حظى الكاتب محمد سلماوى رئيس اتحاد كتاب مصر بعلاقة خاصة جدا مع الأديب العالمى نجيب محفوظ لم تتوافر لغيره من محبى وأصدقاء ومريدى محفوظ، فهو الوحيد الذى ظل يلتقى بمحفوظ فى بيته لمدة 21 عاما جمع خلالها أكثر من 005 ساعة حوارات مع نجيب محفوظ، ولم يكتف بذلك، بل إن نجيب محفوظ اختصه بإلقاء كلمته بالسويد بمناسبة حصوله على جائزة نوبل، وكان سلماوى - كما أطلق عليه محفوظ - هو وزير خارجيته وهمزة الوصل بينه وبين العالم الخارجى. فى حواره ل "صباح الخير" يلقى محمد سلماوى - الصديق والمحب لنجيب محفوظ - الضوء على نقاط كثيرة فى حياة الأديب العالمى ويعلن بوضوح أنه يفتقده إنسانيا، ويطالب بإعادة قراءة أعماله والمفاخرة به أمام العالم، ويتحدث عن علاقته به وتطورها وائتمان نجيب محفوظ له على كثير من أموره المهنية والشخصية. مرت أكثر من ثلاث سنوات على رحيل نجيب محفوظ وكنت واحدا من المقربين منه.. ماذا تفتقد فى نجيب محفوظ بعد رحيله؟ - أفتقد شخصه لأن أعماله لاتزال موجودة بقوة وملء السمع والبصر، ونجيب محفوظ من الذين فازوا بجائزة نوبل، ويتزايد الإقبال على أعمالهم من عام لآخر، وهذا لا يحدث مع آخرين ممن فازوا بالجائزة، وكلما أسافر للخارج أجد عشرات الترجمات الجديدة لأعمال محفوظ فى المكتبات، وهو ما يعنى الاهتمام بأعماله وقدرتها على جذب القراء، وأنا أفتقد شخصه كثيرا لأنه كان إنسانا على درجة كبيرة من الرقى الإنسانى، وكنت أقول لو أن هناك جائزة نوبل للإنسانية لكان أكثر من يستحقها، بالإضافة إلى أنه كان يجسد أفضل خصائص الشخصية المصرية بالتواضع وعزة النفس وسرعة البديهة والنكتة، وكان يمتلك قدرة عجيبة على الاقتراب من أصدقائه والاهتمام بهم، ولم يكن يضع مسافة بينه وبين كل من اقترب منه. شلة نجيب محفوظ ولكن ألم تمثل علاقاته الكثيرة وجلساته اليومية ضغطا عليه؟ - بالعكس كان يستمتع بتلك الجلسات كثيرا، وكان قادرا على تنظيم وقته وحياته بحيث تكون هذه الجلسات جزءا رئيسيا فى حياته، وكان يعتقد أنه مدين لأصدقائه بأنهم أمدوا فى عمره لأن البديل أمام تراجع صحته وضعف نظره هو الانعزال، واللافت أنه لم يكن لديه أصدقاء أقرب أو أبعد، بل كان يعامل الجميع بحب وود، وكان يهتم بالجميع ويسدى النصائح لمن يطلبها، ويسأل عن الغائب أو من تعرض لسوء، وكان ذكيا جدا فى الرد على الآخرين ويعرف متى يصمت. وماذا كان يمثل مفهوم الشلة له من وجهة نظرك خاصة أن هناك مجموعات كثيرة كان يلتقيها من الأصدقاء كل يوم؟ - كما قلت لك كان نجيب محفوظ محبا للناس، وكان شخصا اجتماعيا بامتياز ونموذجا للشخصية المصرية التى لم تكن منعزلة، وتميل للونس دائما، ونجيب محفوظ كان كذلك والأوقات التى كان ينعزل فيها أثناء الكتابة فقط فى الصباح، أما فى الليل فكان يجلس مع أصدقائه، وكانت له مجموعات مختلفة تجتمع فى حضرة وحب نجيب محفوظ، وفى سنواته الأولى كان يستقي أفكار رواياته وشخصياتها وأحداثها من تلك الجلسات، وكثير من شخصيات رواياته قابلها على القهاوى أو استمع إلى قصصها من أصدقاء له، وفى سنواته الأخيرة تراجعت صحته ولم يكن يقرأ أو يرى التليفزيون، وكان أصدقاؤه هم حلقة تواصله مع العالم، وكان يستقى منهم الأحداث المحيطة به، ويتعرف على أحوال الدنيا من خلالهم، واعتقادى أن كاتبا مثل نجيب محفوظ لم يكن يقدر على الانعزال، لذلك مثلت المقاهى والكافيهات والأماكن العامة نقطة مهمة فى حياته الإبداعية والإنسانية. ارتباط وبالنسبة إليك كيف كان شكل العلاقة بينكما وكيف تطورت؟ - علاقتى بنجيب محفوظ بدأت عام 0791 عند دخول الأهرام، حيث كنت قريبا من الكاتب الكبير توفيق الحكيم، وكنت أصعد إلى مكتبه بالدور السادس وأرى نجيب محفوظ، وكانت علاقة معرفة وود، وكنت أستمع إليه يتحدث ويتناقش مع الحكيم، ولكن علاقتى بنجيب محفوظ مرت بمراحل تدريجية اقتربت منه خلالها، ففى عام 3891 صدرت لى أول مجموعة قصصية بعنوان "الرجل الذى عادت إليه ذاكرته"، وعندما جاءت البروفة النهائية من المطبعة قررت أن أهديها إليه، ولما أرسلتها له فوجئت به يرسلها لى مرة أخرى، وبها تعديلات بالقلم الرصاص، وبها أيضا عبارة "قرأت مجموعتك واستمتعت بها وأبديت بعض الاقتراحات علها تعجبك، ولو لم تعجبك امحها بالأستيكة"، وشعرت وقتها أننى أمام مبدع عظيم ومتواضع، وهذا قرب بيننا بشكل كبير، حيث أحسست أننى ممتن له وأنه أستاذى فعلا، واقتربت منه أكثر بعد ذلك من خلال اللقاءات المستمرة معه فى مكتبه بالأهرام، حتى فاز بجائزة نوبل عام 8891 فى الأدب، وفوجئت أنه يختارنى ممثلا شخصيا له فى مقر الأكاديمية السويدية لإلقاء كلمته هناك بالإنابة عنه. وكيف جاء هذا الاختيار خاصة أنك من جيل مختلف ولم تكن علاقتك به قوية مثل آخرين وقتها؟ - لقد نمت علاقتى بنجيب محفوظ وقتها وعرف أفكارى جيدا، وعندما جاء إليه رئيس لجنة نوبل فى مكتبه بالأهرام طلب منه تسلم الجائزة، وإلقاء كلمة بالسويد، لكن نجيب محفوظ اعتذر عن عدم السفر بسبب ظروفه الصحية، وفوضنى بالإنابة عنه لتسلم الجائزة وإلقاء الكلمة، ولأننى فوجئت بالقرار سألته عن أسبابه فذكر ثلاثة أسباب أولها أنه أراد أن يمد يده بالجائزة للجيل الجديد من الكتاب، وثانيها أنه أراد أن يثبت للعالم أن الأدب فى مصر ليس نجيب محفوظ فقط، وإنما هناك أجيال تالية له، والسبب الثالث أنه يعلم قدراتى فى المحافل الدولية، والخطاب الذى قلته هناك كتبه نجيب محفوظ بالكامل، وكل ما فعلته أننى ترجمته إلى الإنجليزية حسب طلب الجهة المانحة للجائزة، وطلب نجيب محفوظ منى أن أقرأه بالعربية أولا، لأن الجائزة ليست لشخصى، وإنما للغة العربية والأدب العربى، ويجب أن تسمع هذه اللغة داخل جدران الأكاديمية السويدية. وكيف سارت العلاقة مع نجيب محفوظ بعد ذلك؟ - لقد زادت العلاقة مع نجيب محفوظ قربا بعد ذلك، ولكن نقطة التحول التى قربتنى منه أكثر كانت بعد محاولة الاعتداء عليه فى نوفمبر من عام 4991، حيث لم يستطع استخدام يده فى الكتابة فأرسل خطابا إلى الأهرام، وطلب تحويل مقاله إلى حوار يجريه محمد سلماوى، وطلبت منه أن يملينى فقال إنه يفضل أن يكون حوارا، وقال لى لقد اخترتك لما بيننا من اختلاف، فأنا من جيل ثورة 9191 وأنت من جيل ثورة 2591، وأنا كاتب روائى وأنت كاتب مسرحى، وهذا الحوار يولد ثراء، وهذا الحوار جعلنى ألتقى بنجيب محفوظ لمدة 21 عاما متواصلة ومنتظمة، وكنت أراه كل سبت لمدة ثلاث ساعات، وكنت أقرب الناس إليه لأننى كنت ألتقى به لوحدى وبشكل منتظم، بالإضافة إلى ظهورى مع أصدقائه فى مناسبات معينة كعيد ميلاده، أو إنجاز حديث مع صحفى أجنبى. وماذا كان يحدث فى تلك اللقاءات الثنائية؟ - كنت أذهب إليه فى السادسة مساء، وننتهى من الحوار الذى كان ينشر بعنوان "وجهة نظر" فى السادسة والنصف، ثم نتكلم فى كل شىء بعد ذلك حتى التاسعة مساء، وكل حواراتنا مسجلة ولدى أكثر من 005 ساعة بصوت نجيب محفوظ عن حياته وتعليقاته عن الأحداث الجارية وآرائه فى الأدب والثقافة والسياسة ورأيه فى الكتاب المصريين والعرب والعالميين، وفى ذهنى أن أقدم هذه الحوارات فى سلسلة كتب تتناول نجيب محفوظ خاصة أنها تحتوى على موضوعات ثرية وما نشر عنها عشر ما تحدث عنه، ومن بين هذه الحوارات قضايا عامة وأشياء كثيرة من حياته الشخصية وعلاقاته بأشخاص كثيرين ربما يصعب نشرها فى الوقت الحالى. نقطة فارقة وهل تعتقد أن محاولة الاعتداء عليه كانت نقطة فارقة فى حياته؟ - أعتقد أنها كانت نقطة فارقة فى أسلوب حياته وليس شخصيته، حيث ظل المحب للحياة والأصدقاء، ولكن أسلوب حياته تغير فلم يعد يقدر على الكتابة، وزياراته قلت وأصبحت الحراسة ملازمة له دائما، وأرى أن هذه الحادثة كانت نقطة فاصلة فى أسلوب الجماعات المتطرفة لأن الرأي العام ساورته الشكوك حول مصداقية تلك الجماعات واتجاهاتها بعد أن ضربت رمزا مثل نجيب محفوظ، وكانت الحادثة بداية لتراجع الجماعات المتطرفة عن العنف وإعلانها المراجعات التى أعلنت فيها تخليها عن العنف. ولماذا أطلق عليك نجيب محفوظ لقب "وزير خارجيته ورجل المهام الخاصة"؟ - بعد أن توطدت علاقتى بنجيب محفوظ، وبعد حادثة الاعتداء عليه، وثق فىّ وائتمننى على أشياء كثيرة أبرزها عمل ختم باسمه بعد أن أصيبت يده ولم يقو على استخدامها، وذهبت بنفسى لعمل الختم الخاص به، ثم تدخلت فى تعديل بعض عقود نشر كتبه بعد أن وجدت أن القيمة المادية لهذه العقود لم تساو قيمة نجيب محفوظ، وبالفعل نجحت فى تعديل كثير من العقود، وعلى رأسها عقده مع دار الشروق، وكنت أمثل همزة الوصل بين نجيب محفوظ وبين العالم الخارجى، وكنت المنسق للقاءاته مع عدد كبير من الكتاب العالميين والشخصيات العالمية مثل الكاتب باولو كويللو وألبرتو مورافيا وحائزة نوبل فى الأدب نادين جورديمر وأحمد زويل، وأثنار رئيس وزراء إسبانيا، وأى لقاء مع صحفيين أجانب كنت أتولى إنجازه، ولهذا أطلق علىَّ نجيب محفوظ وزير خارجيته، وهذا أمر كان يسعدنى لأننى كنت أتعامل معه بمحبة وود، وكان وجه المحب يطغى على وجوه الصحفى والكاتب والمبدع فى لقاءاتى معه. سر العبقرية والخلود وفى رأيك ما سر تميز عبقرية نجيب محفوظ فى الإبداع والحياة؟ - نجيب محفوظ كان عبقريا فى أمور كثيرة منها موهبته الفذة فى الرواية وعبقريته فى التقدم الذى أحدثه فى هذا الفن واللغة التى استحدثها وتنوع الأساليب التى كتب بها أعماله من الواقعية إلى التجريبية إلى الفلسفية، وعبقريته أيضا فى الشخصيات الخالدة التى اكتسبت أبعادا أوسع بكثير من مجالات الأدب، بالإضافة إلى حياته المنظمة والمتشعبة وقدرته على محبة الجميع، وأعتقد أن الاقتراب من شخصية نجيب محفوظ عطاء كبير لا يقدر بثمن، وقد أثرانى كثيرا الاقتراب منه إبداعيا وإنسانيا. وهل تعتقد أن نجيب محفوظ حصل على التكريم الملائم له ولماذا انسحبت من اللجنة المشرفة على إقامة متحف لتخليد ذكراه؟ - أعتقد أن نجيب محفوظ كرم كما لم يكرم أحد من قبل، وهو ليس بحاجة لتخليد ذكراه، وإنما نحن المحتاجون له بإعادة قراءة أعماله والاستفادة منها، وتذكره دائما، والارتقاء من خلال أعماله وليس غريبا أن جامعة ييل الأمريكية تجمع أوراقه لإقامة متحف له فى مقر الجامعة، أما حكاية الانسحاب من اللجنة المشرفة على إقامة متحف نجيب محفوظ فقد حدث ذلك بعد أن اكتشفت أننى أحضر اجتماعات كثيرة دون أن يحدث شىء جديد، وعموما فإن لدى أوراقا كثيرة ومتعلقات خاصة بنجيب محفوظ سأهديها للمتحف إذا خرج للنور، وبعض هذه المتعلقات معروضة الآن فى فتارين بمقر اتحاد الكتاب بالقلعة منها عصا نجيب محفوظ وقلمه وكلمة نوبل بخط يده.