فى حدود تجربتى الإنسانية، لم أعرف طوال حياتى إنسانا مثل نجيب محفوظ، وكذلك لم أعرف صديقا مثله، فهو صديق جميل جدا، تعرف معه معنى المثل الشائع، الرفيق قبل الطريق، فقضاء وقت برفقة محفوظ، هو بالتأكيد من أمتع الأوقات وأجملها، هذه هى خبرتى معه على مدى نحو ثلاثة عقود متصلة، كانت أجمل ساعاتها هى تلك التى أقضيها مع نجيب محفوظ، سواء كنا وحدنا، أو كان معنا عدد من الأصدقاء، لدرجة أن مجرد وجودى إلى جواره، وبدون حتى أن نتبادل الحديث، هذا الوجود الصامت ذاته، من أروع ما يمكن! وهذا الذى أكتبه، قد يصعب على البعض فهمه أو حتى تصوره، ولذلك سأذكر شيئا من الخبرات الصوفية، أو التجارب الروحية، فمن خلال دراستى للتصوف بعامة، وللتصوف الإسلامى على وجه الخصوص، استوقفتنى مرحلة مهمة من مراحل الطريق الروحى، وهى مرحلة يبحث فيها المريد بصبر ودأب عن شيخه، إلى أن يفتح الله عليه، ويصل إلى الشيخ المقصود، وهذه المرحلة مهمة جدا، إلى درجة أن بعض الصوفية قالوا: «من لا شيخ له، فشيخه الشيطان»! وقيل أيضا إن المريد إذا وصل إلى مرحلة التأهل، أو الاحتياج الحقيقى إلى التتلمذ على يد عارف بالله، عندئذ سيظهر له شيخه فورا! فالمريد والشيخ كلاهما، بين إصبعين من أصابع الرحمن، يقلبهما كيف يشاء. وقد ينفعنا هنا أن نتأمل فى تعبير «الحلاج» الكاشف عن عمق هذه اللحظة الساحرة، حين يلتقى الموجب بالسالب، أو يجد المريد شيخه، إذ يصفها بقوله: «فلما قضى موسى الأجل ترك الأهل حين صار للحقيقة أهل». لكن السؤال الذى ظل يراودنى لمدة طويلة، هو: ماذا يحدث عندما يكشف الله الطريق أمام المريد، ويقوده إلى شيخه؟ هل يجلس إليه ويمطره بالأسئلة كما كنت أفعل مع شيخى نجيب محفوظ؟ طبعا لا. إنما ما كان يحدث من المريد، ومن الشيخ أيضا، هو أن يُسمح للمريد بالحياة مع الشيخ، وخدمته عند اللزوم، فلا أسئلة تُطرح، ولا إجابات تُلقى، وإنما هو الحضور! الحضور الدائم، حضور القلب، وصفاء النفس، وانفتاح البصيرة. فالطريق كله يمكن أن تتم معرفته من خلال هذا الحضور اليقظ مع الشيخ العارف بالله، فمجرد الحضور مع الشيخ، يمكن أن يكسب المريد الراحة، والصفاء، والنقاء، والسلام، والطمأنينة التى يحتاج إليها، هذه المعانى الروحية وغيرها يمكن أن تنتقل من الشيخ إلى المريد بلا أسئلة، ولا كلمات، فهذه الأمور من عمل روح المحبة المحيطة بكل من يذكر الله، ويسعى إليه سبحانه. وهكذا كان حضورى الدائم مع نجيب محفوظ، أجلس إليه، وحواسى كلها متيقظة للتعلم منه، وسواء تحدثنا، أو لم نتحدث، كنت أستشف صفاء روحه، ونقاء نفسه، وجمال بصيرته. أذكر أنه كان لى فى حياتى صداقات عدة، أعتز بها وأقدرها، بعضها استمر وتعمق، وبعضها للأسف الشديد انقطع بلا سبب، سوى تغير الأحوال والظروف، وبعضها متواصل من حين لآخر. لكن لم يكن لى صديق قريب جدا، أو كما يقال فى العامية: «أنتيم»، فحب القراءة والكتابة، يدفع الإنسان إلى الوحدة، لفترات زمنية طويلة، بالإضافة إلى أن الاهتمام بالثقافة الرفيعة، والقضايا الفلسفية، والمشاكل الفكرية، أمور تبعد صاحبها عن الناس العاديين، لأن لهم اهتمامات أخرى. ومن ثم عندما ظهر نجيب محفوظ فى حياتى، وجدت أمامى أستاذا وصديقا لا مثيل له، على الإطلاق، فأى من أصدقائى، أو أصحابى، أو معارفى، له خبرة محفوظ الواسعة، وثقافته العميقة؟ أى منهم يمكن أن أتناقش معه فى شئون الحياة والأدب والفكر والثقافة، كما أفعل مع محفوظ؟ مع ملاحظة أن فارق العمر بينى وبين محفوظ يقترب من نحو نصف قرن، لكن هذا الفرق الكبير لم يحل دون نمو علاقتنا بطريقة مدهشة، فعندما بدأت أجد الوقت الذى يسمح لى بالاقتراب منه أكثر، كان هو قد قرر أن يقلل من ساعات القراءة والكتابة، بسبب تعب عينيه، ومن ثم شاء القدر أن نقضى معا ساعات طويلة، اقتطعناها معا من ساعات الكتابة والقراءة، مع الفارق طبعا بين عظمة إبداعه، ومحاولاتى المتواصلة. إذ استبدلنا بثقافة الوحدة، ثقافة التواصل، حين تفضل كاتب كبير ومنح وقته الثمين، وخبرته العظيمة إلى كاتب فى بداية الطريق. أعترف أن نجيب محفوظ كان بالنسبة لى هو الإنسان الأقرب إلى قلبى، وعقلى، ونفسى، وروحى، فهو «توءم الروح»، أو «الصديق الأنتيم»، الذى لم أصادق مثله طوال حياتى، فثمة أمور كثيرة جدا مشتركة بيننا، لعل أهمها عشق الأدب، وحب الحكمة، أو الفلسفة، ودراستها دراسة أكاديمية، والميل إلى تأمل حركة الحياة وتقلباتها، والسعى إلى فهم أنماط البشر وشخصياتهم، والاهتمام بمتابعة كل تفاصيل الأحداث السياسية، ومراقبة أحوال المجتمع وتطوره، بالإضافة إلى الرغبة العارمة للمعرفة الشاملة بجميع أشكالها، وللثقافة بمعناها الواسع. وليس معنى كل هذا وغيره، أننا لم نكن نختلف فى بعض الأحيان حول بعض الأشياء فى الحياة والأدب والفن والفكر والسياسة. لكنه اختلاف بديع، إذ هو يحترم دائما وجهات النظر الأخرى، مهما كانت متطرفة، كما أنه يسمح لى بفهم وجهة نظره كاملة، وإدراك الأسباب الكامنة وراء رؤيته الثاقبة. ولأن خبرته أطول، وتجربته أعمق، وثقافته أوسع، وموهبته أعظم، ونظرته أبعد، ورؤيته أشمل، لذلك كله فهو تقريبا دائما على صواب، وأنا المخطئ، فالحق معه، والضلال من صفات البشر، فكل ابن آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون.