«مستقبل وطن».. أمانة الشباب تناقش الملفات التنظيمية والحزبية مع قيادات المحافظات    تفاصيل حفل توزيع جوائز "صور القاهرة التي التقطها المصورون الأتراك" في السفارة التركية بالقاهرة    200 يوم.. قرار عاجل من التعليم لصرف مكافأة امتحانات صفوف النقل والشهادة الإعدادية 2025 (مستند)    سعر الذهب اليوم الإثنين 28 أبريل محليا وعالميا.. عيار 21 الآن بعد الانخفاض الأخير    فيتنام: زيارة رئيس الوزراء الياباني تفتح مرحلة جديدة في الشراكة الشاملة بين البلدين    محافظ الدقهلية في جولة ليلية:يتفقد مساكن الجلاء ويؤكد على الانتهاء من تشغيل المصاعد وتوصيل الغاز ومستوى النظافة    شارك صحافة من وإلى المواطن    رسميا بعد التحرك الجديد.. سعر الدولار اليوم مقابل الجنيه المصري اليوم الإثنين 28 أبريل 2025    لن نكشف تفاصيل ما فعلناه أو ما سنفعله، الجيش الأمريكي: ضرب 800 هدف حوثي منذ بدء العملية العسكرية    الإمارت ترحب بتوقيع إعلان المبادئ بين الكونغو الديمقراطية ورواندا    استشهاد 14 فلسطينيًا جراء قصف الاحتلال مقهى ومنزلًا وسط وجنوب قطاع غزة    رئيس الشاباك: إفادة نتنياهو المليئة بالمغالطات هدفها إخراج الأمور عن سياقها وتغيير الواقع    'الفجر' تنعى والد الزميلة يارا أحمد    خدم المدينة أكثر من الحكومة، مطالب بتدشين تمثال لمحمد صلاح في ليفربول    في أقل من 15 يومًا | "المتحدة للرياضة" تنجح في تنظيم افتتاح مبهر لبطولة أمم إفريقيا    وزير الرياضة وأبو ريدة يهنئان المنتخب الوطني تحت 20 عامًا بالفوز على جنوب أفريقيا    مواعيد أهم مباريات اليوم الإثنين 28- 4- 2025 في جميع البطولات والقنوات الناقلة    جوميز يرد على أنباء مفاوضات الأهلي: تركيزي بالكامل مع الفتح السعودي    «بدون إذن كولر».. إعلامي يكشف مفاجأة بشأن مشاركة أفشة أمام صن داونز    مأساة في كفر الشيخ| مريض نفسي يطعن والدته حتى الموت    اليوم| استكمال محاكمة نقيب المعلمين بتهمة تقاضي رشوة    بالصور| السيطرة على حريق مخلفات وحشائش بمحطة السكة الحديد بطنطا    بالصور.. السفير التركي يكرم الفائز بأجمل صورة لمعالم القاهرة بحضور 100 مصور تركي    بعد بلال سرور.. تامر حسين يعلن استقالته من جمعية المؤلفين والملحنين المصرية    حالة من الحساسية الزائدة والقلق.. حظ برج القوس اليوم 28 أبريل    امنح نفسك فرصة.. نصائح وحظ برج الدلو اليوم 28 أبريل    أول ظهور لبطل فيلم «الساحر» بعد اعتزاله منذ 2003.. تغير شكله تماما    حقيقة انتشار الجدري المائي بين تلاميذ المدارس.. مستشار الرئيس للصحة يكشف (فيديو)    نيابة أمن الدولة تخلي سبيل أحمد طنطاوي في قضيتي تحريض على التظاهر والإرهاب    إحالة أوراق متهم بقتل تاجر مسن بالشرقية إلى المفتي    إنقاذ طفلة من الغرق في مجرى مائي بالفيوم    إنفوجراف| أرقام استثنائية تزين مسيرة صلاح بعد لقب البريميرليج الثاني في ليفربول    رياضة ½ الليل| فوز فرعوني.. صلاح بطل.. صفقة للأهلي.. أزمة جديدة.. مرموش بالنهائي    دمار وهلع ونزوح كثيف ..