لا مجال للشك على الإطلاق أن نجيب محفوظ هو الكاتب والمبدع الروائى العظيم، الذى بلغت الرواية معه إلى أقصى تطورها، وبالتالى فالاحتفال به واجب قومى وشعبى ورسمى، وعلى الجميع أن يقدموا التحية العظمى لهذا المجاهد الكبير، الذى رفع اسم هذا البلد، وقيمته لأعلى عليين، ليس بحصوله على جائزة نوبل، ولكن بتقديسه وتبجيله واكتشافاته الإبداعية المذهلة للطبيعة العبقرية للمصريين، ورصد جميع أشكال أصالتها فى رواياته وقصصه ومقالاته.ولا شك أنه ظل الأديب الأكثر احتراما ونبلا، ولم يضع مقدراته تحت ضرس أحد، لذلك استقرت صيغة علاقته مع السلطة السياسية متوازنة ومتواءمة، وظلت هذه الصيغة منذ قيام ثورة 23 يوليو لا تهتز إلا قليلا، عندما يقسو قلمه، وتعلو حدة انتقاداته فى إبداعه، مثلما حدث فى روايته «ثرثرة فوق النيل»، وكاد يدخل السجن بسببها، ومرة أخرى عندما كتب رواية «الكرنك»، وهناك من يقولون إن يد الرقابة قد طالتها. إذن فنجيب محفوظ هو المتن الإبداعى الذى لا يدانى، ولكن هذا المتن بالطبع لا ينفى فنونا أخرى، وقامات أخرى، مثل فتحى غانم ويوسف إدريس، ويحيى حقى، وسعد مكاوى، وصلاح جاهين، وبيرم التونسى، وفؤاد حداد، ومحمود مختار، وتوفيق الحكيم الذى كان نجيب محفوظ يحترمه كثيرا، وكذلك لطيفة الزيات وإنجى أفلاطون وأمل دنقل وصلاح عبدالصبور ونعمان عاشور والفريد فرج وعبدالرحمن الشرقاوى، وغيرهم. ولا أظن أن نجيب محفوظ نفسه حاول يوما أن ينفى كاتبا مبدعا، أو يزيح هذا أو ذاك بكتف قانونية كما يحدث الآن.. إذن لابد ألا ننسى هؤلاء فى ظل الاحتفالات القائمة بالكاتب والمبدع والروائى العظيم.. هذه واحدة. أما الثانية فهى الحمى التى انتشرت فى المؤسسة الثقافية الرسمية بالاحتفال بمئوية نجيب محفوظ، فالاحتفال بنجيب محفوظ لا غبار عليه، بل بالعكس نحن نحتاج إلى هذا الاحتفال كثيرا، ولكن اختلاط الحابل بالنابل، واستدعاء جميع الطاقات لهذا الاحتفال، هو عين الخطأ، فقبل رحيله مباشرة انتظرت الصحف جميعا يوم الرحيل، حتى تسجل الخبر الأول للرحيل، ثم بعد ذلك تنطلق شلالات الكتابة المجانية، وكتابة ملء الفراغ، وبهذه المناسبة أصدرت مجلة الهلال عددا كاملا تكدس بشهادات لكتاب أظن أنهم لم يقرأوا نجيب محفوظ حق القراءة، فالمقارنة بين هذا العدد، وبين العدد الذى صدر فى الستينيات من مجلة الهلال نفسها، سيلحظ الفرق الشاسع واضحا للعيان.. هذه عينة لما قبيل الرحيل، أما بعد الرحيل مباشرة أى من 21 27 نوفمبر 1906 أقام اتحاد كتاب العرب مؤتمرا استدعى فيه كتابا أعدوا أبحاثا وأوراقا على عجل، بل بعضهم ألقى أوراقا كانت عبارة عن مقالات سبق نشرها، وطورها البعض، وهذبها بعض آخر، أما بعض ثالث فأبقاها كما هى.. هذه ناحية نظرية. أما ثالثة الأثافى كما يقولون ما حدث فى مؤتمر الرواية السابق، والمطبوعات التى صاحبت المؤتمر، وأخص بالذكر ما جاء عن نجيب محفوظ، وأستثنى