ينظر البعض لخطوط السكك الحديدية في مصر كأمر مسلم به لا يرى فيها البعض شوى وسيلة للانتقال رغم أن قصتها تحكى جانباً مهماً من تاريخ مصر التي كانت ثالث دولة في العالم تعرف هذا النوع من وسائل المواصلات بعد إنجلترا والهند بل وسبقت في ذلك الدولة العثمانية التي كانت مصر ولاية تابعة لها وقت إنشاء سكك حديد مصر. وعلى مدار تاريخها الطويل ارتبطت السكك الحديديه في مصر بالأحداث السياسية. ويعود التفكير في إنشاء السكك الحديديه إلى عهد محمد على باشا وبعد وفاته عاد مشروع إنشائها وتحديداً في عهد الخديوي عباس من خلال والم قنصل انجلترا في مصر حينذاك حيث رغب في إنشاء خط حديدي يربط بين القاهرةوالسويس ليس الهدف منه خدمة المصريين بل الحيلولة دون حفر قناة السويس. عرض والم على الخديوي عباس إنشاء خط حديدي تستغله الحكومة المصرية وتحصل على إيراداته. ولأن عباس كان يخشى فرنسا وسطوتها أرسل مبعوثيت للحكومة الفرنسية ليستطلع رأيها وإمكانية مساهمتها في إنشاء هذا الخط ولكنه وجد أن فرنسا مهتمة بحفر قناة السويس بقدر أكبر من اهتمامها بإنشاء هذا الخط الحديدي. وفي هذا السياق لعب الإنجليزي عبد الله أغا وكان مترجماً بالقنصلية البريطانية دوراً هاماً في إتمام المشروع. كان اسمه الأصلي ريتشارد، وقد عمل ضابطًا في الجيش الإنجليزي بالهند، و اعتنق الإسلام و درس اللغات الشرقية وبالأخص العربية، ثم ترك خدمة الجيش وتزوج من سيدة مسلمة وتوجه معها لتأدية فريضة الحج. وفد عبد الله أغا على مصر في أواخر حكم محمد علي وشغل وظيفة أمين مخزن الفحم بشركة الترانزيت في شبرا، ولما ألغي الترانزيت واحتكرته الحكومة المصرية سعى عبد الله أغا للالتحاق بالقنصلية البريطانية في وظيفة مترجم. كان أغا يحضر المحادثات التي تجري بين عباس الأول ومستر والم ونظرًا لأن عباس الأول لم يكن يجيد أي لغة أجنبية كما أن القنصل البريطاني والم لم يكن يعرف التركية ولا العربية فقد انتهز عبد الله أغا هذه الفرصة للتودد إلى عباس والتمس منه أنه إذا تم تنفيذ المشروع ، تقوم الحكومة المصرية بتعيينه مديرًا عامًا لمصلحة السكة الحديدية، وعندما تم الأمر مُنح عبد الله أغا هبة مالية مع الإنعام عليه برتبة أميرالاي، ثم عين فيما بعد مديرًا عامًا لمصلحة السكة الحديدية، وظل أغا يشغل هذه الوظيفة حتى عام 1854 حيث نقل منها إلى وظيفة مدير عام مصلحة المرور. تقدمت المحادثات بين القنصل البريطاني وبين عباس الأول، وانتهت بوضع المشروع في صيغته النهائية، ثم وفد روبرت ستيفنسن، نجل مخترع السكة الحديد، على مصر عام 1850 ظاهرياً بهدف السياحة، وفعلياً لتقديم مشورته إلى الخديوي عباس بشأن المشروع. وقال ستيفنسن للوالي أنه بعد أن درس مشروع إنشاء طريق حديدي يخترق الأراضي المصرية، رأى بأن تكون بداية الخط من الإسكندرية إلى القاهرة ثم إلى السويس، وذلك لعدة أسباب منها أن المواصلات بالنيل ليست على ما يرام، فالنهر لا يصلح للملاحة إلا مدة خمسة أشهر من السنة، والسفن النهرية التي تجري فيه لا يمكن أن تزيد حمولتها عن خمسين أو ستين طنًا، فضلا عن أن البدء بمد الخط من الإسكندرية يسهل نقل المهمات والأدوات والقضبان