قصف صهيونى عنيف على الضاحية الجنوبية لبيروت    نتنياهو يواصل عدوانه على غزة: إقامة دولة فلسطينية هي فكرة "عبثية"    أهم أخبار العالم والعرب حتى منتصف الليل.. غارات أمريكية تستهدف مديرية بصنعاء وأخرى بعمران.. استشهاد 9 فلسطينيين في قصف للاحتلال على خان يونس ومدينة غزة.. نتنياهو: 7 أكتوبر أعظم فشل استخباراتى فى تاريخ إسرائيل    29 مايو، موعد عرض فيلم ريستارت بجميع دور العرض داخل مصر وخارجها    الملحن مدين يشارك ليلى أحمد زاهر وهشام جمال فرحتهما بحفل زفافهما    خبير لإكسترا نيوز: صندوق النقد الدولى خفّض توقعاته لنمو الاقتصاد الأمريكى    «عبث فكري يهدد العقول».. سعاد صالح ترد على سعد الدين الهلالي بسبب المواريث (فيديو)    اليوم| جنايات الزقازيق تستكمل محاكمة المتهم بقتل شقيقه ونجليه بالشرقية    نائب «القومي للمرأة» تستعرض المحاور الاستراتيجية لتمكين المرأة المصرية 2023    محافظ القليوبية يبحث مع رئيس شركة جنوب الدلتا للكهرباء دعم وتطوير البنية التحتية    خطوات استخراج رقم جلوس الثانوية العامة 2025 من مواقع الوزارة بالتفصيل    البترول: 3 فئات لتكلفة توصيل الغاز الطبيعي للمنازل.. وإحداها تُدفَع كاملة    نجاح فريق طبي في استئصال طحال متضخم يزن 2 كجم من مريضة بمستشفى أسيوط العام    حقوق عين شمس تستضيف مؤتمر "صياغة العقود وآثارها على التحكيم" مايو المقبل    "بيت الزكاة والصدقات": وصول حملة دعم حفظة القرآن الكريم للقرى الأكثر احتياجًا بأسوان    علي جمعة: تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم أمرٌ إلهي.. وما عظّمنا محمدًا إلا بأمر من الله    تكريم وقسم وكلمة الخريجين.. «طب بنها» تحتفل بتخريج الدفعة السابعة والثلاثين (صور)    صحة الدقهلية تناقش بروتوكول التحويل للحالات الطارئة بين مستشفيات المحافظة    الإفتاء تحسم الجدل حول مسألة سفر المرأة للحج بدون محرم    ماذا يحدث للجسم عند تناول تفاحة خضراء يوميًا؟    هيئة كبار العلماء السعودية: من حج بدون تصريح «آثم»    كارثة صحية أم توفير.. معايير إعادة استخدام زيت الطهي    سعر الحديد اليوم الأحد 27 -4-2025.. الطن ب40 ألف جنيه    خلال جلسة اليوم .. المحكمة التأديبية تقرر وقف طبيبة كفر الدوار عن العمل 6 أشهر وخصم نصف المرتب    البابا تواضروس يصلي قداس «أحد توما» في كنيسة أبو سيفين ببولندا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الأرض بتتكلم عربي
نشر في الشروق الجديد يوم 15 - 11 - 2014


(1)
مشهد:1 ..صيف 2011..حديقة المركز الثقافي الألماني بالقاهرة.
حوار مطول وقع بيني وبين زميلة في أحد فصول تعلم اللغة الألمانية، فضلت إعادة سرده بالعامية كما دار.
الزميلة: عملت مداخلة الصبح في الراديو.الحلقة كانت على التعليم، واشتكيت للمذيع من مصاريف مدرسة الأولاد. بأدفع سنويًا للثلاثة 92 ألف جنيه وكمان بيطالبوني بمصاريف إضافية.
