إنشاء أحزاب دينية قبطية، وأنه سوف يمزق الوطن طائفياً، فدرس التاريخ ينبئنا بأن ذلك غير وارد، وإن ورد فلا تأثير له، وغير بعيد عن الأذهان حزب أخنوخ فانوس، الذى تكون وقضى دون أن يزيد عدد أفراده على الآحاد، وغير بعيد تجربة الوفد حين استوعب الأغلبية الساحقة من أقباط مصر، الذين تحتويهم دائماً راية العلمانية، وتستهويهم شعاراتها، وهو أمر ما زالت أسبابه قائمة، وحديث ذلك يطول، وهو فى مجمله حديث يهون من أسباب التخوف ولا يدعمها، ويؤكد ما أدعو إليه ولا ينفيه.
هذه هى وجهة النظر الثانية أيها القارئ، أفضت فيها لكثرة ما أفاض أصحاب وجهة النظر الأولى فى عرض آرائهم وتزيينها، وأحسب بعد ذلك أنك إلى اختيار، وأن التفكير الهادئ سوف يقودك إلى قرار، بل إننى أحسب أنك توصلت بعد ما سبق إلى مجرد التردد فسوف أحمد الله، ولعلك أدركت معى أنهم قد اختاروا الطريق السهل، وأن اتباعهم إلى ما لا تعلم وما لا يعلمون أمر جلل، وأن يجتهدوا قبل أن يجهدوا الآخرين بحلم لا غناء فيه، وأن يفكروا قبل أن يكفروا، وأن يواجهوا مشاكل المجتمع بالحل لا بالهجرة، وأن يقتصدوا فى دعوى الجاهلية حتى لا تقترن بالجهل، وأن يعلموا أن الإسلام أعز من أن يهينوه بتصور المصادمة مع العصر، وأن الوطن أعز من أن يهدموا وحدته بدعاوى التعصب، وأن المستقبل يصنعه القلم لا السواك، والعمل لا الاعتزال، والعقل لا الدروشة، والمنطق لا الرصاص، والأهم من ذلك كله أن يدركوا حقيقة غائبة عنهم. وهى أنهم ليسوا وحدهم.. جماعة المسلمين.
وماذا بعد؟!!
ما على القارئ بأس لو انزعج، فالانزعاج للحق مكرمة، وأن تنزعج للحق فهذا أفضل كثيراً من أن تنبهر بالباطل، وجزء من هذا الانزعاج مرجعه إلى ما ذكرناه فى بداية الحديث، وهو أن النفس تهوى أن تقرأ ما تحب أن يكتب لها، وتتعشق أن تسمع ما تهوى أن يقال لها، بصرف النظر عن موقعه من الحق أو موقفه من الحقيقة، أما الحق فهوى أن الإسلام الدولة كان انتقاضاً من الإسلام الدين، وعبئاً عليه، لأن الإسلام كما شاء له الله دين وعقيدة، وليس حكماً وسيفاً وأما الحقيقة فهى أن البشر هم البشر فى كل العصور، يستوى فى ذلك عصر الراشدين أو الأمويين أو العباسيين أو عصرنا الحديث، وأن الحديث عن جنة الأرض هراء لا قيمة له، وغثاء لا نفع فيه، وباطل لا جدوى منه.
ولعل القارئ قد أدرك فى ثنايا الحديث، أننا فى حديث التاريخ قد توجهنا للحاضر، واستلهمنا المستقبل، وأننا فى توجهنا لهذا واستلهامنا لذاك قد أرهقنا أنفسنا كثيراً بالتوقف أمام ما نفزع له، وبتحليل ما نجزع منه، ولست أدرى هل يصدقنى القارئ أم لا، إذا ذكرت له أننى منعت نفسى كثيراً من الخوض فى بعض الأحداث، تجنباً لفحش فى القول أو مبالغة فى المجون.
