عند البحث عن فكرة لموضوع صحفي يحتفي بمناسبة او شخص صار علما قتل بحثا, يجد المحرر نفسه امام تحد حقيقي لإيجاد فكرة جديدة أو تناول جديد لفكرة مطروقة, هذا هو أسوأ الكوابيس المهنية, أن تجد ابواب الإبداع والابتكار ضيقة خانقة, إلي أن يأتي الفرج عبر مصادفة لطيفة تتصفح فيها الانترنت لتتذكر مدونة قديمة فقد صاحبها مفتاحها.. كهف للنشوة مدونة طالب الطب الشاب معاذ محمود عامر التي بدأ الكتابة فيها خلال دراستة الثانوية.. يتصدر هامش المدونة صورة الأديب الكبير الراحل نجيب محفوظ الذي يحتفل العالم العربي بمئويته هذا الأسبوع بينما يسير الشيخ عبدربه التائه( حكيم أصداء السيرة الذاتية لمحفوظ) حاملا مشعله ليهدي صاحب المدونة بمقتطفات من حكمته المتناثرة في ثنايا كتابات هذا الأخير, كما كان يسقي محفوظ من حكمته وعلمه. معاذ هو مثال لجيل من الكتاب الشباب الذين بدأوا عبر المدونات او حتي انتهوا إليها, جيل يعلن بكل وضوح عبر مساحته المفتوحة بلا قيود مؤسسية( ظاهرة) علي شبكة الانترنت انه لا يقدس أحدا, ولا يعبد صنما او رمزا يسبح بجلاله الكبار. لهذا يأتي حضور نجيب محفوظ المكثف في كتاباتهم لافتا ومثيرا للتساؤل. محمد ربيع صار اسما مألوفا في عالم الأدب لا بين المدونين فحسب, فبعد سنوات من الكتابة في مدونته الخاصة انتقل ربيع للنشر لتخرج روايته الأولي كوكب عنبر إلي القراء قبل أشهر قليلة, لكن بالعودة إلي مدونته القديمة, بل ومن خلال صفحات روايته ذاتها, يمكن استشفاف التقدير العميق الذي يحمله محمد ربيع( الشهير بربيع) لأديب نوبل فيقول: اسرتني كثيرا الأبيات المروية علي لسان الدراويش في الحرافيش ناهيك عن الدراويش والتكية منذ أول لحظة. كان هذا عالما جديدا مختلفا, بدأت قراءة نجيب محفوظ من المنتصف, قرأت الشيطان يعظ بتوجيه من أبي, الذي راقه الاسم كثيرا, لكن الحرافيش كانت طوقا حول رقبتي, لا أعرف هل حررتني أم انها قيدتني إلي يد محفوظ الخاطة إلي الأبد, أقول الخاطة لأن أحدهم طعنة بعدها بسنتين, ولا أعرف هل استمر يكتب بنفس اليد, أم أنه بدأ في الخط بالأخري. الطعنة أجبرتني علي إنهاء نجيب محفوظ في نفس العام, هل أردت ان أنهية قبل ان يموت؟ كنت أراه مسنا ضعيف البنية, والطعنة لاريب ستقتله, قرأته كاملا في ثلاث سنوات, وأعدت قراءته بعد ذلك متفرقا علي مدي سنوات أخري كثيرة, الشيطان يعظ والحرافيش قرأتهما بشكل خاطئ, كما ذكرت بدأت محفوظ من المنتصف, والصواب ان يبدأ من البداية. ويكمل: في بداية السنة الأولي قرأت همس الجنون والروايات الفرعونية, ثم زقاق المدق وروايات ما قبل الثلاثية, ثم جاءت الثلاثية لتحطم كل ما قرأته من قبل, سواء كان محفوظيا ام غيره, كل شيء تلاشي حتي أني قررت حينما فرغت منها ان أتوقف عن القراءة تماما, كان ذلك عام1993, كنت مراهقا وقراري كان عاطفيا.. بابعت قراءة محفوظ حتي أنهيته عام95 وقتها كنت أقرأ بسرعة