أنا: وهي تستحق كل الفلوس دي؟
الزميلة: طبعا المناهج باللغة الألمانية والكلام في ''الكلاس'' ألماني حتي الأعياد الألمانية بيحتفلوا بها
أنا: وبيدرسوا عربي ؟
الزميلة: طبعا فيه حصة بيتعلموا فيها لغة عربية.
أنا: في مصر بيدرسوا المناهج باللغة الألمانية وحصة واحدة فقط للغة العربية؟
الزميلة : طبعًا هو أنا دفعت كل ده عشان يدرسوا بالعربي يعني
(2)
4 معلومات قد تود معرفتها عن ألمانيا ولغتها
1-اللغة العربية هي أكثر اللغات غير الأوروبية تأثيرًا في اللغة الألمانية بحسب ما أورده الأكاديمي الألماني أندرياس أونجر في كتابه Von Algebra bis Zucker: Arabische Wörter im Deutschen، من الجبر حتى السكر : الكلمات العربية في اللغة الألمانية.
2-هل تعرف قائل تلك الأبيات؟
أزف الترحال بيد أن قلوبنا.. أبت الرحيل ففارقت أجسادنا
وهوت إلى كنف الصدقة عندكم.. مأسورة ثم استقرت عندنا
-الأبيات الرائعة أعلاه لا تخص المتنبي أو شوقي. قالها باللغة العربية أحد أعظم قياصرة ألمانيا، الإمبراطور فريدريش الثاني حفيد بارباروسا في خطبة وداعه للأمير فخر الدين مبعوث السلطان الكامل. كما أوردت عالمة الأديان والمستشرقة الألمانية زيجريد هونكه، في مؤلفها Allah ist ganz anders الله ليس كذلك..
3 – لم يُعظم أجنبي ثقافة العرب ولغتهم وتاريخهم بقدر ما فعل يوهان جوته أعظم شعراء ألمانيا. بلغ عشق الرجل باللغة العربية أن أحب القرآن الكريم، وأسهب في تأليف قصائد كاملة في مؤلفه الأشهر، الديوان الشرقي الغربي عن عظمة العرب الأوائل والمسلمين. أشهرها قصيدة نساء مصطفيات Auserwählte Frauen التي مدح فيها السيدة خديجة والسيدة فاطمة الزهراء ومريم بنت عمران. وقصيدة رجال مؤهلون Berechtigte Männer عن غزوة بدر وشجاعة أصحاب الرسول..
-ومن المفارقة أن تدافعت كلمات احتقار العربية من الزميلة في مكان يحمل اسم شاعر ألماني بني معظم تراثه الأدبي على أكتاف لغة الضاد. إذ إن ألمانيا عندما قررت اختيار اسم مُوحد لكل مراكزها الثقافية حول العالم، لم تجد أفضل من عاشق تراث العرب، جوته..
4-''لغتي هي مسكني، موطني ومستقري، عنوان هويتي، ومصدر بعثها، هي حدود عالمي الحميم، معالمه وتضاريسه، ومن خلال نوافذها وعيونها أنظر إلى بقية أرجاء الكون الواسع'' من وصايا الفيلسوف الألماني هيدجر بضرورة المحافظة على اللغة الألمانية كلغة إبداع وتعليم. الدولة الألمانية لم تخذل فيلسوفها قط. ولم تقبل يومًا أن يتعلم أبناؤها بلغة غير الألمانية.
كبار ملوكهم أجادوا العربية، أعظم أدبائهم تغني بها، مراكز إشعاعهم الثقافي تحمل اسم من افتتن بالعرب وتراثهم. لغتنا صاحبة النصيب الأوفر في صناعة قاموس كلماتهم، ونحن الآن من يتبرأ من العربية، ونفضل التعلم بالألمانية. دروس التاريخ لا تنتهي..
(3)
وُلد قبل أكثر من قرنين من الزمن في إحدى قري ليتوانيا، تلقي تعليمًا دينيًا يهوديًا، أكمل دراسته الجامعية في كلية الطب بباريس عام 1878. تنقل بين عديد البلدان العربية، قبل أن يستقر في أرض فلسطين عام 1881. ومنها بدأ مشروعًا غير وجه الحياة في الكيان الصهيوني إلى الأبد. أدرك عند تفكيره بدولة إسرائيل المستقبلية، ما سبق وأدركه الألمان.لاحياة لأمة بدون لغة،ولا هوية مُشتركة تجمع أبنائها إن لم تُغرس فيهم المعرفة بلغتهم الأم.
