هل التحدث بلغة أجنبية وخاصة في اجتماعات عامة هو انتقاص للوطنية وتخل عن الهوية القومية التي تعتبر اللغة العربية أحد أهم ركائزها؟ تصادف أن شاركت في مؤتمرين في الأسبوعين الماضيين أعرب فيهما كثير من المشاركين عن هذا الرأي. الأول كان في الدارالبيضاء بالمغرب ثار فيه بعض الحاضرين واعترضوا علي أن كل المداخلات والمناقشات كانت تدور باللغة الفرنسية, والثاني بمكتبة الإسكندرية احتج خلاله بعض الإخوة العرب علي اختيار المتحدثين من المصريين والعرب اللغة الانجليزية للتعبير عن أنفسهم. وفي المغرب خصني أحد الأساتذة بجامعة محمد الخامس بسهام النقد لأنني قدمت بحثي بالفرنسية مثلي مثل كل المشاركين في الندوة. فأجبته بأن غالبية الحاضرين من العرب فلماذا لم تعترض عليهم؟ وشعرت من كلامه أنهم يعتبرون مصر المدافع الأول عن العربية وأنه كان يتوقع مني أنا بالذات أن أتحدث بلغتنا القومية. ولا شك أن السؤال جدير بالطرح. فقد تزايد عدد الندوات واللقاءات والمؤتمرات والموائد المستديرة التي يشارك فيها العرب علي الصعيد الدولي. فهل نلتزم نحن المصريين والعرب بالتحدث بلغتنا الأم ونرفض الكلام بأي لغة أجنبية حتي لا تذوب هويتنا ولا يحتوينا المشاركون من الدول الغربية بلغاتهم خاصة الانجليزية والفرنسية؟ هل نركن للتفاهم مع الغير إلي الترجمة الفورية التي صارت موجودة في كل الاجتماعات الكبيرة؟ أم يتحدث من يستطيع منا باللغات الأجنبية الأكثر شيوعا في العالم وعلي رأسها الانجليزية حتي يكون التواصل مباشرا. وقد يقول بعض المزايدين ولماذا لا يتعلم الأجانب اللغة العربية؟ لماذا نضطر نحن إلي الخضوع لثقافتهم وهم لا يبذلون أي مجهود للتفاهم معنا؟ وواقع الأمر أن اللغة العربية ظلت لقرون طويلة أهم لغة في العالم. كانت لغة الثقافة والعلم والمعرفة خلال العصور الذهبية للدولة العربية الإسلامية. كانت لغة الاختراعات والطب والفلك والطبيعة والكيمياء بفضل كبار العلماء مثل ابن سينا وابن نفيس وجابر بن حيان والخوارزمي وغيرهم كثيرون. ومنذ قرنين كانت الفرنسية هي لغة الدبلوماسية والسياسة والقانون, وكانت كل النخب مضطرة لتعلمها ومنها العائلة المالكة وأبناء الصفوة في مصر. أما الآن فلا بد أن نعترف بأن الانجليزية صارت الأقرب إلي ما يسمي' لغة عالمية' وإن كنت لا أحب كثيرا هذه التسمية لانها تفتقر إلي الدقة العلمية. لكنه لا يمكن أن ينكر عاقل أن الانجليزية قد فرضت نفسها كلغة للعلم والفن والتجارة والمعاملات بين أبناء الدول المختلفة. فلو جري اتصال بين رجلي أعمال الأول من اليابان والآخر من البرازيل وهما في طرفي العالم فأغلب الظن أن لغة التفاهم الوحيدة بينهما ستكون الانجليزية. ولكي نتبين صحة هذا القول فإن عدد أبناء الشعوب العربية يصل الآن إلي نحو330 مليونا بينما لا يتحدث العربية سوي نحو280 مليونا أو أكثر قليلا.. وأنا هنا لا أتحدث عن العربية الفصحي وإنما اللهجات حيث إن هناك عشرات الملايين في المغرب العربي والعراق واليمن