حركاتُ الانتفاض والتغيير التى تعيشها المجتمعات العربية فى المرحلة الراهنة تستدعى التفكير ومُعاودة التحليل، والتقاط ردود الأفعال، والابتعاد عن الأحكام الجاهزة، والعزوف عن التشاؤم أو التفاؤل، توخيا للوصول إلى تصوّر يربط التحولات بسياقاتها وأبعادها التاريخية الاجتماعية، ويصوغ لها دلالات مُنغرسة فى عمق التُّربة العربية... وأظن أن أول ما يجب أن نتذكره هو عناصر ثلاثة تأخذ طابعَ البديهيات: 1 رفضُ الاستبداد والحكم الفردى انطلاقا من ثورتىْ شعبىْ تونس ومصر، هو أمر حتمىّ طالما انتظرناه وتوقّعناه، لأن الإستراتيجية التى اعتمدتها الأنظمة ُالعربية منذ خمسين سنة، على الأقل، هى إستراتيجية واهية تسعى إلى «تجميد» الأوضاع، ومصادرة الدولة، واستغفال المواطنين بأيديولوجيا تلفيقية تزعم ثباتَ الأحوال والقيم، وتهدف إلى إعادة إنتاج أنموذج المواطن الرعية الخاضع للطاعة العمياء... لكن ما نسيته الأنظمة أو تناستْهُ، هو أن هناك قانون «الحركة» الذى يسرى على كل البلدان والعباد، فيُخلخل الثابت ويُنبّه الوعى، ويُسعف على تكسير القيود. هذه «الحركة «الحتمية هى التى مدّتْ جسورا بين الأمم والمجتمعات، وأتاحت للعلم أن ينشر أنواره ومنجزاته فى كل الأصقاع. ومن ثمّ مصدر التناقض الكبير الذى يُودى بجميع الأنظمة والأنساق التى تتوهّم أن بإمكانها أن تقف فى وجه الحركة، وأن تتمترس وراء الثبات. 2 مُبادرة الشباب، أساسا، فى جميع الأقطار العربية إلى التعبير عن ضرورة تحرير المجتمع وتخليصه من الاستبداد، هى استحصاد واستثمار لحركات ومواقف ومقاومات سابقة، عبرت عن غضبها ورفضها فى فترات متباينة، وفى أشكال مختلفة (مظاهرات،احتجاجات،أدب، فن، سينما، مسرح، مدونات إنترنت...). لكن هذه الانتفاضة الجديدة التى قادها شباب تونس ومصر، تتميز بكونها استخدمتْ الوسيلة الفاعلة والطرائق الملائمة، فاستطاعت أن تقفز على أجهزة القمع وأن تبلغ صوتها ومطالب الشعب من خلالها إلى مجموع كيان الأمة ؛ وهذا معناه أن الشباب عرف كيف يُنضج الشروط لإطلاق شرارة الثورة والبدء بإسقاط الحكّام الطغاة. وهذا عمل تدشينى لم تستطع الأحزاب السياسية، على اختلاف توجهاتها، أن تضطلع به. 3 كشف انطلاق الانتفاضات التغييرية فى معظم البلدان العربية عن « تفاوت» شروط النضج ودرجة الوعى فى المجتمعات العربية. وقد انعكس هذا «التفاوت» على سرعة إنجاز المرحلة الأولى من التغيير، كما هو الحال فى ليبيا واليمن وسوريا والبحرين؛ ذلك أن عوامل خصوصية فى التّركيبة الاجتماعية، ومستندات النظام القبلية أو العشائرية أو الطائفية، برزتْ لتحاول تعطيل التغيير الذى يمس مصالحها ويضع حدا لحكمها المُتسلط. من ثمّ ما نشاهده من لجوء هذه الأنظمة إلى العنف والقتل والتدمير، غير متورعة عن محاربة شعبها الرافض لاستمرارها. إلا أن «مقاومة» تلك الأنظمة اليائسة لن تؤول إلا إلى زوال، لأن قوى المجتمعات مصممة على التحرر والوصول إلى نظام ديمقراطى، ولأن هذه الجرائم تؤكد ضرورة التخلص من الاستبداد الذى لا يقود إلا إلى الخراب. على ضوء هذه الملاحظات، تُطالعنا أسئلة مُلحة، تأخذ فى الاعتبار هذه الحصيلة الأولية لثورات المجتمعات العربية، بما تنطوى عليه من جوانب إيجابية وأخرى لا تخلو من عناصر سلبية متولدة عن عقود طويلة من الحِجْر والوصاية، والأدلجة الجوفاء. فى طليعة تلك الأسئلة: هل يكفى الرفض والفضح والمطالبة بالمحاسبة والنزول إلى الشارع لإسقاط الأنظمة المهترئة، أم أن رهان التغيير هو مرتبط أيضا، وبِتأنٍ، مع بلورة وسائل ملموسة لتغيير السلطة والمؤسسات الحامية لقوى الاستبداد والنهب؟ بعبارة أخرى، كيف تتحول قوى الشباب وفئات المجتمعات العربية الواسعة الطامحة إلى التغيير، إلى قوى سياسية تقف فى وجه الهيئات والفئات التى تعارض التغيير وتعرقله، لتجعل من الصراع الديمقراطى الوسيلة الأساس للتغيير؟ ذلك أن الدفاع عن مبدأ الديمقراطية يستدعى القبول بالنتائج التى ستفرزها الانتخابات؛ وهو ما يفرض على القوى التغييرية الجديدة أن تبادر إلى تنظيم صفوفها ليظلّ زمام المبادرة فى يدها. والسؤال الثانى يتصل بأفق التغيير، لأننا نعلم أن القيم والممارسات والسلوكات التى رسّختْها فتراتُ الاستبداد قد تغلغلتْ إلى طبقات واسعة، وأصبحتْ تُشكّل جزءا من المتخيّل الاجتماعى المُؤثر فى بلورة القيم، ومن ثمّ ضرورة صوغ إستراتيجية سياسية وثقافية لها أفق مُغاير للمرحلة السابقة التى طبعها متخيل وطنى دينى استنفد مفعوله خلال مرحلة الكفاح من أجل الاستقلال ولحِقَتْهُ التشويهات على يد الأنظمة الاستبدادية...وما يطرح نفسه بقوة، راهنا، هو مأسسة متخيّل اجتماعى يتشيّد على قيمٍ تأخذ فى الاعتبار البُعد التاريخى الاجتماعى، وينقلُ المقاييس من أفق التعالى وتعاليم السماء إلى أفق المُحايثة الأرضية والاتكاء على الحاجات اليومية الملموسة، ورمزية الأبعاد التى تلحم الفرد بالمجتمع، وتحدد علائق المجتمع المدنى بالدولة. وبطبيعة الحال، عندما يبدأ التفكير فى التغيير العميق على هذا المستوى، فإن من واجب الشباب أن يتذكر التراث الثورى، فكرا وممارسة، المتحقق على يد أجيال سابقة ومعاصرة، إذ ليس هناك ثورة تبدأ من الصفر. والسؤال الثالث، يتعلق بالحداثة التى كثيرا ما راودتْها «النهضة العربية»، منذ نهاية القرن التاسع عشر، دون أن تتمكّن من تحقيقها فى جدليةٍ مُتكاملة. وأميز هنا بين الحداثة والتحديث، وأركز على الحداثة فى وصفها مفهوما مجتمعيا ثقافيا،وأداة للنقد والمساءلة والمراجعة. إنى أميل إلى اعتبار الحداثة رحما للأزمنة الحديثة التى تتّسمُ ب«الحركة واللايقين»، أى أن التغيرات الكثيرة التى عرفها العالم منذ الثورة الصناعية والرأسمالية وصولا إلى الثورة التقنية والرقمية، كانت دوْما مصحوبة باهتزاز المقاييس والشك فى ما يتحقق، والبحث عن طرائق تتيح للإنسان أن يعيش فى أمان داخل دوامة التحولات المتسارعة، المخيفة. ومن ثم، فرضت الحداثة العقلانية والصراع الديمقراطى وبلورة أفق جديد لقيم كونية تُعيد الاعتبار للإنسان المهدد فى كل حين. وأعتقد أن على المجتمعات العربية، وهى تخوض غمار الانتفاض ضد الاستبداد والطغيان والفساد والظلم، أن تطرح جميع الأسئلة المتصلة بالتغيير واستيعاب الحداثة المحررة للعقل والجسد والمواطن؛ وهو المنطلق الذى يعتبر أن «الحركة» سيرورة تتمُّ فى الداخل والخارج معا، ولذلك لا مجال لتجزئ الأسئلة أو إرجائها، لأن الأبعاد الكونية تُفرز قضايا مشتركة تهمّ الجميع ( العولمة، تدهور البيئة، تعاظم العنصرية والفاشيشتية اليمينية...)، وهو ما يستدعى أن نتحمل مسئوليتنا أيضا فى مناقشة مجرى التاريخ الحديث الذى أصبحنا ننتمى إليه بفضل ثورات الشباب.