وتركيز لا يتوفران اليوم, كان النهم دافعي الأول, ذلك النهم الذي تلاشي بمرور الأيام, لكنه يتقد كلما فتحت رواية لمحفوظ, يصحو النهم القديم مرة أخري ويظل ملحا, حتي أنهي الكتاب فيتلاشي بدون مقدمات كما ظهر هذا الولع بمحفوظ انطبع اثره علي محمد ربيع وهو ما يعترف به فيقول: بعد صدور روايتي كوكب عنبر ذكر لي بعض الاصدقاء ممن قرأوا الرواية في الأيام الأولي ان هناك( طابعا محفوظيا) ما في روايتي هذه ولا أجد غرابة في ذلك فمحفوظ ترك اثرا عظيما لدي ولكني لم اتنبه لهذا الأثر الا بعد خروج روايتي للنور, وان كنت لا استبعد ان يقل هذا الأثر بالتدريج. محمد الحاج وجه آخر من الوجوه المهمة في الفضاء التدويني المصري بدأ الكتابة عبر مدونته( الأخوة كرامزوف) المشتركة مع أخيه الأصغر صار اسمها ملاحظات بسيطة عندما استقل بها ويكتب من خلالها نصوصا قصيرة لافتة, اعرب في بعض منها عن تقدير لنجيب محفوظ بدأ منذ سنوات مراهقته القريبة( محمد الآن في الرابعة والعشرين), وهو تقدير له ملمح في حياة محمد الخاصة, حيث يقف علي الحافة بين عالمي الرواية والسينما, ففي الوقت الذي يعمل فيه علي روايته الأولي, فاز سيناريو(69 ميدان المساحة) الذي تقدم به لمهرجان القاهرة السينمائي في دورته المنقضية بجائزة الملتقي ومنحة وزارة الثقافة للانتاج, هذا التشابه بين طموحه وحياة محفوظ جعل للأخير مكانة خاصة لدي المدون الشاب فيقول: لا أتذكر تحديدا الوقت الذي تنبهت فيه لأعمال نجيب محفوظ, كبرت كما كبر ابناء جيلي علي الطنطنة الرسمية في الكتب المدرسية علي انجاز نوبل والقيمة الأدبية العظمي لمحفوظ, لم أدرك تحديدا ما يتحدث عنه الجميع إلا حينما تابعت بكل شغف مسلسل حضرة المحترم المأخوذ عن روايته الحاملة لذات الاسم في مرحلتي الإعدادية, اعقبته بقراءة للرواية ذاتها, مازلت أتذكر دهشتي العارمة من الرواية, كانت المرة الأولي التي أشهد شخصية علي هذا القدر من التعقيد متجاوزا القصص المبسطة عن روايات ديكنز ومسرحيات شكسبير المعدة للناشئة, لم أفهم علي وجه الدقة سعي عثمان بيومي النيتشوي وراء الشعلة المقدسة في رحلة يمتزج فيها الغرض الصوفي بالغرض الحسي, لكني شعرت بعالم مترامي الأطراف لا أكاد أحيط به, كنت ومازلت مبهورا من صنع محفوظ في روايته تلك, ذهنية عالية بعاطفة جياشة. ويضيف: في المرحلة الثانوية استوليت علي نسخة أمي من أولاد حارتنا, نسخة دار الآداب البيروتية مصفرة الأوراق الموضوعة في ركن مهمل من مكتبة العائلة, كان تعقب التشابه بين فصول الرواية وبين ما أعرفه عن قصص الأنبياء سهلا, لكن الفصل الأخير تحديدا فصل عرفة أربكني لم أدرك حينها ايضا ولم أعد للرواية منذ ذلك الحين لأحدد الآن بدقة, ماذا اراد نجيب محفوظ بعرفة واقترابه من الجبلاوي اكثرممن سبقوه, اغلقت الرواية بعدها بانبهار نابع اساسا من تأثري بفكرة قراءة الرواية الممنوعة ما لبثت ان نقدته