إلى داخل البلاد، أما خط السويس فيحتاج إلى نفقات أكثر لأن طبيعة الأرض رملية، ومن المحتمل أن لا تتحمل ثقل القاطرات والعربات. وبعد مباحثات قليلة وافق عباس الأول على وجهة نظر المهندس ستيفنسن، وكلفه دراسة المشروع دراسة وافية، وتقديم المقايسات والرسوم، والوقوف على قيمة النفقات التي يتطلبها تنفيذ المشروع، ووصل إلى قنصل فرنسا أثناء هذه المباحثات بعض التفاصيل المتعلقة بالمشروع، فاحتج على ذلك، إلا أن الوالي أكد له أن إدارة السكة الحديدية ستكون مصرية، ولن تمتد إليها الأيدي الإنجليزية إلا في الأعمال الفنية البحتة، وأن الترانزيت والبريد لن يعطي امتيازها لدولة أجنبية ما أما الأدوات فستصنع في إنجلترا في مقابل الخدمات التي يقدمها المهندسون الإنجليز. بعدها سافر نوبار باشا إلى لندن حاملاً معه العقود الرسمية للتصديق عليها وللإشراف على شراء وشحن الأدوات كالعربات والقاطرات، وقد وقع نوبار الاتفاق بالنيابة عن عباس باشا، وشهده كل من استيفان بك الذي كان يقوم بمهمة وزير خارجية مصر وعبد الرحمن رشدي، الذي أصبح فيما بعد مديرًا عامًا للسكة الحديد بعد نقل عبد الله أغا منها، ووقعه بالنيابة عن روبرت ستيفنسن مستر بورثويك نائب كبير المهندسين. وبعد توقيع العقد صدر الأمر بتعيين روبرت ستيفنسن بوظيفة كبير مهندسي السكك الحديدية المصرية، وأخذ بمساعدة المهندسين المقيمين الذين استقدمهم من انجلترا في وضع خطة العمل وكان عددهم نحو ثمانية عشر مهندسا. فكر ستيفنسن في أن يسلك أحد الطريقين، أولهما: اجتياز الصحراء من ناحية وادي النطرون، وثانيهما: اختراق أراضي الدلتا، وعلى الرغم من الطريق الثاني كان أكثر صعوبة؛ لأنه سيضطرهم إلى عبور النيل في كل من فرعي رشيد ودمياط، ولكن فضله ستيفنسن. وجهت بعض الانتقادات لمشروع ستيفنسن وكان مفادها أن المشروع يتطلب تشييد جسرين الأول في كفر الزيات، والثاني في بنها، وهذا بطبيعة الحال يتطلب نفقات باهظة بعكس الحال فيما لو تم اختيار خط الصحراء الذي رأى المنتقدون أنه لا يستلزم مثل هذا الوقت الطويل كما أن اختراق الدلتا سيضطرهم إلى شق تلال دمنهور فضلا عن أنه كان يجدر بهم بعد الوصول إلى طنطا أن يتجهوا بالخط إلى السويس رأسا بدلا من أن يبلغوا به القاهرة. ولكن لم يلق هذا النقد قبولا لأن الغرض من إنشاء الخط لم يصبح مقصورا على تقريب المسافة بين الإسكندريةوالسويس فحسب، بل المهم هو أن يمر الخط بالعواصم والمدن، خصوصا القاهرة. كان عباس الأول متحمسا لإنهاء الخط في أقصر مدة ممكنة، فأصدر التكليفات بأن يبذل كل جهد ممكن في العمل على الانتهاء من إنشاء الخط في فترة سنتين بدلا من ثلاث، حتى لو تكلفت الحكومة المصرية ضعف المبلغ المقرر. وفي أول سبتمبر 1851 وقف ستيفنسن ومعه طائفة من المهندسين الانجليز تحيط بهم جموع العمال والفلاحين ليعلن بدء العمل في الخط الحديدي. تقدمت الأعمال في إنشاء الخط الحديدي، خصوصا إقامة الجسور الترابية في المنطقة الكائنة بين الإسكندرية وشاطئ النيل، وكان المهندسون يعملون بهمة فائقة على فحص طبيعة الأرض وتقدير قوة احتمال الجسور، خصوصا عند هطول الأمطار، وذلك قبل الشروع في وضع