ولعلى نجحت فى أن أوازن بين وجهى الصورة، التى نقلوها لنا حلماً فأنزلناه فى رفق إلى أرض الواقع، فإذا به واقع مر، قليلاً ما يسر، وكثيراً ما يفجع، ولست أدرى هل أصبت أم أخطأت، وهل كان علىَّ أن أفعل ما يفعله الكثيرون، حين يتجاهلون ما يقرب من ألف عام من حكم الأمويين والعباسيين، لكى يتوقفوا أمام عامين لا أكثر، هما فترة حكم عمر بن عبد العزيز، وحين يختارون من فترة الراشدين ما يدير الرءوس وما يدفع الشباب الغض إلى محاولة تحطيم المجتمع، طامعاً فى أن يعيد أيامهم، ويبنى على منوالهم، بينما لو تأملنا فترة حكمهم الكاملة لتمهلنا كثيراً، وتحسبنا كثيراً، وربما حمدنا الله على ما نحن فيه، ليس هجوماً عليهم – معاذ الله – فهم فى أعلى عليين كصحابة أجلاء، وفقهاء دين عظماء، لكنا نتناولهم من زاوية آخرى هى زاوية السياسة، ونقيهم بميزان آخر هو ميزان الحكم، وهم من هذه الزاوية، وبهذا الميزان، بشر يجوز عليهم ما يجوز علينا من نقد، ويتعرضون لما نتعرض لهم من أخطاء، وحسب القارئ أن يتأمل معنا فترة حكمهم، ويتعجب وهو يرى ثلاثين عاماً، يتعاقب فيها أربعة خلفاء، يموت ثلاثة منهم بحد السيف أو الخنجر، واحد على يد غلام المجوسى وهو أمر يفجع، وواحد على يد الرعية وهو أمر يفجع ويفزع، وواحد على يد مسلم متطرف وهو أمر يفزع، ويقضى الخليفة الأخير فترة حكمه كلها ساعياً إلى التمكن من الحكم سدى، وإلى فرض ولايته على الدولة الإسلامية كلها دون جدوى، وينهى به الأمر محصوراً فى الكوفة داعياً الله أن يبدله خيراً من قومه، وأن يبدل قومه أسوأ منه.
ثم لعلنا ننزعج ونحن نكشف أن الفترة على قصرها قد حفلت بالحروب الأهلية الكبرى، فقد بدأت بها، وانتهت بها، بدأت بحروب الردة فى عهد أبى بكر، وانقضت سنواتها الخمس الأخيرة فى سلسلة من الحروب الأهلية أولها حرب الجمل بين كبار الصحابة، ثم حرب صفين بين على ومعاوية، ثم حرب النهروان بين على والخوارج عليه، ثم سلسلة متصلة من الحروب الصغيرة بين جيوش على وجيوش الخوارج، وحسبنا أيضاً أنها بدأت مقبلة على الدين من الخليفة ومن الرعية، وانتهت مقبلة عليه من الخليفة، مدبرة عنه من الرعية بقدر إقبالها على الدنيا، دليلنا على ذلك ما ذكرناه من ثروات، وما رصدناه من اقتراب حثيث من معاوية، وابتعاد حثيث عن على، وإذا كان البعض فى البداية قد قارن بين الطعام الشهى على مائدة معاوية، والحق الجلى على لسان على، فإن النهاية كان انتصاراً لا شك فيه للطعام الشهى، واندحاراً لا شبهة فيه للحق الجلى، وما هكذا كان الإسلام الدين أو يكون، لكنه هكذا كانت الدولة الإسلامية وهكذا تكون، شأنها شأن أى دولة دينية على مدى التاريخ الإنسانى كله، لا يغرنك فيها عذب الحديث فى البدء، فالعبرة بالخواتيم، وقد كانت الخواتيم مرة دائما، وأمر منها ألا نستوعب درسها، وألا نستفيد من تجربتها.
وأن يدعو البعض إلى تكرارها فى بلاهة يحسدون عليها، وكأنه مطلوب منا أن نقرأ التاريخ لكى نعيد أخطاءه.
وإذا كنا نتحدث هكذا عن عهد الراشدين، فكيف يكون الحال على يد المعاصرين، الذين لم نعرف الإرهاب إلا على أيديهم، ولم يعرف مجتمعنا الآمن حوادث الاغتيال السياسى إلا على يد فرسانهم المغاوير، ولم ترق دماء الأبرياء إلا على يد مجاهديهم الأوشاس، وحتى فى انتخابات الاتحادات الطلابية الأخيرة، لم يفتهم أن يرفعوا شعاراً غريباً يعكس أسلوب تفكيرهم، وهو « صوتك دانة «وكأنهم لم يميزوا بعد بين الديانة والدانة ولم يعرفوا من الإسلام إلا العنف والإدانة، ولم يروا فيه ما رأيناه من وجوه كلها سماحة ونور ورحمة.
