زعم فقهاء أصول الفقه ما يلي: (أن الله سبحانه في القرآن كما أمر المؤمنين بطاعته وطاعة رسوله أمرهم بطاعة أولي الأمر منهم، فقال تعالي: {يا أَيهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ} (النساء: 59) ولفظ الأمر معناه الشأن وهو عام يشمل الأمر الديني، والأمر الدنيوي، وأُولي الأمر الدنيوي هم الملوك والأمراء والولاة وأولو الأمر الديني هم المجتهدون وأهل الفتيا. وقد فسر بعض المفسرين علي رأسهم ابن عباس أُولي الأمر في هذه الآية بالعلماء، وفسّرهم آخرون بالأمراء والولاة، والظاهر التفسير بما يشمل الجميع وبما يوجب طاعة كل فريق فيما هو من شأنه. فإذا أجمع أولو الأمر في التشريع وهم المجتهدون علي حكم وجب اتّباعه وتنفيذ حكمهم بنص القرآن) انتهي. والآية السابقة طبقا للقائلين بوجوب طاعة (أولي الأمر) كوجوب طاعة الله وطاعة رسوله، انطلاقا من هذه الآية، إلا أن الفقهاء والمفسرين قد تخبطوا كثيرا في تحديد من المقصود بأولي الأمر، فطائفة قالت: هم الأمراء والملوك والحكام، وطائفة قالت: هم المجتهدون وأهل الفتيا، وطائفة قالت: هم الاثنان معا وكل في مجاله، فتجب طاعة الحكام والملوك والأمراء في شئون الحكم والدنيا، وتجب طاعة العلماء والفقهاء وأهل الفتيا في الأمور الدينية، لكنهم لم يخبرونا ماذا لو تعارضت طاعة الحكام والأمراء مع طاعة الفقهاء وأهل الفتيا؟، فهل يطيع الناس الفقهاء وأهل الفتيا ويعصون الأمراء والحكام؟، أم هل يطيعون الأمراء والملوك ويعصون الفقهاء وأهل الفتيا؟، وألا يمكن أن يحدث ذلك انشقاقا وربما اقتتالا بين أنصار الملوك والأمراء وبين أنصار الفقهاء وأهل الفتيا؟ هذه الأسئلة وغيرها لم يجب عنها فقهاء أصول الفقه وتركوها فراغا من أي مناقشة أو تحليل أو جواب. وكذلك لم يذكر لنا فقهاء أصول الفقه ما حدود طاعة أولي الأمر؟، هل هي طاعة مطلقة؟، أم مقيدة؟، وهل إيجاب طاعة أولي الأمر يجعل من أحكامهم وتشريعاتهم أحكاما وتشريعات دينية تضاهي أحكام الله؟، وإذا لم تكن أحكامهم وتشريعاتهم أحكاما وتشريعات دينية يحق للمرء الأخذ منها والرد عليها فلماذا أوجب الله علي المؤمنين طاعتهم؟، مع الأخذ في الاعتبار أن أولي الأمر سواء كانوا أمراء وملوك أو فقهاء وأهل فتيا هم أناس غير معصومين من الخطأ، بمعني أنه من الممكن ومن المتوقع أن يصدر منهم الظلم والجور والخطأ، فكيف يوجب الله طاعة من يمكن أن يصدر منهم الخطأ والظلم والجور؟، كل هذه الأسئلة وغيرها تركها فقهاء أصول الفقه دون جواب، وترك الجواب علي هذه الأسئلة منذ قرون طويلة قدم لكثير من الأمراء والحكام مبررات مشروعة ومسوغات دينية في ظلم الناس وقهر الشعوب مستظلين في ذلك بوجوب طاعة ولي الأمر فيما يقول وفيما يفعل، وكذلك شرعن لكثير من فقهاء الدين عبر العصور الإسلامية إلزام الناس بأحكام وفتاوي وتشريعات عدوها أحكاما وتشريعات دينية، وهي محض آراء بشرية فيها الصواب وفيها الخطأ. إذ لا يمكن أن يأمر الله بطاعة أولي الأمر طاعة مطلقة في كل آرائهم، سواء الصواب منها أو الخطأ، بل من المحال أن يظن عاقل مجرد الظن أن آراء أولي الأمر وفتاواهم التي لا تتعدي كونها اجتهادا بشريا من المحال أن تكون أحكاما دينية أو تشريعات دينية تضاهي تشريعات وأحكام الله ورسوله كما قال بذلك فقهاء أصول الفقه. لو قلنا إن الآية تفرض علي الناس طاعة أولي الأمر، وأن طاعتهم واجبة كطاعة الله ورسوله، فالأمر لا يتعدي أن تكون طاعتهم واجبة في تنفيذ طاعة الله ورسوله، بدليل أن الله لم يذكر في الآية (وأطيعوا أولي الأمر منكم)، وإنما قال: (أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم)، مما يدل علي أن الطاعة الواجبة والمفروضة هي في الأساس طاعة الله ورسوله، أما طاعة أولي الأمر فتكون في تنفيذهم لطاعة الله ورسوله، ونظير ذلك في العصر الحالي في وجوب التزام أولي الأمر وبقية الناس بالقانون، والناس في ذلك واجب عليهم طاعة ولاة الأمر في تطبيقهم وتنفيذهم للقانون، أما إذا خرج ولاة الأمر عن القانون العام الذي ارتضاه الناس لحكمهم فعندها لا طاعة لولاة الأمر علي الناس، وفي الآية أمر مهم آخر ألا وهو كلمة (أولو الأمر) فقد جاءت في الآية للجمع وليست للمفرد، فلم يقل (وولي الأمر منكم)، إنما قال: (وأولي الأمر منكم) فجمع ولاة الأمر يدل علي أنه يجب أن يكون ولاة أمر الناس جماعة وليس فردا واحدا، أو بالمعني المعاصر (مؤسسة) للحكم أو عدة (مؤسسات)، ويدل هذا علي الشوري بين ولاة الأمر، فليس الأمر حكرا علي شخص واحد يصدر قانوناً وتشريعات بمفرده ثم يقوم بتنفيذها وإلزام الناس بها بمفرده، وكذلك قوله في الآية: (منكم) يدل علي أن ولاة الأمر (مؤسسات الحكم) تكون منكم أي من اختياركم وبرضاكم ومشورتكم، لأن ولاة الأمر (مؤسسات الحكم) لو لم تل أمر الناس برضي الناس واختيارهم واتفاقهم عليهم فكيف ساعتها يقال: (وأولي الأمر منكم) وهم لم يلو أمر الناس باختيار الناس ورضاهم واتفاقهم عليهم؟.