هنا الجهد الذى قام به الناقد المحترم الدكتور حسين حمودة فى إنجاز الدورية الخاصة بمحفوظ، هذه الدورية التى يرأس تحريرها الدكتور جابر عصفور، وجاءت الدورية، منطوية على دراسات ومقالات وأبحاث تستحق التحية. ولكن الكتابين اللذين صدرا بهذه المناسبة، فلى عليهما ملاحظات وهما كتاب «نجيب محفوظ الرمز والقيمة» للدكتور جابر عصفور، والكتاب الثانى هو: «رحلة عمر مع نجيب محفوظ» للكاتب والقاصى الكبير يوسف الشارونى، عن الكتاب الأول، كنت أتمنى أن ينأى الدكتور جابر عصفور بنفسه عن نشره بمناسبة المؤتمر، خاصة أنه مقرره، ورئيسه، وموجهه وبانيه، ولأن الكتاب كتابه، فكانت دور نشر خاصة وغير خاصة سترحب بنشره، إذ لم تناشده وتوجه له نداءات لينشره لديها، ولا أقصد هنا امتناع النشر من أجل مكافأة الكتاب، بل لأن كتبا كثيرة منشورة من قبل، وأظن أنه لا أمل فى إعادة طباعتها، وقد نفدت، مثل «العالم الروائى عند نجيب محفوظ» لإبراهيم فتحى، أو «تأملات فى عالم نجيب محفوظ» لمحمود أمين العالم، أو «المنتمى لغالى شكرى»، أو الكتاب النادر، الذى طبع مرة واحدة فى دمشق، وهو «مع نجيب محفوظ» لمحمد أحمد عطية. أو كتاب «نجيب محفوظ.. الرؤية والأداة» للدكتور عبدالمحسن طه بدر.. ولا أريد أن أحصى الكتب التى تستحق النشر، ولا أمل فى إعادة نشرها.. فضلا عن أن كتاب الدكتور جابر عصفور قد نشرت بعض مادته فى كتب أخرى له، مثل دراسته الطويلة «نقاد نجيب محفوظ»، التى نشرت فى مجلة فصول عام 1981، وتضمنها كتاب «قراء النقد الأدبى» الصادر عن مكتبة الأسرة، ومثل مقال «بعد عشر سنوات» الذى نشر فى كتاب «فى محبة الأدب».. وغيره، ثم باقى مواد الكتاب عبارة عن مقالات نشرت فى جريدة الأهرام.. وفى المقدمة آثر د. عصفور أن يؤكد أن نجيب محفوظ تم تكريم الدولة الرسمى له، واحتفلت الدولة به احتفالا مهيبا رسميا لا يُنسى، حضره كبار المثقفين والمبدعين العرب، جنبا إلى جنب المثقفين المصريين، وألقى الرئيس مبارك كلمة تحتفى بالإبداع المصرى العربى فى شخص نجيب محفوظ الذى ارتجل أوجز ردا وأبلغه، ويتدارك الدكتور عصفور بعض التكرار ربما فى المقدمة قبل متن الكتاب فيقول: «أرجو أن يصفح القارئ عن بعض التكرار الذى قد يلاحظه بسبب الطبيعة التجميعية لفصول الكتاب ومقالاته التى نشرت، متفرقة، على امتداد أعوام غير قليلة».. وأكرر: كنت أتمنى أن ينأى الدكتور جابر عصفور بنفسه عن نشر الكتاب بهذه العجالة، وفى مؤتمر هو مقرره، خاصة أن كتبا كثيرة تحتاج إلى إعادة طبع كما أسلفنا القول. أما الكتاب الآخر فهو «رحلة عمر مع نجيب محفوظ» للأستاذ يوسف الشارونى، الكاتب الرائد، الذى يعلم أننى أقدر إبداعه كثيرا، وكنت كتبت عن أعماله من قبل، وأعددت ملفا عنه فى جريدة القاهرة بمناسبة بلوغه الثمانين أطال الله فى عمره عام 2004، لكن يغفر لى الأستاذ الشارونى انتقادى لطريقته فى نشر الكتب، فالكتاب