منذ عهد النبوة بدأت الحاجة إلى الاجتهاد، نتيجة عدم إحاطة الكتاب والسنة بكل أمور الحياة، فحينما بعث رسول الله معاذ بن جبل إلى اليمن قاضياً، قال له: كيف تقضى إذا عرض لك قضاء، قال: أقضى بكتاب الله، قال: فإن لم تجد، قال: فبسنة رسول الله، فإن لم تجد قال: أجتهد رأيى لا آلو، فضرب رسول الله صدره، وقال: الحمد لله الذى وفق رسول الله لما يرضى رسول الله، وهذا هو أول إقرار من الرسول بأهمية الاجتهاد وضرورته وفيه أيضاً شرح لكيفيته. وبهذا يتضح المعنى النبوى للاجتهاد، وهو محاولة البحث عن حكم فى قضية لم يرد فيها نص فى القرآن، طبقاً لما ذكره الصحابى معاذ بن جبل وصدق عليه الرسول، لكن هذه الصورة اعترض عليها الفقهاء، حينما رأوا أن الدولة الإسلامية تتسع، ويدخل إليها تابعون جدد كل يوم، وخوفاً على ما كانوا يتمتعون به من سلطان لدى الحكام قالوا: "لا اجتهاد مع النص"، مطالبين بغلق باب الاجتهاد، وبظهور كلمة القياس حلت محل الاجتهاد، بمعنى أنه إذا ظهرت حالة جديدة وبها تشابه مع حالة قديمة، أخذت الحالة الجديدة حكم القديمة، وهذا ما أسماه الفقهاء "الاتحاد فى العلة". وهكذا اختلف معنى الاجتهاد عما قبله الرسول فى حديث معاذ، الذى أقر فيه الرسول بأن باب الاجتهاد مفتوح، وترتب على هذا الاختلاف نكسات كبيرة ألمت بالمسلمين، أبرزها استدعاء ما فعله الأولون وكأنه النموذج الذى يجب علينا اتباعه، رغم كل التطورات التى شهدتها الإنسانية. للإحاطة بهذه القضية التقينا المفكر جمال البنا، الذى يعيش بجوار جامع الظاهر بيبرس، أكبر سلاطين المماليك، ومركز الكنيسة الرومية وارثة الحضارة البيزنطية، مكتبه يوحى إليك بأنك داخل صومعة رجل لا يأنس إلا بالكتاب، رائحة الورق تشع من بين الجدران، اكتست برفوف تحمل آلاف المجلدات والمراجع، ويقول: بالكاد أزحت بعض الكتب حتى أتمكن من تعليق صورة، وكان الحوار التالى .... كيف نشأت مقولة "لا اجتهاد مع النص"، وكيف ترى هذه المقولة؟ حينما قال معاذ حديثه الشهير وتقبله الرسول كان المجتمع محدوداً، وحينما انفتحت الدولة الإسلامية على العالم من حولها نشأت مشكلات جديدة واجتهادات جديدة وأصبح هناك ملل ونحل، وشيعة ومتصوفة، واتسعت المفاهيم جداً، ومقولة "لا اجتهاد مع النص" لا أوافقها وأقول بدلاً عنها، إنه "لا اجتهاد إلا مع النص" وهذا هو الاجتهاد الحقيقى، ولأن النص حروف جامدة ليس له قوة، لا أيد تدفع ولا لسان ينطق، ولكنه يعتمد على الفهم، والفهم يتفاوت طبقاً لثقافة الشخص الذى يتلقى النص، ومن هنا تتفاوت الأفهام، ولهذا وجود نص ليس معناه عدم الاجتهاد، بل العكس تماماً، فإذا وجد نص يكون هناك اجتهاد، وإذا لم يوجد يجب الاجتهاد أيضاً لوضع نص. وهذا لا يمنع أن يأتى يوم ونجتهد فيه مع النص الموضوع. طبعاً. هناك آية قرآنية تقول: "اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتى ورضيت لكم الإسلام دينا"، ألا تغلق هذه الآية باب الاجتهاد؟ معنى "أكملت لكم دينكم" أى أكملت أساسيات الدين، وبلا شك بعد نزول هذه الآية تعددت الاحتياجات والمشاكل والقضايا التى تتعلق بالدين، وتتعلق بالشريعة أضعافاً مضاعفة، وما تم هو الأساس والعقيدة، لأن الإسلام عقيدة وشريعة، فالعقيدة هى الإيمان بالله وكتبه ورسله واليوم الآخر، وهذا لا يوجد به مشاكل لأنه فى الأساس يقوم على الوحى، وهناك الشريعة وهى الدنيويات وما يتبعها من اهتمام بالعلاقة بين الحاكم والمحكوم، وبين الرجل والمرأة وبين الغنى والفقير، القوانين والحدود والمواريث، ومن هنا تختلف العقيدة عن الشريعة التى لا حد لتطويرها وتعددها ومحورها الأساسى هو العدل أو المصلحة. من يملك الحق فى إغلاق باب الاجتهاد؟ فى فترة العصر العباسى الأول كانت هناك حرية فكرية إسلامية كبيرة جداً، وكانت البصرة ومصر ودمشق بؤراً حضارية مشعة، بما تحمله من موروث كبير سواء كان فارسياً أو بيزنطياً أو فرعونياً، وكل هذه الدول كانت تحمل رواسب حضارية كبيرة، فالحضارة تورث مثل الصفات والملامح تماماً، وعلى الرغم من أن هذه الدول دخلت الإسلام، إلا أن فهمه للإسلام كان فهماً خاصاً، وحينما أتى القرن الرابع وظهرت حركة الترجمة عن اليونانية ظهرت مجموعة تسمى "إخوان الصفا"، ألفوا رسائل تم جمعها فى أربعة مجلدات الآن، وفى هذه الرسائل قالوا إن الشريعة تم تدنيسها بالضلالات، وأفسدتها الغشاوات، ولابد من غسلها بالفلسفة اليونانية.. تصور! هل كانوا يقصدون العقل بكلمة "الفلسفة"؟ لا هم قالوا "الفلسفة" مباشرة، وفى هذا أيضاً يعتبر التصوف ظاهرة جديدة على الإسلام، لأن الإسلام دين حياة ولا علاقة له بالزهد والانغلاق، لكنهم هربوا من جفاء الفقه الإسلامى وتبعية الفقهاء للحكام، والفوارق الاجتماعية بين الطبقات المميزة من تجار ونبلاء وأمراء، والطبقات الفقيرة التى أثقلت وعانت من كثرة الضرائب، ولذلك هرب المتصوفة إلى عالم خيالى، يرسمون فيه الكون على مزاجهم ويتحصنون بلغة الرمز، ويطلقون على أنفسهم ألقاباً عديدة مثل الأقطاب، والأوتاد، والديوان، وهكذا, وهذا كله نتيجة الانفتاح على الثقافات الأخرى، فوجد الفقهاء أن البساط ينسحب من تحت أقدامهم، ولهذا أغلقوا باب الاجتهاد، ورضوا بالمذاهب الأربعة واكتفوا بها، ولأن المجتمع العربى بدائى بطبعه، لم يلتفت للتنظير ولا للمنهج، وأنا أتعجب من هذا، فكيف يكون من بين العرب عقلية كبيرة، مثل عمر بن الخطاب الذى كان يعتبر من أذكى الناس وقتها، ومع هذا لم يقم بإنشاء شىء قريب من المجلس النيابى حالياً، أيعقل هذا؟ أن يعجز عمر بكل ما أوتى من حكمة ودهاء عن أن يجمع ستين شخصاً مثلاً، يمثلون مجلس شورى، مع أنه كان مؤمناً بالشورى، لكنى أرجع وأقول إن العقلية العربية ليس من طبعها العمل بالمنهج ولا التنظير. هل يوجد ما يسمى الاجتهاد الممنوع والاجتهاد المشروع؟ لا يوجد أحد له الحق فى أن يحدد هذا، الله بذاته تعجب من هذا وقال: "قل لو كان فى الأرض ملائكة يمشون مطمئنين لنزلنا عليهم من السماء ملكاً رسولاً"، لكن لا يوجد فى الأرض ملائكة وهذا أفضل لكى يتم دفع الإنسان لإعمال عقله، ولإتاحة الاجتهاد لكل فرد يرى ما حوله وتسيطر عليه عوامل الحياة المتعددة. ما رأيك فى محاولة إضفاء ثوب من القداسة على بعض الشخصيات قديماً وحديثاً؟ لا قداسة فى الإسلام على الإطلاق، والإسلام فى الأساس أتى لهدم القداسات عن كل الشخصيات حتى من الصحابة، وهم بشر مثلى ومثلك، يخطئون ويصيبون، ومن حقنا أن نعمل العقل فى سيرتهم وفى ما روى عنهم، وسبق أن أثبت فى كتاب لى أن ثلاثة من كبار الصحابة أخطأوا وقت انتخاب خليفة لعمر بن الخطاب، وهم عبد الرحمن بن عوف الذى استخدم حس التاجر فى حصر الاختيار بين على بن أبى طالب وعثمان بن عفان، فأخطأ على بن أبى طالب فى عدم قبوله الخلافة على سنة الشيخين، وأخطأ عثمان فى قبوله لعلمه أن الذين يؤيدونه هم الذين يريدون الرفاهية ومتاع الدنيا، عكس الذين يريدون علياً، وبهذا أخطأ ابن عوف لأنه كان يعلم أن عثمان لا يقدر على الحكم بسنة الشيخين، وأخطأ على لأنه لم يفوت على عبد الرحمن وعثمان الفرصة، وأخطأ عثمان لأنه يعلم أنه لا يقدر على أن يسير على سنة أبى بكر وعمر وبها يكون الثلاثة واقعين فى الخطأ، وهم من كبار الصحابة، فما بالك بالآخرين. ما أشد الأمور التى تلتبس على الناس الآن، وتحتاج إلى اجتهاد؟ كل شىء يحتاج إلى مراجعة واجتهاد، وكلام الفقهاء على ما يحمل من الأشياء الحسنة، إلا أن بجانبه آلاف الأشياء السيئة، فالصحيح الحسن من كلام الفقهاء مثل عرق ذهب فى قلب جبل لكى تصل إلى الذهب لابد أن تهدم الجبل، وكل هذا يتطلب جهداً كبيراً، ويغنينا عن هذا الجهد، إعمال العقل الذى ننسى وجوده دائماً، والأئمة الأربعة، مع احترامنا لهم، لا يتخيرون عنا فى شىء، لأننا نملك علماً أكثر بالإضافة إلى علمهم، ولابد من تجاوز الفكر السلفى الذى يحكم الجميع، ومن بينهم القرضاوى وعلى جمعة وطنطاوى، وفهمى هويدى، والعوا، وكل هؤلاء لابد من تجاوز فكرهم السلفى. هذا يجعلنى أسألك عن كيفية رؤيتك للحركة الوهابية وغزوها المجتمع المصرى؟ الوهابية مبدأ يتسم بالتشدد، يحمل ما تحمله الطبيعة البدوية من جفاء وخشونة، وجاء فى فترة تغلبت فيها الخرافات على العقيدة، فتصدى لهذه الخرافات حتى وصل من النقيض إلى النقيض، وأقام خرافة جديدة اسمها "الوهابية"، وإذا كان الفكر السلفى الذى هو أكثر مرونة من الفكر الوهابى لا يصلح فما بالك بالوهابى!، وأنا أرى أنهما وما صاحبهما من قنوات فضائية، ودعاة، ومظاهر كثيرة، كل هذه فقاقيع وظواهر لابد منها فى عالم الضياع الذى نعيش فيه، ولكن سرعان ما ستنتهى وتذوب فى الهواء. أثير عن الشيخ أبو زهرة أنه كان يرجع حد الرجم إلى أصول يهودية، وأن الرسول كان يطبقه فى أول الدعوة وسرعان ما تراجع عنه، ومن ثم يرى ضرورة مراجعة هذا الأمر، هل تذهب إلى ما ذهب إليه أبو زهرة؟ الشيخ أبو زهرة كان يتكتم هذا، ولم يصرح به إلا فى جلسة خاصة فى ليبيا، على ما أتذكر، وكان كمن يكتم إيمانه خشية من العامة، ونحن نؤيد ما ذهب إليه تمام التأييد. هل ترى أن هناك أموراً أخرى تحتاج إلى اجتهاد من هذا النوع؟ أمور كثيرة جداً تحتاج إلى هذا، حد الرجم والسرقة، والزنا، ورمى المحصنات، وكل ما أتى فى الشريعة ولو حتى فى القرآن قابل لإعادة النظر. أثير عن الشيخ أبو زهرة أنه كان يرى أن حد الرجم يرجع إلى أصول يهودية، وأن الرسول كان يطبقه فى أول الدعوة وسرعان ما تراجع عنه، ومن ثم كان يرى أنه لابد من مراجعة هذا الأمر، فهل تذهب إلى ما ذهب إليه أبو زهرة؟ الشيخ أبو زهرة كان يتكتم هذا، ولم يصرح به إلا فى جلسة خاصة فى ليبيا على ما أتذكر، وكان كمن يكتم إيمانه خشية من العامة، ونحن نؤيد ما ذهب إليه أبو زهرة تمام التأييد. هل ترى أن هناك أمورا أخرى تحتاج إلى اجتهاد من هذا النوع؟ أمور كثيرة جدا تحتاج إلى هذا، حد الرجم والسرقة، والزنى، ورمى المحصنات، وكل ما أتى فى الشريعة ولو حتى فى القرآن قابل لإعادة النظر، للتثبت من أن الحكمة التى أتى من أجلها هذا النص مازالت موجودة، أو أن التطور غير هذا، فمثلا فى القرآن كلام كثير عن الرق والعبودية، لكن الرق لم يعد موجودا الآن، فيجب أن يمحى من كتب الفقه لأنه انتهى، وكذلك ما ورد عن الغنيمة، والفىء، والجزية التى كانت من الأنظمة القديمة من عهد الرومان، حتى أن المسيح نفسه دفع الجزية، كل هذه الأشياء تحتاج إلى اجتهادات، ولابد من مراجعة.