القضبان. وجندت الحكومة نحو أربعة وعشرين ألف عامل بخلاف الجنود والبحارة الذين كانوا يعرفون باسم الجنود الإمدادية، وقد استخدم الجانب الأكبر منهم في إقامة الجسور وحمل الأخشاب والآلات، وكانوا مقسمين إلى فرق تشرف عليها قوات عسكرية مؤلفة من الخيال المسلحين، بحيث تحول بين من تحدثه نفسه منهم بالهرب. وصل الخط إلى أبي حمص على بعد 25 ميلا من الإسكندرية، وقد أعجب مراسل مجلة أخبار لندن المصورة بتقدم الأعمال في هذا القسم من السكة الحديدية، ووصف الأعمال في رسالة نشرت على صفحات المجلة بتاريخ 27 مارس 1852 سار العمل في مد الخط الحديدي وفق هذا النظام إلى أن وصل إلى كفر الزيات في يونيه 1854، واحتفل بتسيير القطار عليه نظرا إلى أنه أول الخطوط التي افتتحت للاستغلال لا في مصر وحدها بل في القارة الإفريقية كلها. انتظم نقل الركاب والبريد على هذا الخط من الإسكندرية إلى بلدة كفر العيس على فرع رشيد مسافة 65,5 ميل، ومنها بالزوارق والسفن إلى القاهرة، ثم استأنف العمل من كفر الزيات بعد أن ارتبط الخطان بواسطة ناقلة بخارية، ومن كفر الزيات تحول اتجاه الخط إلى الجهة الجنوبية الشرقية حتى وصل إلى طنطا على بعد 76,5 ميل من الإسكندرية، وهنا تعرقل العمل بسبب تأخر قدوم الخبراء من انجلترا على الرغم من وصول كميات وافرة من الأدوات والقضبان، كما أن الطرق كانت ممهده تمهيدا يصلح لإقامة الخطوط عليها. كانت الأوساط الفرنسية تتوقع الفشل للمشروع، وكان عباس الأول قد توفي في غضون ذلك وتولى سعيد العرش، فتحولت الأنظار إلى مشروع حفر القناة، وكانت النتيجة أن تأخر العمل في مد الخطوط الحديدية، ومع ذلك استطاع المقاولون أن يحصلوا على مدد من البيوت المالية في لندن منها مبلغ مائتي ألف جنيه قدمته شركة الملاحة الشرقية، وبالتالي أصبح في الإمكان استئناف العمل بهذه المساعدات. تحول مجرى الخط إلى الجهة الشرقية الجنوبية، وهناك عبر الخط ترعة بركة السبع على جسر اسطواني، وبعد ستة وعشرين ميلا وصل إلى الجهة الشرقية بالقرب من بنها ثم عبر جسرا اسطوانيا آخر، ومن بنها استمر الخط متجها قليلا إلى الشرق والجنوب لمسافة 28 ميلا ونصف ميل حتى انتهى إلى القاهرة وتجاوز منطقتها بقليل. وأخيراً احتفل بافتتاح الخط في يناير 1856 في احتفال رسمي شهده كبار رجال الدولة والقناصل الأوروبيين، وبذلك تم اختزال الرحلة من الإسكندرية إلى القاهرة في سبع ساعات بعد أن كانت تقطع فيما يقرب من 42 ساعة بالزوارق في ترعة المحمودية أو بالبواخر في النيل، وقسمت المسافة إلى اثني عشر محطة وهي: الإسكندرية، كفر الدوار، أبو حمص، دمنهور، إيتاي البارود، كفر الزيات، طنطا، بركة السبع، بنها، طوخ، قليوب، ومصر. استغرق إنشاء الخط خمس سنوات؛ نظرا للمصاعب والعقبات التي لاقاها المهندسون والمقاولون، وبلغت نفقاته نحو مليون جنيه ونصف، أي نحو أحد عشر ألف جنيه للميل الواحد، بما في ذلك ثمن العربات والمهمات الثابتة والمتحركة، وتكاليف إنشاء كوبري بنها وبركة السبع، وهو مبلغ باهظ لم تكن موارد الحكومة تتحمله، فعقدت مصر أول قرض من البيوت المالية الأجنبية لتسديد النفقات الباهظة التي استلزمها تنفيذ المشروع.