تعرض للإحباط في بداية مشواره باعادة إحياء اللغة العبرية.أخبره معارضوه بأنها لغة ميتة على صعيد المعاملات الحياتية منذ قرون،واستخدامها يقتصر فقط على طقوس العبادة.وأن إعادة بعثها من سباتها العميق،بل وإقناع اليهود باستخدامها بعد أن تفرقت بهم السبل وباتوا يتحدثون بعشرات اللغات الحية، أمرا في حكم المستحيل.لم يستسلم.
أنشأ أول مجلة يومية باللغة العبرية باسم هأور لنشر الروح القومية الصهيونية بين شباب اليهود.وضع أسس أول بيت يهودي لاتُستخدم فيه إلا اللغة العبرية. تحول البيت بمرور الوقت إلى نموذج تم تعميمه في أماكن أخرى.عكف لمدة ربع قرن على إنتاج أول معجم للغة العبرية،أنجز منه 9 مجلدات ضخمة حتى وفاته عام 1922.وفي العام 1959 أتمت الأكاديمية الإسرائيلية مشروعه القومي بإصدار معجم اللغة العبرية في 17 مُجلدا.ومن وقتها صارت العبرية لغة رسمية للدولة في كل مجالاتها الإدارية والتعليمية.
بلغة ميتة أحياها أليعازر بن يهوذا،صنعت إسرائيل،تفوقها العلمي.حاز 12 من أبنائها جائزة نوبل،واحتلت 7 من جامعاتها قائمة أفضل 100 جامعة في العالم.وأنتجت قنبلتها النووية وتحولت لسادس أكبر مُصدر للسلاح على وجه الأرض.حدث كل هذا بينما ما زال العرب يصرون على تجاهل لغة عملاقة صنعت مجدهم في القرون الوسطى لصالح تعليم جامعي ومدرسي بلغات شتى.ويظنون أنهم بذلك سيصنعون تقدمًا.
بناء أمة متقدمة لايمكن أن يتم بلسان غيرها..دروس التاريخ تستمر
(4)
مشهد 2..شتاء 2009..مُدرج العريان بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية،جامعة القاهرة..
كلمات عتاب قاسية وجهها لي زميل جاء من طاجيكستان لدراسة العلوم السياسية بالقاهرة ،إثر مناقشة جمعته مع أحد المنتسبين لطاقم التدريس.أسهب المعيد في لوم شديد للصديق الطاجيكي على قراره الدراسة بمصر،وأنه كان من الأفضل له لو التحق بإحدى الجامعات الأوروبية،أو على الأقل انتسب لقسم اللغة الإنجليزية بالكلية،بدلًا من التواجد بالقسم العربي.
''لماذا تحتقرون العربية إلى هذا الحد؟ نعم،كان بإمكاني الذهاب إلى جامعة أكثر رقيًا في التصنيف العالمي.كان بإمكاني الانتساب للقسم الإنجليزي في الكلية.ولكني أصريت على تعلم العربية،وبذلت مجهودًا خرفيًا لكي يماثل لساني لسانكم،وينطق بمفرادتكم،ويستوعب لهجاتكم،وبدلًا من أن يتم تقديري على إجادة لغتكم،أتعرض للتوبيخ...
أتعلم؟ في بلادنا حيث ينطق الناس الروسية والفارسية،تُبجل اللغة العربية إلى حد لايمكن تصوره.ينهض الواحد منا بمجرد رؤية ورقة مُلقاة على الأرض وبها حروف عربية،يُقبلها ويحفظها في مكان آمن حتى وإن كان بها شعر أو غناء،لايصح من وجهة نظر قومي أن تدوسها أقدام البشر،لأنها مكتوبة بلغة العرب،لغة القرآن وأهل الجنة..
