ليس هناك شك فى أن تحقيق الوفاق بين القوى السياسية الأساسية فى مصر هو الشرط الأول لخروج مصر من أزمة الانقسامات بين قواها السياسية حول خريطة الطريق للانتقال إلى حكومة مدنية تتولى السلطة فى البلاد بعد انسحاب المجلس الأعلى للقوات المسلحة من رئاسة الدولة وتفرغه لواجبه الأساسى فى الدفاع عن الوطن. ومع أن تحقق هذا الشرط يبدو تحليقا فى عالم الأمانى المستحيلة إلا أنه لا غنى عنه إذا كانت هناك رغبة فى تجنب تدهور الأوضاع على نحو يحول دون أن تتمخض مظاهرات التحرير والأزهر والعباسية يوم الجمعة الماضى عن شلل سياسى يمنع تحقيق هذا الانتقال، أو أن تكون مقدمة لما هو أسوأ، وهو تحولها إلى صراع دام بين أطرافها. ومع أن حدة هذه الانقسامات تجعل من الوصول إلى مثل هذا الوفاق تحديا هائلا ليس من السهل مواجهته، إلا أن ضرورته تقتضى من هذه القوى أن تبذل قصارى جهدها للوصول إليه.
الوفاق ضرورى
وضرورة هذا الوفاق تكاد تبدو مسألة بديهية، فعلى الرغم من الخلافات العميقة والجوهرية التى تعرفها النظم الديمقراطية فى جميع أنحاء العالم، والتى نتطلع إلى إقامة مثيل لها على ضفاف النيل، إلا أن أطرافها يسلمون بعدد من المبادئ الأساسية التى تشكل الإطار والقواعد الأساسية لتفاعلهم فى ظل نظام سياسى واحد. تشمل هذه المبادئ المؤسسات السياسية الرئيسية والحقوق الأساسية للمواطنين، وحدود اختصاصات سلطات الدولة وطبيعة كل من النظام الحزبى والانتخابى.
ومن ثم فإن هذه المبادئ هى العقد المشترك الذى يقوم عليه النظام السياسى والذى يجمع أطرافه جميعا على الرغم من اختلافهم على قضايا أخرى فى السياسات الاقتصادية والاجتماعية، الداخلية والخارجية.
وفى حالة الدول التى تنتقل من نظم سلطوية إلى نظم أكثر ديمقراطية، فإن مثل هذا الاتفاق ليس بدعة، بل هو المعمول به فى معظمها، وهو يسبق فى العادة الانتقال إلى إقامة مؤسساتها السياسية الأساسية، ويتحقق هذا الوفاق من خلال مؤتمر تأسيسى، وقد رأينا مثلا فى حالة تونس، التى سبقتنا فى ثورتها على نظام سلطوى، كيف أن انتخابات أكتوبر لم تؤسس لنظام تونسى جديد، ولكنها أقامت مؤسسات مؤقتة هى التى ستتولى وضع قواعد هذا النظام، وتأكد الحرص على تحقيق الوفاق باختيار قيادات للدولة والجمعية التأسيسية والحكومة تمثل الأطراف الأساسية للحياة السياسية فى تونس.
النظام الجديد لابد أن ينهض على أساس التوافق بين القوى السياسية الرئيسية فى البلاد، وليس على أساس رغبة قوة واحدة منها أيا كان نصيبها من أصوات الناخبين، فهو نظام يجب أن يحظى بالولاء من حميع المواطنين، وليس من فريق سياسى واحد، حتى لو كان هذا الفريق يحصل على الأغلبية فى الانتخابات التى تلى مباشرة سقوط النظام السلطوى.
وقد كانت هناك محاولات سابقة للوصول إلى توافق بين القوى السياسية الأساسية فى مصر، ولكنها أخفقت جميعا حتى الآن فى الوصول إلى هذا التوافق المنشود. وكانت آخر هذه المحاولات هى وثيقة المبادئ الأساسية فى الدستور التى ارتبطت باسم الدكتور على السلمى، ولكن كان خطأ وثيقة السلمى أنها قدمت شبه جاهزة للقوى السياسية، ولم تبادر هذه القوى بصياغتها، وبعض المبادئ الواردة فيها والخاصة بوضع القوات المسلحة وتشكيل اللجنة التأسيسية غير مقبولة، فضلا عن رفض التيارات الإسلامية التوصل إلى أى وثيقة ذات طبيعة ملزمة بحجة عدم تقييد الإرادة الشعبية، وهى حجة ظاهرها مقنع، ولكن باطنها يتضمن فى الحقيقة ترك التعبير عن الإرادة الشعبية لفصيل واحد لتصور أعضائه أنهم سيحرزون الأغلبية فى الانتخابات.
تحدى الوفاق
لا شك أن الحديث عن وفاق وطنى فى اللحظة التى تحتدم فيها الخلافات بين القوى السياسية الأساسية فى مصر حول خطوات المرحلة الانتقالية يبدو تحليقا فى الخيال، واستسلاما لتمنيات مغالية فى ابتعادها عن واقع ثلاث مظاهرات عرفتها القاهرة يوم الجمعة الماضى، ومع ذلك فلا بديل عن هذا الوفاق فى الوقت الحاضر.
