لقد تعلمنا من التاريخ أنه إذا أردت أن تنشىء أجيالاً جديدة لا ترتبط بحاضرها قبل ماضيها: اقطع صلتها باللغة الأم وكم من أمم كافحت بكل قواها للحفاظ على لغتها الأصلية حتى ولو كانت صعبة فظة وغير متداولة والمثال الصارخ على ذلك ألمانيا واللغة الألمانية نفسها. لقد انتابنى الذهول والتعجب والحيرة من طريقة تعامل أولياء أمور الطلاب مع دروس اللغة العربية كعرض من العروض المجانية للحكومة النمساوية لكل اللغات الأم ومنها اللغة العربية. اللغة هى ليست لغة نتحدث بها فقط، ولكنها لغة تشكلنا من ثقافة وحضارة وسلوكيات ومشاعر وتعبير. فعندما قرر الاتحاد الأوروبى تدريس اللغات الأم فى المدارس الأوروبية كان وما زال الغرض الأول هو تسهيل الإدماج على كل الأجانب فى كل المجتمعات الأوروبية، لأنهم كانوا أمام معضلتين إما أن يتعلم الآباء والأمهات لغات الدول الأجنبية التى يعيشون بها ويكونون هم المعبر لأولادهم للتربية الأوروبية والفهم والتواصل مع المدارس ولم تنجح الجهود لحل هذه المعضلة لأسباب كثيرة وعلى رأسها كبر سن المتعلمين. فكانت المعضلة الثانية وهى تعلم الأبناء لغتهم الأصلية لغة الأم ويكونون هم المعبر لأنفسهم ولآبائهم ولبلدانهم الجديدة من خلال دمج الثقافتين من خلال تعلم اللغتين، ولكن هنا تكون اللغة الأم كما لو كانت هى اللغة الثانية بالنسبة للطلاب. الصدمة التى واجهها كل من درس اللغة العربية كلغة أم، خاصة من يأخذ المهنة مأخذ الجد ويريد أن يفيد الطلاب بما تعلم من فنون التدريس بالأساليب التربوية الحديثة المتبعة هنا فى المدارس النمساوية وبالحس اللغوى والاطلاع على كل قواعد لغتنا الجميلة دائماً حتى لا يقدم للطلاب لغة متهرئة. الصدمة هى عدم مبالاة الغالبية من العرب لتعليم أولادهم اللغة العربية وحتى إذا سجلوا أولادهم وحضروا إلى الدروس فلا متابعة ولا اهتمام بالنظام المتبع لتعلم اللغة. وكلما حاولت توضيح أهمية تعلم اللغة، خاصة أن أكثر من تسعين بالمائة من الطلاب لا يعرفون القراءة والكتابة أو الإملاء جيداُ، فما بالكم بقواعد اللغة تجد الأعذار التى لا تنتهى بأنهم يدرسون بالألمانى وأنهم يتحدثون بالألمانية. ولكن هذا ما يفعله الأبناء فماذا تفعلون أنتم لتعليمهم لغتهم الأم؟ لا تجد إلا التقصير المطلق، ولكن كيف ذلك واللغة العربية تمثل أطول الآداب العالمية عمراً على الإطلاق، فهى اللغة التى يستطيع أبناؤها قراءة خمسة عشر قرناً من الإبداع والمعرفة، فى حين أن تاريخ اللغات الأخرى لا يزيد على خمسة قرون؟ ولكن للأسف الموضوع أخطر بكثير مما يتخيلون، فاللغة هى أساس أى تكوين حضارى وقوة اللغة من قوة الحضارة التى تمتلك تلك اللغة وقبل عام 1920 كان هناك أكثر من 75 لغة تكتب حروفها باللغة العربية ثم أتى الاستعمار الذى يأتى معه مركز للدراسات تبحث فى كيفية إعلاء حضارتها على حضارة مستعمراتها لكى تهيمن وتسيطر عليها بشتى الطرق الممكنة، تلك المراكز البحثية وجدت أن الطريقة الأقوى لفرض هيمنتها على العالم هو بفرض لغتها. وعلى الجانب الآخر توجد تجربة لابد أن ينظر إليها بعين الاعتبار والتأمل والتعلم ونتذكر عبارة قالها مفكر يهودى على مشارف إعلان دولتهم المزعومة. قال إليعازر بن يهودا "لا حياة لأمة دون لغة" وبدأ تنفيذ مشروع استمر50 عاماً تحولت العبرية خلاله من لغة دينية ميتة إلى لغة تدرس من الروضة حتى الدكتوراه فى علوم الفضاء، فنجت اللغة وتجسدت هويتهم. وبدأت الجماعات اليهودية فى نشر اللغة العبرية وسط اليهود بل غالبية اليهود الذى كانوا مؤمنين بتلك الفكرة قد أجبروا عائلتهم وأطفالهم أن يتكلموا بالعبرية فقط داخل المنزل للأبد ودون معرفة قوية بها. والآن بعد نجاحهم فى تكوين دولتهم فالجامعات فى إسرائيل لغتها الأولى هى العبرية حتى فى الأقسام التخصصية الدقيقة مثل الطب. السؤال الأهم هو لما لا يهتم أولياء الأمور بتعليم أولادهم اللغة العربية وهى بكل هذا التيسر وعدم التكلفة والمدارس الموزعة فى كل مكان؟ مع أنه كان من المفترض أن يكافحوا ويبذلوا أقصى ما فى وسعهم لتعليم أولادهم اللغة العربية، فليس لهم إطار وحصن يحميهم غير الإيمان الداخلى بقيم وسلوكيات ومعتقدات الحضارة العربية من خلال القراءة العربية لكل هذا الفكر الذاخر بكل ما يشفى غليل صدورهم فى فهم الهوة بين حضاراتنا والحضارات الأخرى والقدرة على التعامل مع كل تلك المتغيرات بالفكر والعلم وهم يقفون على أرض ثابتة. تسعى أوروبا الموحدة بلغاتها المتعددة إلى إحياء كل بلد للغتها الأصلية الحديثة من أجل بناء دولتهم. وتجاهد الحركة الفرانكوفونية على بقاء نفوذ الثقافة الفرنسية فى العالم بعد انحلال إمبراطوريتها السياسية، ونفرط ولا نبالى نحن بلغتنا القومية التى هى أيضا لغتنا "الدينية والعرقية" وندير ظهورنا إلى تراثنا وثقافتنا ومفرداتها الشرقية العربية ونتطلع إلى الثقافات الغربية. إن عدم الاكتراث باللغة العربية للأبناء (الأجيال الجديدة) وعدم إتقان اللغات الأجنبية للآباء يخلق فى النهاية وبشكل مختلف جيلاً جديداً من الأميين. ويكون للعرب فى الشرق وفى الغرب حالة من الانهيار اللغوى الثقافى الحضارى، ماذا ستفعل تلك الأجيال وأية طريق صعبة وشاقة ومظلمة نلقى بهم فيها؟، أجيال من الآباء لا يتقنون اللغات الأجنبية، وبالتالى لا يفهمون ثقافتهم أو كيفية الاندماج معها. وأجيال من الأبناء لا يتقنون اللغة العربية، وبالتالى لا يفهمون ثقافتنا أو كيفية الانتماء لها والاحتماء بها والذود عنها. ويكون هناك وبشكل استثنائى دائماً "عربيا" أوروبياً التبادل الأمى عوضا عن التبادل الثقافى الذى يخلق عوضاً عن إمبراطورية العلم والنهضة التى يرنو إليها العرب كل العرب وأبنائهم يخلق وبكل خطى وثابة "إمبراطورية من الأميين"!