أتعلم أيضًا،قبل الإجازة الصيفية الفائتة،تلقيت اتصالًا من أبي،يأمرني بشراء هاتف نقال من مصر،أخبرته بأن معظم الهواتف الموجودة في مصر صناعة صينية،ومن الأفضل شراء واحد من أحد أسواق العاصمة الطاجيكية دوشنبه.سيكون أرخص وأكثر جودة.نهرني بشدة وقال.. ولكنه يأتي من مصر،من بلاد العرب،وهذا يكفي..
لم أندم يومًا علي سنين شاقة أمضيتها في تعلم العربية،ولا على قراري بدراسة العلوم السياسية باللغة العربية عوضَا عن الإنجيلزية.مايتملكني هو فقط شعور بالغيظ والغضب من احتقاركم للغتكم،وكأنها صارت مدعاة للعار وسببًا للتخلف.صدقني لن يحترم العالم يومًا من يحاول التنصل من هويته ولغته ويقبل بالذوبان في بحور الثقافة الإنجلوسكسونية''.
(5)
عام 1994 أقر البرلمان الفرنسي قانونًا حمل اسم مُقدمه،وزير الثقافة جاك توبون.بأن تكون اللغة الفرنسية حصرًا هي لغة التعليم والامتحانات ،والأطروحات الأكاديمية في المؤسسات التعليمية الرسمية والخاصة.وألزم الحكومة باستخدام اللغة الفرنسية في المطبوعات الحكومية الرسمية،وفي جميع أماكن العمل،وفي جميع الإعلانات،ويافطات المحلات،والعقود التجارية..
قانون توبون ليس الخط الكاشف الوحيد في اعتزاز الفرنسيين بلغتهم،في مقابل احتقار كثير من العرب للغتهم.موقع بي بي سي نشر تقريرًا بتاريخ الجمعة،24 مارس 2006،بعنوان Chirac upset by English address.تحدث فيه عن شجار دار بين الرئيس الفرنسي جاك شيراك،ورئيس اتحاد العمال الفرنسي أنست أنتون ساليير أمام كل زعماء القارة الأوروبية في قمة الاتحاد الأوروبي في بروكسل.الشجار وقع بسبب استخدام رئيس اتحاد العمال الفرنسي اللغة الإنجليزية في خطابه الموجه للقادة الأوروبيين.انزعج شيراك،قاطعه وطلب منه الحديث بلغته الأم الفرنسية،فأجابه ساليير بأن الإنجليزية تحولت إلي اللغة الرئيسية في عالم أعمال اليوم.
شعر شيراك بإهانة لغته الأم فانسحب فورًا من القمة رفقة وزير خارجيته فيليب دوستو بلازي،ووزير المالية تيري بريتون.ولم يعد إلى القاعة إلا لحضور خطاب رئيس البنك المركزي الأوروبي،الفرنسي جان كلود تريشيه،والذي أُلقي بالفرنسية نزولًا على إرادة شيراك. وعندما سُؤل شيراك لاحقًا عن سر انسحابه من المؤتمر،أجاب ''فرنسا لديها احترام كبير للغتها''.
فرنسا لاتتصرف هكذا اعتباطًا أو من دوافع قومية متصلبة،هي تُدرك تمام الإدراك أن هناك ثمة حرب حضارية عنيفة تهدف لدثر ثقافات وما يرتبط بها من قيم حضارية لصالح وحدة ثقافية واحدة.أولي خطواتها استهداف الجمل والتراكيب والأفعال بوسائل شتي،تنتهي بإفراغ اللغة من مضمونها وإفقادها كل أدوات تأثيرها،ومعها تُقوض قدرة الدولة المسُتهدفة في بناء هويتها القومية الجامعة،وصناعة مساحات نفوذها في الخارج.
صديقي الطاجيكي مُحق..لن يحترمك العالم ما لم تحترم لغتك وهويتك..هكذا تتصرف الدول العظمي،وهكذا تُحترم..وهكذا يفعل العرب بلغتهم،وهذا هو مصيرهم بين الأمم.