وربما تصور القارئ فى بعض أجزاء الكتاب أننى أحرض الدولة على المتطرفين وأدفعها إلى مواجهتهم، ولعلى أصحح له، فالمقصود ليس مواجهة التطرف فى الفكر، وإنما المقصود هو مواجهة العنف، ومقاومة الإرهاب، ولعل أحداً يدلنى على كيفية مقاومة العنف بالقبلات، ومواجهة السيف بالأحضان، واستقبال القنابل بالكلمات الدافئة، ولعل المنكرين على ما يرونه تشدداً، ينظرون حولهم إلى أعرق دول العالم فى الممارسة الديمقراطية، ليشاهدوا كيف يواجه العنف فى أيرلندا، وكيف تواجه إيطاليا إرهاب الألوية الحمراء، وكيف تواجه ألمانيا الغربية البادر ما ينهوف.
وكيف لم يتوقف أحد لكى يحلل دوافعهم أو يبرر أفعالهم كما يفعل البعض هنا، عن تصور يكون هكذا الموقف الصحيح، طالما أن الإرهابيين أعداء لخصمه اللدود : الدولة، بينما لو فكر قليلاً، لأدرك أن المستهدف ليس الدولة، بل النظام الذى نحن جميعاً جزء منه، والأمان الذى نسعى جميعاً إلى تحقيقه وصونه، والشريعة التى هى الموئل والملاذ، ولو كان صبية الجهاد أو أمراؤهم أهل حديث لنصحت بحوارهم، ولو كانوا أهل رحمة لنصحت بمجادلتهم بالحسنى، ولو كانوا أهل نكير لدعوت إلى مقارعتهم بالحجة، لكنهم تجاوزوا النكير إلى التفكير، وتجاوزوا القول إلى القتل، وتجاوزوا المنطق إلى حل الدم، وهنا لا مفر من إكمال مسيرة الديمقراطية، حتى لا يحتجوا علينا بضيق الساحة، ولا مفر من الرد على دعواهم بالمنطق حتى نجتذب منهم من بقى فى قلبه مساحة للسماحة، ولا مفر من إعمال نصوص القانون لردع العنف وعزل أصحابه عن حركة المجتمع ومساره، وفرزهم بعيداً عن المعتدلين فى التيار الإسلامى السياسى، وفيهم أساتذة أجلاء وعلماء أفاضل، ومحاورون قادرون، وأهل علم وفقه، ورجال سماحة وفضل، وهم وإن اختلفوا معنا يدعون لنا بالهداية، وندعو لهم بالمثل، دون أن يكفرونا ودون أن يفقدوا من احترامنا ذرة.. هم يؤمنون بالإسلام ديناً ودولة، وهذا حقهم، ونحن نراه ونؤمن به ديناً فحسب وهذا حقنا، وبعضهم يؤمن بالعمل السياسى، ومن حق هذا البعض علينا أن نسانده فى دعواه، وأن نرفع عقيرتنا بأعلى صوت مطالبين له بمنبر الرأى، وهم فى النهاية معنا فى خندق واحد، لأن موقف الإرهابيين منهم أشد، ونذيرهم لهم أعنف، ونكيرهم عليهم أقسى، وحكمهم عليهم أسوأ، ولو صدقت النوايا لوصلنا معه إلى كلمة سواء، ولتقابلنا فى منتصف الطريق، هم بالاجتهاد المستنير، وبرؤية العصر ومعايشته، وبقبول متغيراته، وبتقدير ظروفه، وبالتأسى بعمر فى اجتهاده، وبالإيمان بالوحدة الوطنية، وبالإنصاف لقوانيننا الحالية، ونحن بإدراك أن الديمقراطية تسعنا وتسعهم، وأن المستقبل لنا دون إنكار لهم أو عليهم، وأن مصر أغلى من المزايدة عليها بالقشور لا الجوهر، والمظاهر لا المضامين، وأن الإسلام الصحيح هو التقدم، وهو مصلحة المجتمع، وهو الحاق بالحضارة، وهو تحصيل العلم، وأن المساحة الخصوصية فى قضية الدين أوسع وأرحب، وأن فرض الرأى على الآخرين لا يجوز، وأن التشريع للبشر، أما مبادئ التشريع وأصول العقيدة فهى لله، وأن الإسلام يعنى بالغايات قبل الوسائل.