يستخدمون لغات لا علاقة لها بالعربية. أما الانجليزية فعكس ذلك. هناك اليوم نحو350 مليون تعتبر الانجليزية لغتهم الأم حيث إن هناك ملايين من أبناء أمريكا اللاتينية المقيمين بالولايات المتحدة لا يجيدونها. لكن الأرقام التقديرية تقول إن أكثر من5,1 مليار من أبناء البشر يستطيعون التفاهم بالانجليزية. ولا شك أن حلم القومية العربية قد تلقي ضربة قاصمة في5 يونيو67, ثم أصيب في مقتل بعد معاهدة كامب ديفيد ومقاطعة الدول العربية لمصر, فتواري مذهب القومية العربية السياسية وأصبح في خبر كان. ومع ذلك فإن القومية الثقافية مازالت حية وقوية.. بل أستطيع أن أؤكد أنها ازدادت قوة مع تداعي فكرة القومية السياسية, وصارت هناك قطاعات كبيرة من المثقفين والكوادر يتخوفون مما يسمونه الغزو الثقافي الغربي وينادون بحماية تراثنا وحضارتنا ولغتنا من خلال رفض الأفكار والعادات والفنون والثقافات الوافدة من الخارج خاصة من الغرب. ومشكلة العرب مع لغتهم الأم مركبة وشديدة التعقيد. فهم متمسكون بلغة الضاد علي اعتبار أنها لغة القرآن الكريم وكلمة الله التي أنزلها علي سيدنا محمد. وقد أدركت صلابة هذا التمسك عندما أصدرت كتابا بعنوان' يسقط سيبويه' أطالب فيه بإعادة النظر في قواعد اللغة العربية فكان الهياج وشدة الاعتراض علي هذه الفكرة دليلا علي الرابطة المقدسة بين العربي ولغته الأم. لكن هناك مفارقة صارخة إذا نظرنا إلي أرض الواقع. ولو ألقينا نظرة علي الحالة اللغوية في عالمنا العربية فسنجد العجب العجاب. فلو اعتبرنا أن مصر, وهي القلب الجغرافي للعالم العربي ما زالت ترفع راية العربية, فإن جناحيه بعيدان كل البعد عن اللغة العربية. فالمغرب الذي خضع طويلا للاستعمار الفرنسي يؤثر مثقفوه وقياداته التحدث باللغة الفرنسية وهم يعرفونها أكثر من العربية كثيرا. وبعد الاستقلال سعي زعماء الدول المغاربية إلي ما اسموه' التعريب' أي تحويل التعليم والمعاملات الرسمية من الفرنسية إلي العربية. لكن هناك اتجاها قويا الآن للرجوع عن هذه السياسة. أما المشرق العربي وتحديدا الخليج فإن اللغة الإنجليزية صارت هي الأولي.. فهي لغة المعاملات والاجتماعات والصفقات التجارية وجميع أنواع الاتفاقات والتعاقدات, بل صارت هي لغة التعليم الأساسية ولم يعد من الممكن التوظف بإحدي الدول الخليجية دون إتقان الانجليزية كشرط مسبق للتعيين. وقضية اللغة ليست قضية حيادية. فهي تعكس توجهات فكرية وسياسية في العمق. والتيار القومي الذي ما زال حيا وخاصة في بعض الدول مثل سوريا وليبيا متمسك بهوية عربية تنفر من الانفتاح علي العالم الغربي. أما التيار الآخر فيري علي العكس أن الانفتاح هو طريق الخلاص الوحيد للعرب من أجل الخروج من المأزق الحضاري الذي يعيشون فيه الآن ولم تلح بعد في الأفق بوادر الخروج منه. فالاختيار اللغوي ليس عفويا. إما أن ننغلق ونرفض الكلام إلا بالعربية أو أن نتحدث باللغات المهيمنة الآن حضاريا.. لكن مع شدة الحذر لعدم فقدان هويتنا الثقافية العربية.