(6)
وماذا تتوقع الدولة عند قبولها بتدريس العلوم باللغات الأجنبية وإهمال العربية لهذه الدرجة؟ أن تخلق نخبة جديدة تستوعب العلوم وتنتشل الأمة من أزماتها المعرفية. لن يحدث.لأن تغريب العلوم لن يحل أزمة،بالعكس سينتج أزمات مُضاعفة،سببها الانفصام بين لغة العلم ولغة الحياة.كما يوضح الدكتور مصطفي حجازي في كتابه التخلف الاجتماعي:مدخل إلى سيكولوجية الإنسان المقهور.
إذ بمجرد أن يخرج الطالب من قاعة العلم حيث اللغة الأجنبية المُنضبطة،سيكون مُجبرًا على التواصل بلغته الأم التي تعكس واقعًا يعج بالصيغ الانفعالية والوجدانية ذات الطابع الخطابي الذي يهيج المشاعر لكنه يعجز عن التخطيط والسيطرة على الواقع.وهنا إما أن يتحول العلم لقشرة تغطي التخلف وإما أن يصبح أداة للانفصال عن الناس والتعالي على قضاياهم والتنكر لمشاكلهم.الحل لم يكن يومًا في تغريب العلوم،بل تعريبها وإدخال الصيغ العلمية ما سيؤثر بالتبعية على الذهن العربي وإدراكه للواقع بطريقة علمية أكثر انضباطا.
(7)
إذن فاستحضار التجارب الألمانية،والإسرائيلية،والفرنسية في حماية اللغة،ومعها مفهوم تعريب العلوم،دعوة لانعزال العرب وانقطاعهم عن تعلم اللغات،ومسايرة ما يحدث في العالم من تطورات؟
قطعًا لا.هناك فرق شاسع ما بين تعلم اللغات الأجنبية والتعلم باللغات الأجنبية.الأول مرغوب ،والثاني مرفوض.الأول ينتج أجيالًا مُحافظة على هويتها،مُنفتحة على العالم.والثاني ينتج أجيالًا منفصلة عن مجتمعها ولا تعدو في معظمها سوى أن تكون امتدادًا لسياسات الخارج،ويدًا يحقق بها أهدافا ثقافية عجزت عن تحقيقها حشوده العسكرية.
وزارة المعارف المصرية في عشرينات القرن الماضي أدركت ذلك جيدًا.أبدت اهتمامًا فائقًا بتعليم اللغات الأجنبية في مدارسها،دون أن يعني ذلك تخليًا عن تدريس المواد بالعربية.كان بإمكان طلاب المدارس الحكومية المصرية في سن الثانية عشرة دراسة كل المواد العلمية والأدبية باللغة العربية.وفي نفس الوقت دراسة الأدب الإنجليزي المقارن،وقراءة مؤلفات عملاقة من نوعية تقدم الإنجليز السكسون لعالم الاجتماع الفرنسي أدمون ديمولان بالإنجليزية،وكتاب التربية الاستقلالية لجان جاك روسو بالفرنسية..
والنتيجة نخبة وطنية مصرية،صالت وجالت في جامعات الغرب،دون فقدان هويتها،وعادت لتؤسس معارف مصرية،وتثري المكتبة العربية باآاف التراجم والمؤلفات،صنعت دور مصر الثقافي الرائد في محيطها العربي أواسط القرن المنصرم.ومازالت مصدر إلهام لكل باحث عن المعرفة.
هذا ما يخبرنا به المفكر اليساري وأستاذ الأدب الإنجليزي الراحل لويس عوض عن فترة دراسته بمدرسة المنيا الثانوية في مذكراته ''أوراق العمر''.ومن الجدير بالذكر أن جودة نظام التعليم الحكومي المصري آنذاك دفعت لويس عوض لترك مدرسة الفرير الفرنسية بعد قضاء تعليمه الابتدائي فيها،والذهاب لمدرسة المنيا الأميرية الإعدادية ومن بعدها المنيا الثانوية.قرار لم يندم عليه قط لتفوق التعليم الحكومي على الأجنبي.