الذى بين أيدينا، ما هو إلا تجميع من كتب سابقة، فمثلا الدراسات الأولى وهى: «التطور الروائى عند نجيب محفوظ السراب بين القصرين والتمرد والثورة على الاستبداد الشحاذ الفن الروائى بين «اللص والكلاب» لنجيب محفوظ و«الرجل الذى فقد ظله» لفتحى غانم.. كانت منشورة فى كتاب: «الروائيون الثلاثة» المنشور فى هيئة الكتاب عام 1980، وأعيد نشره مرة أخرى فى عام 2003، هذا فضلا عن أن الأستاذ الشارونى كان قدم دراسته «التطور الروائى عند نجيب محفوظ» فى المؤتمر الذى أقامه اتحاد الكتاب فى عام 2006 بعد رحيل محفوظ مباشرة، أى أن الشارونى ينتظر أى مناسبة تخص نجيب محفوظ، ويستدعى أوراقه القديمة ليستثمرها فيما هو جديد، هذا فضلا عن أن الأستاذ الشارونى كما نمى إلى علمى كان قدم هذا الكتاب فى السلسلة التى يرأس تحريرها الأستاذ والكاتب الكبير يوسف القعيد، والمخصصة للدراسات عن نجيب محفوظ، وتصدر عن هيئة الكتاب، وأظن أنه قد وافق على نشر الكتاب، ولكن الأستاذ الشارونى عجَّل بنشره فى أقرب موقعة تحدث لنجيب محفوظ. ثم إن الأستاذ الشارونى نشر قصتين له هما: «مصرع عباس الحلو» و«زيطة صانع العاهات»، وهما من وحى رواية «زقاق المدق»، ويقول الشارونى فى المقدمة «ولا يفوتنى أن أذكر أننى استلهمت من رواية «زقاق المدق» قصتين أزعم أنهما فريدتان فى تاريخ أدبنا العربى هما قصتا «مصرع عباس الحلو» و«زيطة صانع العاهات» نشرتهما فى «العشاق الخمسة» أولى مجموعاتى القصصية عام 1954، أى منذ أكثر من نصف قرن، تنبوءا بما أصبح عليه نجيب محفوظ من مكانة أدبية وشهرة عالمية، ولا أريد أن أعلق.. ولكننى أترك الجملة، معلقة، ولكن ماذا يعنى الأستاذ الشارونى بأنه تنبأ لنجيب محفوظ بما حظى به من مكانة أدبية لمجرد أنه استوحى قصتين، ثم إن القصتين لا تخصان نجيب محفوظ، بقدر ما تخصان الشارونى، ولا مجال لنشرهما فى الكتاب، خاصة أن مجموعة «العشاق الخمسة» ظلت توالى الصدور، حتى هذا العام صدرت منها طبعة جديدة فى هيئة الكتاب، رغم أنه أصدرها ضمن أعماله الكاملة فى هيئة الكتاب أيضا عام 1993 مع مجموعته الأخرى «رسالة إلى امرأة» ولا أريد أن أعدد وأحصى المقالات، التى يتضمنها الكتاب، وانتزعها الأستاذ الشارونى، ليصنع منها كتابا جديدا، وهذا بالطبع فعل تلفيقى لا يليق بالأستاذ الشارونى، ولا يليق بنجيب محفوظ، ولا يليق بالجهة التى أصدرت وهى المجلس الأعلى للثقافة، وبالطبع أنا لا أدين أى محاولة باستعادة الكتب التى صدرت من قبل، ولكن ليس بهذا الشكل، ودون أن ينوه الأستاذ الشارونى أدنى تنبيه عن مثل هذه التجميعة. أتمنى ألا يتحول الاحتفال، وزحامه، والتكاتف عليه إلى «سبوبّة»، وإلى منجم يدر أموالا، وهناك من لديه الأهم والأكثر قيمة، ولكن من يسمع ومن يرى فى ظل هذه الوليمة، التى جاءت على «الطبطاب» لمن يتفننون فى الاقتراب والتدانى من مقاعد السادة، ومن بيدهم الأمر.