قال تعالي: (وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَي الرَّسُولِ وَإِلَي أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمُ الشَّيطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً) (83 - النساء) اعتمد جمهور الفقهاء والمفسرين في الماضي والحاضر علي هذه الآية في إثبات حجية الإجماع، حيث اعتبر جمهور الفقهاء والمفسرين أن إجماع الفقهاء في أي عصر من العصور علي حكم حادثة ما من الحوادث والاتفاق فيما بينهم علي حكم معين فيها يعد ذلك الحكم تشريعا دينيا، ومن الآيات التي استند إليها الفقهاء في إثبات حجية الإجماع آية النساء هذه، حيث رأوا أن الله من خلال هذه الآية أمر جموع المسلمين بالرد إلي الرسول وإلي أولي الأمر فيما يجد من أمور وحوادث كي يقوم أولو الأمر بإصدار أحكامهم التشريعية فيها، ويصبح ما يتفق عليه الفقهاء من حكم في أي مسألة حكما شرعيا دينيا لا يجوز مخالفته أو العمل بغيره، هذا ما قال به الفقهاء والمفسرون منذ قرون طويلة ومازال المسلمون في شتي بقاع العالم إلي يومنا هذا يعتقدون أن الإجماع وفقا لهذا الفهم للآية السابقة يعد مصدرا من مصادر التشريع الديني في الإسلام. لكن، عند إمعان النظر قليلا في الآية، وحين نعيد قراءتها من جديد نجد أن الآية لا تشير لا من قريب ولا من بعيد إلي اعتبار الإجماع مصدرا من مصادر التشريع الديني في الإسلام، وكذلك لا تشير هذه الآية علي الإطلاق إلي أن ما يصدره أولو الأمر من أحكام تعد أحكامًا تشريعية دينية تضاهي تشريعات الله سبحانه، بل الأمر غير ذلك تماما، فعندما نعيد تلاوة الآية مرة أخري علي النحو التالي: قال تعالي: (وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَي الرَّسُولِ وَإِلَي أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمُ الشَّيطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً) (83 النساء). سنجد أولا: أن الآية تتحدث عن أولي الأمر هنا بوصفهم الحكام والأمراء وليسوا بوصفهم الفقهاء أو المفسرين أو المفتين أو رجال الدين أو الدعاة. ثانيا: الآية تتحدث عن بعض الناس الذين يعلمون بمجيء أمر من الأمن أو الخوف فسرعان ما يقومون بإذاعته وإشاعته بين عموم الناس من دون ترو أو توثيق لهذا الأمر لمعرفة صدقه من كذبه وحقه من باطله، أي مجيء وحدوث أي أمر من أمور الدنيا أو أمور الحكم أو أمور القتال والحروب، فأمر الله في هذه الآية المسلمين أنه عند علم أحدهم أو بعضهم بأمر ما سواء من الأمن أو الخوف بعدم إذاعة أو إشاعة هذا الأمر علي عامة الناس، بل عليهم برد هذا الأمر إلي الرسول أو إلي أولي الأمر لاستنباطه ومعرفة حقيقته، حتي لا تسود الفوضي والتذبذب والتوتر والجلبة والبلبلة في المجتمع، فالآية تنص علي من يعلم بمجيء أمر من الأمن أو الخوف أن يرده إلي الرسول في حال وجود شخص الرسول، أو إلي أولي الأمر في حال غياب شخص الرسول، وأولو الأمر المقصودون في الآية هم الحكام والأمراء وليسوا الفقهاء والمفتين كما يظن معظم الناس، ثالثا: ليس في الآية بأي حال من الأحوال ولا بأي وجه من الوجوه أي دلالة علي هذا الفهم الذي قال به الفقهاء والمفسرون، ولا يوجد في الآية علي الإطلاق ما يشير إلي أن إجماع الفقهاء في أي عصر من العصور علي حكم معين في حادثة بعينها يعد هذا الحكم تشريعا دينيا لا يجوز الخروج عليه وعدم الامتثال به، بل لم تشر الآية علي الإطلاق إلي السماح لأولي الأمر سواء كانوا من الحكام والأمراء أو من الفقهاء والمفتين بأن يشرعوا ويصدروا أحكاما تشريعية دينية من دون الله، فهذا الفهم للآية من قبل الفقهاء في الماضي والحاضر هو كارثة دينية تدعو إلي الشرك بالله، هذا في حال كان أصحاب هذه الدعوة متعمدين السماح لأي أحد بأن يشرع أحكاما من عند نفسه ومن دون الله ثم ينسبها إلي الدين، فهذا هو الشرك بعينه والتحريف الواضح لنص الآية وتحميله ما لم يحتمل وتقويله ما لم يقل، لأن ما لا يجهله أحد أن التشريع الديني تحديدا هو خاصية من خصائص الله وحده الذي لا يشاركه فيها ملك ولا نبي ولا رسول، فكيف بمن هم دونهم من الناس. وكذلك من الآيات التي استدل بها الفقهاء في إثبات حجية الإجماع الديني قوله تعالي: {وَمَن يشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَينَ لَهُ الْهُدَي وَيتَّبِعْ غَيرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّي وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيراً} (النساء: 115)، فقد قال الفقهاء: إن الله في هذه الآية توعد من يشاقق الرسول ويتبع غير سبيل المؤمنين بالنار يوم القيامة، فجعل من يخالف سبيل المؤمنين قرين من يشاقق الرسول. أقول: هذه الآية كذلك ليس فيها أي وجه للدلالة علي جواز إجماع الفقهاء علي حكم أود تشريع واعتباره حكما أو تشريعا دينيا، فالآية تنص علي أن من يشاقق الرسول _أي يناوئه ويعاديه ويحاربه_ من بعد ما تبين له الهدي سيكون مصيره النار يوم القيامة، وهذا الهدي هو المتمثل في القرآن الكريم وهديه عليه الصلاة والسلام فحسب، وهذا الهدي هو الذي اتخذه المؤمنون سبيلا لهم، إذ لا يمكن لعاقل أن يتصور علي الإطلاق أن المؤمنين لهم سبيل آخر يتبعونه سوي القرآن الكريم وهدي النبي عليه الصلاة والسلام، فأين المنطوق الحقيقي لهذه الآية من مفهوم الإجماع الذي فهمه الفقهاء منها؟.