بكون الرواية مبالغ في تقديرها وحتي الآن لم أعد لاقرأها بعين في الغالب هي أكثر نضجا من عين ابن الخامسة عشرة. انقطع محمد الحاج خمس سنوات عن أعمال محفوظ, ثم عاود قراءته في العشرين, كانت الحرافيش هي بدايته الجديدة ويقول عنها: كنت مبهورا, حينها كان يشغلني بشكل عنيف فكرة كيفية( تأصيل) الرواية, كيفية استيعاب هذا الشكل السردي داخل الثقافة الأدبية العربية التي لم تعرف علي وجه الدقة هذا الشكل في السرد قبل احتكاكها بنظيرتها الأوروبية, كانت الحرافيش حلا, الطريقة التي استخدمها محفوظ في بناء عمله الفذ لم تبد لي انها قابلة للتطبيق علي أعمال اخري من نوعية القصص والأجواء, لفتات عبقرية مازالت تثير في نفسي شيئا من الغيرة, كانت بداية جديدة تماما كأنني لم أعرف محفوظ من قبل. الانبهار بمحفوظ هو الملمح الغالب هنا في رؤية محمد الحاج ومحمد ربيع للروائي العربي الراحل, وهو انبهار قائم علي موهبة محفوظ وصنعته المتميزة في الكتابة اما أمير زكي( في الرابعة والعشرين من العمر ايضا) والذي يضع صورة محفوظ بين صور بيكيت وبيسوا وجيمس جويس باعتبارهم الكتاب الأكثر تفضيلا لديه علي مدونته كتب مملةboringbooks فيأتي اعجابه بمحفوظ مؤسسا علي أسباب أخري يفسرها بقوله: كانت مكتبة مصر هي المصدر الأساسي للاطلاع علي أعمال الكتاب المصريين المشهورين, في بداية مراهقتي اطلعت علي قدر من أعمال توفيق الحكيم ثم يوسف ادريس وبعض يوسف السباعي, وبالطبع محفوظ معهم, ولكن استجاباتي لكل الكتاب كانت محدودة باستثناء محفوظ الذي غرقت في عالمه وانغمست في ادبه كليا, كانت افكاره هي الأكثر جرأة وتحررا, وكان اسلوبه هو الأكثر سلاسة وجاذبية, اعتقد انه يمثل لي أبا بالمعني الثقافي, اعتقد ايضا انني عرفت كل شيء وبدأت كل شيء من خلاله, مراهقتي المنطوية تفتحت حقا علي يديه, انبهاري بشخصيات مثل علي طه في القاهرةالجديدة وأحمد راشد في خان الخليلي, وأحمد شوكت في السكرية احدث اهتزازات حادة في رؤاي الدينية, كنت أحلم بنفسي كثيرا في مواضعهم وأود ان أتمثلهم, ولكني انتهيت ان انتهيت لأن أكون أشبه بكمال عبد الجواد. هذا الاثر الواضح الذي تركه محفوظ علي الشبان الثلاثة احدث تغيرا ملحوظا في رؤاهم للحياة لا الادب فقط فيقول امير زكي: تعلمت من محفوظ اننا لا نستطيع أن نتعامل مع الانسان من بعد واحد, فمحجوب عبد الدايم يثير التعاطف والشفقة مثلما يثير المقت. وربما تعجب به إلي جانب كراهيتك له. بينما علم محفوظ محمد الحاج الجرأة علي التجريب فيقول: كان محفوظ مجربا عظيما, لم يترك بابا لم يطرقه ليدفع قدرته علي التعامل معه إلي أقصاها, وفي اعتقادي لم تمر تفصيلة عبثا في ذهن الرجل, مر بكل ما مر به في حياته ليختزن ما يصنع به فنا عظيما, وفي رحلته تلك لم يتنصل محفوظ مما كتبه وكان بعضه في غاية السوء حقا قائلا أصلي كنت بلعب, كان محفوظا لعيب بقدر ما كان إنسانا, تستهويه