لو أن بشار الأسد فعلها قبل عام مضي ، وأصدر الدستور الجديد ، برغم جوانب العوار الباقية فيه ، لو أنه فعلها لكنا بصدد سوريا أخري غير تلك التي نراها الآن ، ونأسي علي نزيف الدم المتصل فيها . لكن التاريخ لا يعرف كلمة " لو" ، وما قد يكون مقبولا قبل عام لم يعد كذلك الآن ، وبعد أن سال كل هذا الدم ، وتحطمت مدن وزالت أحياء ، وجرت مذابح ، وسقط ما قد يصل إلي عشرة آلاف شهيد ، وأضعاف أضعافهم من الجرحي والمعاقين ، ولم يعد أحد يثق في بشار ، ولا حتي من قطاعات معارضة معتدلة كانت مستعدة للحوار معه ، بينما صار الحوار الآن خذلانا لدم الشهداء ، وغناء "نيرونيا" فوق الأطلال . قبل شهور طويلة ، كانت الثورة السورية في نصاعتها الأولي ، مظاهرات سلمية بامتياز ، وتمرد شعبي يخلع القلب ، بدأ ببراءة أطفال كتبوا علي الجدران عبارة " الشعب يريد إسقاط النظام " ، وجرت مواجهة البراءة بالغلظة والوحشية ، وبخلع الأظافر والتعذيب الهمجي ، فانفجرت " درعا " البطلة ، والتي كانت أول الغيث في هطول مطر الجموع علي أسفلت الشوارع ، ومشت رغبة التغيير إلي مدن أخري ، وإن صمتت حلب الشهباء ولا تزال ، وأصمت دمشق الفيحاء آذانها، إلا من غضب ظاهر علي حوافها ، وفي ريف دمشق بالذات من " دوما " إلي " الزبداني " . وتبدو سوريا الآن ، وكأنها معلقة علي مشنقة انتظار طويل ، ثارت ولم تنتصر ثورتها إلي الآن ، ونزفت ولم يتوقف القمع ، وصار خبزها دمها ، وخبرها اليومي قوافل من شهداء جدد ، يسقطون بيد نظام لم يطلق رصاصة منذ حرب 1973 ، ولم يتطلع إلي تحرير الجولان بقطرة دم ، وأعد جيشا جرارا ، لا لكي يحرر به شبر أرض ، بل ليحتل نفوس الناس ، ويحسب عليهم شهقاتهم وزفراتهم ، ويقتلهم بلا رحمة ، وقد كان كل ذلك كافيا لضمان صمت الناس فيما مضي ، لكنه لم يعد كذلك بعد ثورة الأطفال ، فقد استيقظت سوريا ببراءة ورودها ، وغادرت مرابع الخوف ، وعرفت قوة الناس حين يستيقظون من نومة أهل الكهف ، وحين يغادرهم الفزع الثقيل الموروث ، وحين تتفتح الأزهار من جراحهم ، وتنمو حدائق الحرية فوق القبور ، فللحرية الحمراء باب بكل يد مضرجة يدق. كانت الثورة السورية في سيرتها الأولي مثالا دراميا رائعا ، حفظت تفوقها الأخلاقي بطبيعتها السلمية التامة ، لم يخالطها ميل طائفي ، ولا ميل لمبادلة القتل بالقتل ، لكن إمعان النظام في القتل خرج بها عن طبيعتها الأولي ، ودخلت علي الخط ضلالات أغرت بها وقائع التجربة الليبية ، والتي بدأت بثورة سلمية صافية تحولت بعدها إلي حرب دمار أهلي ، وجرت الاستعانة بتدخل أجنبي أطفأ فرحة ليبيا بنهاية الديكتاتور القذافي ، وحول ليبيا - بعد القذافي - إلي دولة افتراضية موزعة علي سلطات مدن وميليشيات لجماعات ، وكان الإغراء الليبي مسيئا لنصاعة وسلمية وذاتية الثورة السورية ، تغير علم التظاهر علي الطريقة اللليبية , وجرت محاولات لخلق " بنغازي " سورية ، وجري سحب الثورة السورية لارتهان خارجي ، وكانت تلك فرصة النظام لتصعيد قمعه الدموي ، واثبات دعواه عن وجود ميليشيات مسلحة وجماعات إرهاب ، وتدخل أجنبي لتسليح وتنظيم متمردين ، وتسعير الصراع الطائفي ، وجر البلد إلي حرب أهلية طاحنة ، غام معني الثورة ، وبرز معني الحرب الأهلية ، وبدت سوريا وكأنها دخلت أو تكاد إلي النفق المظلم ، بدت الثورة السورية محتجزة ، وقفزت إلي المشهد قيادات تطفلت علي نزيف الدم ، وادعت لنفسها دورا قياديا لم يكن لها في أي وقت ، وارتزقت علي موائد العواصم الخليجية والغربية ، وغسلت وجه النظام الكئيب القاتل الناهب ، ومنحته وجها وطنيا مستعارا لم يكن له أبدا ، وعززت - عمليا - دعواه بأنه يخوض معركة وطنية ضد التدخل الأمريكي الغربي وتابعه الخليجي ، وكان غريبا ومثيرا للسخرية ان يجري تصوير الملك عبد الله عاهل السعودية ، وكأنه بطل الثورة العربية وسند الثورة السورية ، ومع أن الملك - إياه - لا يسمح لشعبه بمجرد انتقاد حكمه ، أو حتي إبداء ملاحظة ، ويعتبر حكمه - مع كهنته - أن المظاهرات حرام وكفر بواح ، وأن كلمة ثورة شرك بالله .. وبجلالة الملك (!). ولأن الحق لا يضاد بعضه بعضا ، فمن الضروري كشف اختلاط الأوراق علي ساحة سوريا النازفة ، فالثورة حق لا مراء فيه ، وإسقاط النظام السوري هو الحق كله ، وتماما كما أن من حق الناس إسقاط النظام السعودي ، وغيره من نظم القهر العربية الديناصورية ، والنظام السوري لا يمثل الشعب السوري ، ودستوره الجديد لا يفيد في تجميل الوجه القبيح ، ودستوره الحقيقي هو القتل والنهب والتدمير ، كما أن معارضة الخارج المريبة لا تمثل الشعب السوري ، وبعض وجوهها في مرتبة العمالة الصريحة ، وكلها تتطفل علي عذاب الشعب السوري ، وتستحلب ثورته ، وتخنقها عمليا ، وتقدم خدمة جليلة للنظام من حيث تدري أو لا تدري ، فلم يثر الشعب السوري من أجل تنصيب زيد أو عبيد ، ولا من أجل تحويل سوريا إلي بلد محطم مفكك ، أو إلي إمارة تابعة للخلافة الأمريكية ، بل ثار الشعب السوري لتحطيم الديكتاتورية الباغية السارقة ، ومن أجل تحصين استقلال سوريا بحرية شعبها ، ولا يوجد ثوري حقيقي يقبل بنجدة استعمارية ، وسيناريو احتلال وضياع العراق ليس قابلا للتكرار في سوريا ، تماما كما أن سيناريو الهوان الليبي ليس واردا ، ومثل هذه السيناريوهات تخاصم معني الثورة ، فكرامة الشعب وكرامة الوطن صنوان لا يفترقان ، وفك " العروة الوثقي " لا يقود سوي إلي مذابح أفظع مما يجري في سوريا الآن بآلاف المرات ، والتورط في الخطيئة يجعل السوريين كالمستجير من الرمضاء بالنار ، والحل هو أن تستقر النجوم في مداراتها ، وأن تصمد الثورة السورية في ساحاتها ووسط عذاباتها , وبصورة سلمية تامة تستعيد للثورة تفوقها الأخلاقي ، وأن تثبت عليه واثقة بنصر الله ، وأن تفضح دموية النظام ، وأن تصل به إلي حافة الهزيمة التي لا مفر منها في النهاية ، وأن تفض صمت دمشق وحلب بالذات ، وقتها سوف تتزايد ظاهرة انشقاقات الجيش ، ويزيد الشقاق والانشقاق في رأس الحكم المنهك ، وتنتصر الثورة لسوريا لا علي سوريا .