ولو عدنا لنص آية النساء وقمنا بقراءتها مرة أخري لوجدنا أن المنطوق الحرفي الحقيقي لنص هذه الآية لا يعني جملة وتفصيلا ما قصده الفقهاء والأصوليون من مفهوم يعني أن علي المسلمين طاعة أولي الأمر في التشريع الديني ويقصدون بهم المجتهدين وفقهاء الدين، فنص الآية يقول: (يا أَيهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيءٍ فَرُدُّوهُ إِلَي اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً) (النساء: 59)، هذه الآية توجه الخطاب إلي الذين آمنوا كل الذين آمنوا بأن يطيعوا الله ورسوله، إلا أن الفقهاء ظنوا أن ذكر عبارة (أولي الأمر) بعد عبارة: (أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ) أن (أولي الأمر) ينضمون إلي الله والرسول في وجوب طاعتهم، وأن طاعتهم مفروضة وواجبة علي الذين آمنوا كفرض ووجوب طاعة الله ورسوله، ومن هنا كانت الكارثة التي حلت بالمسلمين طيلة تاريخهم الديني. بالعودة إلي نص الآية مرة أخري سنجد أن الأمر بالطاعة لم يسبق عبارة (أولي الأمر منكم)، وإنما اقتصر فقط علي الله ورسوله دون أولي الأمر، قال تعالي: (أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ)، فلم يأت في الآية الكريمة الأمر بطاعة أولي الأمر، فلم يقل الله مثلا: (أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأطيعوا أولي الأمر منكم) فلم يحدث هذا ولم يرد في نص الآية علي الإطلاق، وهذا يعني أن الخطاب الإلهي موجه إلي الذين آمنوا جميعهم بمن فيهم أولو الأمر بطاعة الله ورسوله، أي أن الله أمر الذين آمنوا بأن يطيعوا الله ويطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم كذلك عليهم أن يطيعوا الله ويطيعوا الرسول كذلك كعامة الذين آمنوا، وأن أولي الأمر ليسوا استثناء من هذا الأمر، بل إن تخصيص أولي الأمر بالذكر من بين عامة الذين آمنوا كان للتأكيد علي أن وجوب طاعة أولو الأمر لله وطاعتهم للرسول هو أكثر تأكيدا وأكثر وجوبا وأكثر إلزاما لهم من عامة المؤمنين، لأن أولي الأمر بالتزامهم بطاعة الله وطاعة رسوله سيكون ذلك أدعي تحفيزا لعامة الذين آمنوا أن يلتزموا بطاعة الله وطاعة رسوله. ويؤكد ذلك ما جاء في ختام الآية من توجيه لعامة الذين آمنوا ولأولي الأمر إذا تنازعوا في شيء أن يردوه لله ورسوله، قال تعالي: (فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيءٍ فَرُدُّوهُ إِلَي اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً) (النساء : 59)، فلو كان الله كما فهم الفقهاء والأصوليون قد فرض علي الذين آمنوا طاعة أولي الأمر كما فرض طاعة الله وطاعة رسوله، فلماذا لم يذكر أولي الأمر في حال الرد عند تنازع الذين آمنوا؟، بل ذكر أن الرد عند التنازع يكون لله والرسول فقط، وعدم ذكر أولي الأمر في الشطر الثاني من الآية يؤكد علي أن أولي الأمر لم يفرض الله طاعتهم علي الذين آمنوا كما فهم الفقهاء والأصوليون، بل لو كانت طاعة أولوي الأمر مفروضة علي الذين آمنوا لوجب الرد إليهم عند التنازع. وأما ما حاول الفقهاء الاستدلال به من أحاديث لشرعنة منح أولي الأمر حق التشريع الديني كان حديث معاذ بن جبل التالي: وهو ما رواه البغوي عن معاذ بن جبل أن رسول الله -صلي الله عليه وسلم- لما بعثه إلي اليمن قال: "كيف تقضي إذا عرض لك قضاء؟" قال: أقضي بكتاب الله، قال: "فإن لم تجد في كتاب الله؟" قال: فبسنة رسول الله ، قال: "فإن لم تجد في سنة رسول الله؟" قال: أجتهد رأي ولا آلو، (أي لا أقصر في اجتهادي)، قال: فضرب رسول الله علي صدره، وقال: "الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يرضي رسول الله"، وما رواه البغوي عن ميمون بن مهران قال: كان أبو بكر إذا ورد عليه الخصوم نظر في كتاب الله، فإن وجد فيه ما يقضي بينهم فقضي به، وإن لم يكن في الكتاب وعلم عن رسول الله في ذلك الأمر سنة قضي بها، فإن أعياه أن يجد في سنة رسول الله جمع رءوس الناس وخيارهم فاستشارهم، فإن أجمع رأيهم علي أمر قضي به، وكذلك كان يفعل عمر، وأقرّهما علي هذا كبار الصحابة ورءوس المسلمين ولم يعرف بينهم مخالفاً في هذا الترتيب. وذكر الفقهاء والأصوليون أنه توجد مصادر أخري للتشريع الديني عدا هذه الأدلة الأربعة التي هي (الكتاب والسنة والإجماع والقياس)، أما المصادر الأخري غير هذه الأربعة لم يتفق جمهور الفقهاء والأصوليين علي الاستدلال بها، بل منهم من استدل بها علي الحكم الشرعي، ومنهم من أنكر الاستدلال بها، وأشهر هذه المصادر المختلف في الاستدلال بها ستة: الاستحسان، والمصلحة المرسلة والاستصحاب، والعرف، ومذهب الصحابي، وشرع من قبلنا. فجملة المصادر التشريعية كما أقرها الفقهاء والأصوليون عشرة: أربعة متفق من الجمهور علي الاستدلال بها، وستة مختلف في الاستدلال بها، وسوف نبحث هذا بالتفصيل في مقالات لاحقة.