بل هو مطلوب الآن وفورا. كل هذه القوى مدعوة للمشاركة فى حكومة إنقاذ وطنى، يفترض فيها أن تكون مفتوحة لها جميعا، وسواء شكل هذه الحكومة الدكتور كمال الجنزورى أو شكلها الدكتور محمد البرادعى، فلن تقوم لها قائمة إلا إذا شاركت فيها هذه القوى، ومن ناحية ثانية فإن ثمن استبعاد أى من هذه القوى، سواء الإسلاميون أو قوى الثورة التى اجتمعت فى التحرير وميادين أخرى يوم الجمعة أو المجلس الأعلى للقوات المسلحة، سوف يكون ليس فقط إطالة المرحلة الانتقالية، ولكن تهديد الاستقرار السياسى والاجتماعى فى مصر، وإعاقة استعادة الأمن وسير عجلة الاقتصاد على نحو طبيعى، وربما يسبق ذلك كله من ناحية ثالثة ضيق الرأى العام بخلافات هذه القوى وتطلعه إلى الإسراع بالعودة إلى ممارسة الدولة سلطاتها على الجميع وإقرار الأمن والنظام. ولذلك فإن كل هذه القوى مدعوة الآن إلى الارتفاع فوق مستوى حساباتها الضيقة والتحرك للالتقاء على أرضية وسط مع القوى الأخرى فيما يتعلق بطبيعة النظام السياسى الذى نشده ثوار 25 يناير التى يعلن الجميع الآن انتسابهم لها. هل مضى زمن تحقيق التوافق؟ وما هى شروطه فى الوقت الحاضر؟
الواقع أن هناك مناسبات عديدة فى الفترة القادمة تستلزم من هذه القوى الوصول إلى توافق، فى مقدمتها - وعلى نحو عاجل - تشكيل حكومة الإنقاذ الوطنى التى قبلها المجلس الأعلى للقوات المسلحة وينادى بها ثوار التحرير فى القاهرة والأقاليم، ولا يرى الكاتب أسبابا مقنعة لرفض الإسلاميين المشاركة فيها، ثم هناك الجدول الزمنى المقترح لصياغة دستور جديد يبدأ العمل فيه بعد الاجتماع الأول المشترك لمجلسى الشعب والشورى وينتهى قبل انتخاب رئيس الجمهورية فى موعد أقصاه نهاية يونيو 2012. وهى مهمة يجب البدء فيها من الآن وربما عن طريق لجنة من الخبراء تعد مشروعا تدرسه اللجنة التأسيسية عند تكوينها واجتماعها فى شهر مارس، وذلك للإسراع بعمل هذه اللجنة. هذه فرص مؤكدة تقتضى التقاء هذه القوى، وضرورة الاتفاق فيما بينها، وذلك ما لم تخرج إلى النور مبادرات أخرى.
ويتوقف النجاح فى اغتنام هذه الفرص على تنازلات ضرورية تقدمها كل من هذه القوى وبدونها لا يمكنها حتى أن تلتقى. المجلس الأعلى للقوات المسلحة مدعو للتخلى عن أى إدعاء بحصانة خاصة للقوات المسلحة فيما يتعلق بميزانيتها أو التشريعات الخاصة به، أو دور محدد ودائم له فى الحفاظ على النظام الدستورى، والذى يجب أن يترك للمحكمة الدستورية العليا ويقظة الشعب، ومن ناحية أخرى فلا شك أن كل المصريين حريصون على أن تتوافر للقوات المسلحة حاجاتها المشروعة من موارد وتشريعات تزيد من قدرتها على الدفاع عن أمن الوطن، وقوى الثورة من جانبها مدعوة إلى تأكيد احترامها واعتزازها بالدور الذى يحتله الدين فى وجدان المصريين منذ الأزل، والإسلاميون بدورهم مدعوون لقبول الصيغة التى ارتضتها معظم القوى السياسية الأخرى بأن تقتصر الإشارة إلى الشريعة الإسلامية فى الدستور على كون مبادئها هى المصدر الرئيسى للتشريع، مع احترام حق أصحاب الديانات الأخرى فى تنظيم أحوالهم الشخصية وفقا لشرائعهم، والتخلى عن الإصرار على جعل الشريعة الإسلامية هى المصدر الأول للتشريع كما يقول بعض المتحدثين باسمهم، وخصوصا أن أحدا منهم لا يقول لنا ما هى جوانب تطبيق الشريعة التى يطالب بها، ولم تنص عليها تشريعات دستورية فى الماضى، وهل هناك إجماع حول هذه المبادئ بين الفقهاء المسلمين.
لا شك أن هناك اجتهادات أخرى حول كيفية تحقيق هذا الوفاق، وتصورات عديدة حول الأطر التى يجرى داخلها البحث عنه، ولكن المؤكد أيضا أن الوصول إلى هذا الوفاق هو الشرط الضرورى لعبورنا بحر المرحلة الانتقالية متلاطم الأمواج، وهو الذى يؤسس لعلاقات جديدة بين القوى السياسية الأساسية فى مصر تقوم على التلازم بين الاحترام المتبادل والحفاظ على الحق فى الاختلاف.