وأن العصر الأول للإسلام لن يأتى إلينا، وأننا لن نعود إليه، فكلا الأمرين مستحيل، وأن التفكير يسبق التكفير، والعقل يسبق النقل، والسماحة تسع الجميع، وأن الحساب آت لا محالة، فى الآخرة وليس فى الدنيا وأن الإسلام لا يعرف الكهنوت، ولا يعرف رجال الدين، ولا يعطى قدسية لأحد، ولا يمنح عصمة لأحد، ولا يمنع النقد عن أحد، فلا عصمة لأحد غير الرسول، ولا قدسية لأحد غيره، وأنه ليس فى الإسلام أزياء، وليس له ألقاب، وليس لأحد كائناً من كان أن يدعى أنه حامى حمى الإسلام، فكلنا مسلمون، وكلنا حماة الإسلام، وكلنا أيضا حماة الوطن، كل الوطن، وكلنا عشاق له، وكلنا مناضلون من أجله، أرضاً وسماء، مسلمون وأقباط، لسنا فاتحين وليسوا أسارى حرب، نحن جميعاً مواطنون، لسنا أغلبية وليسوا أقلية، نحن جميعاً مصريون، لسنا حكاماً وليسوا محكومين، نحن جميعاً حاكمون محكومون، وكلنا عشاق لهذه الأرض، وكلنا مدافعون عنها، وقبل ذلك كله مدافعون عن وحدة الصف وتلاحم الصفوف.
أعلم أن الحديث قد طال، وأخشى أن يكون قد تشعبن ولعلى أوجز العرض والقصد فى الرفض الكامل لخلط أوراق السياسة بالدين، وفى التأكيد على الفصل بينهما، حجتى فى ذلك ما يلى:
أولاً: أن البينة على من ادعى، وإذا كنا ندعو للفصل فحجتنا جلية فيما هو قائم، أما دعاة الوصل فعليهم أن يوضحوا لنا كيف يكون، ولا مناص عن صياغة برنامج سياسى كامل، وهو فى تقديرنا أمر عسير عليهم، وإن كان يسيراً علينا أن ندرك الأسباب، وقد عرضناه بالتفصيل فى الكتاب.
ثانيا: إننا نقبل فى منطق الصواب والخطأ فى الحوار السياسى، لأن قضاياه خلافية، يبدو فيها الحق نسبياً، والباطل نسبياً أيضاً، ونرفض أن يدار الحوار السياسى على أساس الحلال والحرام، حيث الحق مطلق والباطل مطلق أيضاً، وحيث تبعة الخلاف فى الرأى قاسية لكونه كفراً، وتبعة الاتفاق والمتابعة قاسية أيضاً لمجرد كونها فى رأى أصحابها حلالاً، حتى وإن خالفت المنطق، بل حتى وإن خالفت الحلال ذاته، ولم تكن أكثر من اجتهاد غير صائب تسانده سلطة الحاكم باسم الدين، ويؤازره سلطان العقيدة فى ساحة غير ساحتها بالقطع، ولعل ممارسة النميرى فى السودان مازالت فى الأذهان، ولعل مباركة علمائنا الأفاضل لما فعله النميرى وقت أن كان فى السلطة مازالت فى الوجدان، ولعل نقدهم المرير له ونكيرهم اللاذع عليه بعد أن ترك السلطة واضح للجميع ولعلنا نتساءل دون أن نغضب أحداً، هل هو الخداع فلا نقبل منهم قولاً، أم هى الغفلة فلا نقبل منهم ريادة؟ أم هو الخطأ – وكل ابن آدم خطاء فندعو لهم بالمغفرة؟ وقريب من هذا موقفهم من الرئيس السابق فى مبادرة السلام حين رفعه بعضهم إلى أعلى عليين بالقرآن والسنة، وهبط به بعضهم إلى أسفل سافلين بالقرآن والسنة، وتركونا حيارى، بل إن شئت الدقة أسارى، لعلامات التعجب والاستفهام، ومالنا نذهب بعيداً وأمامنا الآن حوار دائر بين فريقين منهم، بشأن كافر وبعضهم يراه قديساً، بينما نحن الرعية – الحيارى – الأسارى – نضرب كفاً بكف ونحن نتابع حواراً لا يدور بين رأى ورأى أو بين صواب وخطأ، بل بين كفر وإيمان، وهو ما نرفضه دون أن يؤثر هذا على ما فى وجداننا من عقيدة، وما فى قلوبنا من إيمان.
