لعل التطور الأهم فى علاقتى بأستاذى العظيم نجيب محفوظ، حدث بطريقة قدرية، كما تحدث كل أحداث الحياة، المهم منها، وغير المهم أيضا، فمن يمعن النظر بدقة فى أحداث الحياة جميعا، يكتشف أن ما نعده حدثا قليل الأهمية، قد يصبح هو ذاته حدثا مهما، إذا نظرنا إليه من زاوية أخرى! فقد حدث أن تغير نظام الأستاذ الصارم تغيرا جوهريا، فقد كان نظامه منذ خرج إلى المعاش فى عام 1971م. وبعدما اعتذر عن عدم قبول رئاسة مجلة «روزاليوسف»، كما اعتذر عن كل ما يعطله عن إبداعه الأدبى. وقد وافق فقط أن يصبح كاتبا فى الأهرام، حيث لم يكن مطلوبا منه شيئا، سوى أن ينشر ما يبدعه من قصص وروايات فى صحيفة الأهرام. أقول كان نظام الأستاذ طوال أيام الأسبوع، وباستثناء يومى الخميس والجمعة، يتلخص فى ممارسة المشى فى الصباح الباكر، حيث يستنشق هواء لم تلوثه بعد عوادم المدينة، ويتأمل جمال النيل قبل أن تؤذيه ضوضاء القاهرة، ويستمتع بروعة شروق شمس يوم جديد، فهذه الساعة الصافية تعد رياضته الجسدية والنفسية والروحية أيضا، وبعدها يجلس على المقهى ليقرأ الصحف ويتصفح المجلات لمدة ساعة أخرى، وبعد ذلك يعود إلى بيته ليبدأ فى ممارسة عمله الأهم، وهو إبداع الروايات والقصص، وذلك حتى يحين موعد الغداء، وبعده يرتاح لمدة ساعة فقط، ليبدأ بعدها فى الكتابة مرة أخرى لمدة ساعتين أو ثلاث، وبعد ذلك يرجع إلى قرءاته المنظمة لتنمية ثقافته العامة، وللاطلاع على ما أخرجته المطابع من قصص وروايات وكتب أدبية، وغير أدبية. وعندما تصل الساعة إلى نحو التاسعة يخرج من حجرة مكتبه، للعشاء مع أسرته أمام التليفزيون، حيث يشاهد ما يتم عرضه، بغض النظر عما يعرض! ثم يذهب للنوم، استعدادا للاستيقاظ قبل شروق الشمس. وقد تغير هذا النظام الصارم، الذى طبقه الأستاذ لنحو خمسة عشر عاما تقريبا، ففى منتصف الثمانينيات، وهو إلى جوارى فى السيارة، وفى أثناء رحلة العودة إلى البيت بعد ندوة الجمعة، عرفت منه أنه بدأ فى الخروج كل يوم فى المساء، لأن عينيه لم تعد تحتمل الساعات الطويلة من القراءة والكتابة، فى الفترة الصباحية وفى ساعات المساء، لذلك فقد أصبح يرتاح ساعة بعد الغداء ثم يأخذ فى الكتابة لمدة ساعة واحدة فقط من الخامسة، وحتى السادسة، ثم يخرج من بيته إلى مقهى فندق شهرزاد، أو غيره من المقاهى القريبة، على أن يعود إلى بيته فى موعد العشاء. سألته متلهفا: هل تجلس سيادتك مع أحد؟ قال: لا. فسألته: هل يضايقك أن أجلس معك، ولو فى بعض أيام الأسبوع، فقال لى: أبدا، تفضل. ومن يومها أصبح لى ثلاثة أيام، اتفقنا عليها معا، وهى: السبت، والاثنين، والأربعاء، بالإضافة طبعا إلى ندوة الجمعة. التقينا أولا فى مقهى شهرزاد، ثم أصبحت أمر عليه فى بيته فى تمام الساعة السادسة، حيث يخرج من بيته فى السادسة إلا دقيقتين أو ثلاث، ثم يركب إلى جوارى فى السيارة، ونذهب إلى مكان ما، نجلس فيه معا حتى الساعة العاشرة مساء، طبعا سألت الأستاذ أن يختار المكان الذى يحبه، ولكنه أصر أن يسمع رأيى، أو حتى اقتراحى لمكان معين، فقلت له إننى لا يهمنى سوى أن أجلس إليه، وأتحدث معه، ولا يهمنى المكان على الإطلاق، فقال لى: إذن لنجرب مكانا بعد آخر حتى نستقر فى المكان الأنسب، فذهبنا معا، على سبيل التجربة، إلى فندق شيراتون، الذى ذكر لى أنه تم بناؤه فى نفس مكان كازينو بديعة، ثم انتقلنا منه إلى فندق المريديان، وعرضت عليه أن نجرب الجلوس فى نادى الصيد، فوافق ببساطة، وذهبنا بعد ذلك إلى فندق هيلتون رمسيس، الذى استقرينا عليه، نظرا لوجود فوتيهات مريحة، ولأن المكان متسع، وسقفه مرتفع جدا، ومن ثم يسمح لى بالحديث بصوت مرتفع قليلا حتى يتمكن الأستاذ من أن يسمع كل كلماتى، دون أن نزعج الآخرين. لا يمكننى أن أعبر عن مدى سعادتى بالوجود بالقرب من نجيب محفوظ، إذ نجلس معا وحدنا، طوال هذه الساعات الطويلة، التى تمر فى لمح البصر! قرأت عليه قصصى جميعا، قصة بعد أخرى، كما قرأت عليه رواياتى واحدة بعد أخرى، كنت أعلم كم هو رقيق وحساس ومجامل، ومن ثم كنت أحاول أن أتعلم منه كيف ينظر إلى العمل الفنى؟ وكيف يقيمه؟ وما هى نقاط القوة، ونقاط الضعف فيما أكتبه. وكثيرا ما كان يعرض رأيه فى صيغة سؤال جوهرى عن مضمون العمل الأدبى، أو عن شكله الفنى! ومن خلال محاولة الإجابة عن السؤال، تبدو رؤيته وتتضح، إذ لم يبخل على قط بنصيحة، ولا بمعلومة، ولا بتصحيح، أو تغيير ما يرى أنه يمكن أن يضيف للعمل الأدبى، وكذلك قد يقترح نوعا من الحذف فى جزء من أجزاء العمل، ويقدم دائما أسبابه الوجيهة، ويشرح رؤيته لمعنى الصدق الفنى، كما تتجلى فى كلماته مناطق السحر والروعة والجمال فى الشخصية الإنسانية، وفى طبيعة العلاقات بين البشر، ثم فى الحياة ككل، هذه الجوانب التى يسعى الأدب لكشفها والتعبير عنها. وطبعا لم أكتف بقراءة ما أكتبه فقط على الأستاذ، فقد أصبحت أحضر معى دائما كتابا أو أكثر، أو مجلة أدبية كإبداع أو الهلال أو العربى أو غيرها، وكثيرا ما كنت أختار مجموعة قصصية أعجبتنى، وأحيانا أحضر معى قصصا لم أقرأها بعد، بحيث نكتشفها معا، لأسمع من الأستاذ رأيه النقدى بالتفصيل بعد كل قصة، ولأتعلم منه كيف ينظر إلى جماليات العمل الفنى؟ وكيف يقيمه؟ وما الذى يعجبه، وما الذى لا يحبه فى أساليب الكتابة الأدبية؟ ويمكننى أن أقول بصفة عامة إن الأستاذ واسع الصدر جدا، فكما هو واسع الصدر على المستوى الإنسانى، كذلك على المستوى الأدبى، فهو قادر على التعامل مع مختلف الأساليب الأدبية، ومع شتى المدارس الفنية، فهو يتذوق أى شكل من أشكال الفن، ويستمتع بكل نوع من أنواع الجمال. إذ يركز على الجانب الأفضل فى العمل الأدبى، ويشير إلى عناصر الجمال فيه، مع إدراكه الكامل لجوانب الضعف، أو الركاكة فيما يعرض عليه. وهو عاشق للشعر، ويحفظ الكثير من الأشعار العربية، القديمة والحديثة، كما أنه مغرم بالشعر الفارسى، بخاصة شعر حافظ الشيرازى، وقد استخدمه، بلغته الفارسية، فى عمله الأعظم، ملحمة الحرافيش. ومع ذلك الحب للشعر التقليدى القديم، إلا أنه قادر على تذوق الشعر المعاصر، الشعر الحر، أو شعر التفعيلة، كما أنه كان يحب أن يطلع على ما يُكتب تحت اسم قصيدة النثر. فهو يرى جوهر الفن، ويغوص إلى أعماقه، بغض النظر عن شكله الخارجى، أو تقاليده المستقرة، وهذه الحرية المطلقة للمبدع، التى تعد جزءا مهما من روعة العملية الإبداعية وجمالها، تراها بوضوح إذا تأملت فى مراحل تطور فن الكتابة عند نجيب محفوظ نفسه، ففى كل عمل من أعماله، ثمة تجريب، وتطوير، وتميز عن أعماله الأخرى، سواء السابقة، أم اللاحقة. هذا التجدد الدائم، والتجريب المستمر، والتطور المتواصل، والتجويد الدءوب هو أهم ما يميز المبدع العظيم نجيب محفوظ، وهو ذاته أهم ما يميز المتذوق واسع الصدر، وواسع الأفق نجيب محفوظ، فهو يسمح للفنان المبدع أن يتجاوز الأطر الفنية المعروفة، أو حتى يحطم القوالب التقليدية، والأشكال الفنية المستقرة كما يشاء، بشرط أن يتمكن فى النهاية من تقديم فن حقيقى جديد وجميل ومفيد. وإذا تأملنا مليا فى ملامح فن القصة القصيرة، أو الرواية عند محفوظ، نراه يكتبها بتلقائية إبداعية، أى أنه يكتبها بمنتهى الحرية، والانطلاق الفنى، فلا تحده حدود شكلية، ولا تعطل مغامراته الفنية أى قيود نقدية، ولا تقاليد أدبية، فهو لا يتبع خطى من سبقه، ولكنه يخط لنفسه منهجا جديدا فى طريقة الكتابة، ثم يأخذ فى تطوير أدواته، وصقل مهاراته، حتى يتجاوز ذاته! ومن يتابع قصص مجموعته القصصية الأولى «همس الجنون»، ثم يتأمل فيما تلاها بعد ذلك من قصص قصيرة، سيرى بوضوح كيف يتطور فن الأستاذ من مجموعة قصصية لأخرى، وكيف يتألق إبداعه الفنى عملا بعد آخر. ولنضرب لذلك مثالا واحدا، فقد كانت القصة القصيرة، كما يعرفها النقاد، على مدى عقود من القرن العشرين، عبارة عن لحظة عرضية فى حياة شخصية، أو موقف ما من مواقف الحياة، يعبر عنه بطريقة فنية، فلا يصح مثلا أن تقول فى قصة قصيرة: «وبعد مرور سنوات..» إذ إن هذا يخالف فن القصة القصيرة المستقر، كما حدده نقادها الكبار، فجاء محفوظ، وبمنتهى البساطة، قدم أشكالا من فن القصة القصيرة تتناول تفاصيل حياة كاملة للشخصية، من الميلاد وحتى الموت، ولم يتوقف عند القواعد النقدية فى عصره. إنها حرية الفنان حين ينطلق فى مغامراته الفنية بلا حدود، فيتجاوز عصره. وهكذا أيضا كان نجيب محفوظ القارئ أو المتلقى، إذ يتسع صدره لكل المغامرات الفنية، مهما شطحت، أو تجاوزت الحدود، فالمهم أن النص يقدم للمتلقى الفائدة والمتعة بذوق أدبى وجمال فنى.