«ها أنا أرسل إليكم أنبياء وحكماء وكتبة، فمنهم تقتلون وتصلبون، ومنهم تجلدون فى مجامعكم، وتطردون من مدينة إلى مدينة»، هكذا، وكعادة أصحاب الرسالات، يترقبهم الهول، وتتقاذفهم المكائد، ينقبون عن المعرفة، وتُنقََب لهم الخنادق، وما أشدها تلك التى تتلبس أوصياء الدين والهوية. ربما اختبأت الأرض خلف أصابعها، أول مرة داهمتها الشمس، لكن الأكيد أن وعيها بالدفء عرّى كل مسامها بعد ذلك، وهذا دائم التكرار مع أى فكرة جديدة، بشرط حقيقيتها. والإنسانية المجردة، بضعفها وقوتها، بثباتها ومزاجيتها، وبنقصها الدائم، هى المعنى الأنبل والأصدق، وهو ما قصده الأديب الكبير «عبدالرحمن الشرقاوى» فى تعامله مع سيرة النبى فى كتابه «محمد رسول الحرية»، وبقية كتبه عن الصحابة وفقهاء الإسلام، الذين تتبع سيرهم وتراجمهم، من جانب إنسانى محض، بعيد عن الأساطير والمعضلات الغيبية، التى استقرت لدى المسلمين فى أنحاء الأرض، لكنها لا تزال تعانى اهتزازا لدى غيرها من الفئات، ورفضا قاطعا لدى فئات أخرى. يقول «الشرقاوى»: «إننا دائما فى حاجة لإعادة تقييم تراثنا، إلى إحياء ما هو إنسانى فيه، ونشره على العالم، إلى تصوير القدر المشترك المتفق عليه بين الجميع من دور أصحاب الرسالات، أى إلى تصوير الجانب الدنيوى الذى أصبح ميراثا حضاريا مشتركا لكل الناس مهما تختلف دياناتهم وفلسفاتهم وآراؤهم». من أجل اقتناعاته تلك، كتب الشرقاوى عدة كتب مهمة، منها «محمد رسول الحرية»، الذى يعد أهم كتب «الشرقاوى» التى أعادت دار «الشروق» طباعته ضمن الأعمال الكاملة للكاتب، ولاقى هجوما كبيرا، منذ نشره مسلسلا بجريدة «المساء»، أوائل الستينيات، واشتد الجدل حوله فى السبعينيات، وأكيلت لصاحبه المجاميع الجاهزة من التهم المجانية، من كفر، وعلمانية، وتجارة بالدين والهوية وغيرها الكثير من التهم التى استتبعها طلب بعض المتشددين بإعدام «الشرقاوى»، وإحراق كتبه. يتناول الكتاب سيرة وحياة النبى، عبر قالب قصصى مشوق، ولا يؤرشفه كاتبه ضمن الكتب السيرية وما أكثرها التى تناولت الرسالة المحمدية، بما فيها من وحى إلهى، ومعجزات تؤكده، وإنما كشاهد إنسانى على عبقرية رجل استحق أن يحمل رسالة بهذه الشمولية والخلود. والكتاب وإن اتخذ طابعا أدبيا، إلا أن صاحبه يضفى عليه سمة المهمة والواجب القومى، كعمل موجه لغير المؤمنين بمحمد، فضلا عن كونه مسئولية فنية واجبة على كل مؤهل للقيام بها. وإذا كانت الإنسانية هى السمة التى أُلف من أجلها كتاب «الشرقاوى»، فإنها أيضا سقطة الكتاب من وجهة نظر معارضيه الذين طالبوا بإحراق الكتاب، ونسبوه للتيار الماركسى المادى، الذى يقوم على إنكار الغيب والمعجزات، وكذا إنكار الوحى والنبوة، ويحاول تفسير الإسلام وسيرة الرسول تفسيرا ماديا. وأشد ما أخذه المعارضون على كتاب «الشرقاوى» هو فصله الوحى عن النبوة، ونسبة التعاليم والأفكار الإسلامية العظيمة ل«محمد» البشرى، وليس للخالق الذى أوحى له بها. كما رفضوا الطريقة التى ذكرها الكاتب لتنزل الوحى عبر الأحلام والمنامات، رغم حضوره على النبى يقظا وأحيانا بين الصحابة، وتجاهل الحضور الفيزيقى لملاك الوحى «جبريل». واعترضوا على تعامل الكاتب مع بعض نصوص القرآن، ونسبتها للنبى كأحد أقواله وأفعاله الذاتية، من ذلك تأكيده على بشريته وتحريمه الخمر كضرورة اجتماعية وسياسية.