ثالثا:
إن وقائع التاريخ التى سردناها فى الكتاب، تنهض دليلاً دامغاً على ضرورة الفصل، وعلى خطورة الوصل، وعلى سذاجة المتنادين بعودة الخلافة.
رابعاً:
إذا تجاوزنا وقائع التاريخ وانتقلنا إلى ممارسات نظم قائمة ترفع شعار الإسلام، وتتبنى مفهوم الحكم به، فإننا نرى أنها جميعاً حجة فى صالح الفصل، ودليل جديد على خطورة الوصل، وكم نتمنى أن يحتج بها البعض حتى نلزمه حجته، غير أننا نحسب أن أحداً لن يفعل، لما نعلم ويعلم.
خامسا:
يبقى السبب الأخير والأهم، وهو أن الفصل هو السبيل الوحيد للحفاظ على الوحدة الوطنية، وأن الوصل هو السبيل الأكيد لهدم صرحها العتيد، لا يغنى عن ذلك التشدق بمقتطفات من التاريخ تؤكد على السماحة والتسامح فى معاملة أهل الذمة، فقد ضربنا صفحا عن أضعافها، مما يؤكد العكس، وتقشعر له الأبدان، ونحن نؤمن بأن الإسلام قد بلغ الذروة فى التسامح مع أهل الكتاب، بل ومع الكافرين، لكن القرآن لا يفسر نفسه بنفسه، والإسلام لا يطبق نفسه بنفسه، وإنما يتم ذلك من خلال المسلمين، وما أسوأ ما فعل المسلمون بالإسلام، ولسنا فى حاجة إلى نكأ الجراح أو إثارة النعرات أو تفجير الخلافات، بقدر ما نحن فى حاجة إلى تأكيد الإيجابيات ولم الشمل وتماسك الصفوف.. يا إلهى.
كم تردى المناخ وكم نحن فى حاجة إلى عودته من جديد كما كان، أحكى لكم، واسمحوا لى، عن قصة لا أتذكرها إلا ويطفر الدمع، ويهتز الوجدان، وهى قصة حدثت منذ سنوات قريبة، يوم تشييع جنازة عريان سعد، وعريان سعد قبطى مصرى، تطوع لقتل يوسف وهبة رئيس وزراء مصر، القبطى الديانة، والذى قبل رئاسة الوزارة فى مصر حين امتنع الوطنيون، حتى لا يكون القتل على يد مسلم فتثور الفتنة، وقد نجا يوسف وهبة، وسجن عريان سعد، وعندما دق ناقوس الكنيسة لحظة تشييع جثمانه، تصادف أن علا صوت مئذنة مجاورة بالآذان، وهنا.. أجهش الجميع بالبكاء.. وشعر الجميع أنه هكذا يكون وداع عريان..
لنا أن نبكى معهم بكاء الرجل العظيم، على رمز عظيم شيعناه، وتراث عظيم أضعناه، وتاريخ عظيم نسيناه.. أقسم لك يا عريان، أن الآذان والناقوس سوف يتعانقان على هذه الأرض دائماً، فالكل عابد الله، عاشق للوطن، وسوف تبقى مصر يا عريان، شامخة كما أردت وكما نريد، منيعة على الفرقة، مستعصية على الفتنة، مستحيلة الانقسام.
ويا عقلاء مصر. هل نلتقى سويا على كلمة سواء؟
نشر بالعدد 621 بتاريخ 12/11/2012


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.