(8)
الخطأ إذن ليس في تفكير زميلة دراسة اللغة الألمانية بإدخال أولادها لمدارس أجنبية.لو كانت وجدت البديل بمدرسة حكومية مصرية على نفس مستوى مدارسنا قبل قرن.لكانت فعلت كما فعل أهل لويس عوض بإخراجه من الفرير وإلحاقه بمدرسة المنيا الحكومية،ولم تكن يومًا لتفكر في تكبد كل تلك المصاريف ولا أن ينطق أولادها من صغرهم بالألمانية،ويعجز لسانهم عن نطق العربية.
الخطأ يكمن في دولة تخلت عن دورها في رسم السياسية التعليمية ،كما سبق وأن انسحبت من جل أدوراها الاجتماعية.وسلمت الدفة لقطاع من رجال الأعمال النيوليبرال،لم تقدنا سياساتهم يومًا إلى رخاء اقتصادي أو تميز علمي.فقط مزيد من المعايرات الطبقية،وحقد اجتماعي متراكم ينتظر الوقت المناسب لينفجر في وجه الجميع.
(9)
هل سمعت عن أديلارد أوف باث؟
أحد أهم المستشرقين والمترجمين الإنجليز،عاش في القرن الحادي عشر.كان في غاية الضيق من سيادة التخلف في بلاده.قرر الارتحال إلى واحة التقدم العلمي آنذاك.بلاد المسلمين،صقلية.تعلم هناك اللغة العربية وأتقنها.وبدأ في ترجمة كل ما يقع تحت يديه من مؤلفات عربية.أنهى مهمته بعد سنوات،وعاد مرة أخرى إلى إنجلترا.حيث عمل مُعلمًا للملك هنري الثاني.ألف كتابا بعنوان ''أسئلة إلى الطبيعة'' وهو عبارة عن محاورات بينه وبين ابن أخيه،يسرد فيه معالم البون المعرفي الشاسع بين العرب والإنجليز،وتبقي أبلغ عبارة فيه..
''لقد أتيح لي أن أتعلم شيئا من الأساتذة العرب الحكماء عن الانقياد للعقل،أما أنت فإنك تتبع صورة فرضتها عليك هيمنة مستبدة،كأنك مقيد إلى رسن.إننا -ويقصد الإنجليز طبعا -إن تهاوننا في فهم أسرار هذا الكون،وجماله ونحن نعيش فيه،فنحن نستحق أن نطرد منه طردا''
أديلارد أوف باث كان يُدرك- كما ورد في مؤلف زيجريد هونكه شمس الله تسطع على الغرب Allah Sonne Über dem Abendland،وكما ورد في كتاب بيت الحكمة House of Wisdom لجوناثان ليونز-أن أفكاره التنويرية لن تلقى قبولًا من نخبة بلده،ذلك أنهم لايثقون إلا في منتجات الحضارة العربية وأقلام مفكريها.فما كان منه إلا أن نسب مؤلفاته إلى العلماء العرب طمعًا في أن تلقى رواجًا،وقد كان.
(10)
هذا ما كان عليه العرب،وما كانت عليه لغتهم.لم نتقدم يومًا إلا بالعربية،وإن كُتب لنا النهوض من كبوتنا،فلن يكون إلا بها.وإذا كان هناك من شىء يتعين علينا فعله،ونحن على بعد شهر من احتفال اليونسكو باليوم العالمي للغة العربية ،سيكون فقط الإصغاء لوصايا الزعيم الفيتنامي هو شي منه إلى شعبه..
''لا انتصار لنا على أنفسنا وعلى أعدائنا إلا بالعودة إلى ثقافتنا القومية ولغتنا الأم.. وحتى تحين لحظة الانتصار.. حافظوا على صفاء لغتكم كما تحافظون على صفاء عيونكم..وحذارٍ حذارٍ من أن تستعملوا كلمة أجنبية محل كلمة من لغتكم الأم..من هنا تبدأ الهزيمة ويتبدد حلم الانتصار''.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.