الصنعة أحيانا فيصنع ما يرضي رغبته, لكن أعماله الأعظم ارتبطت بقدرته المهولة علي التبصر بروح الناس من حوله. ولا يبتعد هذا كثيرا عن رؤية محمد ربيع الذي يميل لكون محفوظ ليس إلها يعلو علي النقد, لكن هذا لا ينتقص من قامته الادبية شيئا, فيتحدث ربيع عن أولاد حارتنا قائلا: قرأت أولاد حارتنا بعدما أنهيت محفوظ, وجدت فيها نسخة غير ناضجة من الحرافيش, صدمت صدمتين, أثناء القراءة عندما مات الجبلاوي, وقد كنت أعلم انه سيموت, والأخري عندما أنهيت الرواية, لم أجد فيها ربع ما توقعته. لكني راجعت ما في ذاكرتي من ليالي ألف ليلة والطريق والشحاذ وغيرها, فاطمأننت لصحة نظريتي الخاصة, محفوظ خير مثال علي التطور, أفضل من أقصي النماذج الضعيفة, وأمهر من أحدث النماذج المميزة.. ويعلق أمير زكي: لا استطيع أن أجيب عن سؤال حول ما أفضله من كتابات محفوظ, فالعلاقة الشخصية التي انبنت بيننا جعلت محفوظ كله أمامي مثيرا للإعجاب بداية من القصص والروايات الأولي الضعيفة فنيا, وحتي شذراته في اصداء السيرة الذاتية وأحلام فترة النقاهة. هذا الذي يجعلني أعشق كتبا له يكون الاحتفاء بها أقل مثل قلب الليل والطريق, مثلها مثل الكتب الأكثر شهرة وقراءة كالحرافيش وأولاد حارتنا والثلاثية وان كان لدي هذا الاعجاب لدي أمير كالعادة ما يبرره فيقول: أعجبت بشخصية محفوظ مثلما أعجبت بأدبه, مرونته التي جعلته يكتب في أكثر من شكل أدبي, عدم اصطدامه بالواقع السياسي رغم نقده البين له, عدم خوضه للمعارك المنهكة وتركيزه في أدبه, فصله بين عمله التجاري في السينما وعمله الأدبي العظيم, كل هذه فضائل أعجب بها وأحاول أن أتعلمها منه. ياسر عبد القوي كاتب وفنان تشكيلي استعاد تواصله مع الوسط الثقافي في مصر في البداية عبر مدونته اسكندراني بعيدAlexandrianfaraway التي كان يكتب فيها بانتظام وغزارة خلال عمله بالامارات العربية ليتوقف بالتدريج عقب استقراره بمصر, ياسر مختلف عن الشباب الاربعة( معاذ وربيع ومحمد وأمير) فهو في الاربعينيات من العمر, احتك بالوسط الثقافي وكان فاعلا فيه خلال فترة التسعينيات ويعلن بجلاء انه لا يقدس شيئا أو أحدا وان الادب العربي لديه لم ينجب كاتبا يعلو علي النقد الحاد, هذه الرؤية القاطعة تتوقف عند محفوظ الذي يقول عنه ياسر: محفوظ هو أعظم من كتب الرواية بالعربية بلا جدال هذا الرأي القاطع يزيده ياسر عبد القوي حسما بقوله: لا الظرف الذاتي أو الموضوعي يسمح بالقول أن هناك من يقترب من محفوظ فضلا عن ان ينافسه أحد علي هذه المكانة يتجاوز ياسر سريعا رأيه هذا ليقيم المنتج الابداعي العربي قياسا علي الأديب الراحل فيقول: لكتاب الستينيات منجز مميز, فقد عدلوا القالب الكلاسيكي المحفوظي ليستخرجوا منه ما يتلاءم مع ابداعهم, أما من تلاهم ومثال علي ذلك جيلي من التسعينيين فقد أعلنوا بجرأة تمردهم علي القالب الكلاسيكي للسرد ولكنهم لم يقدموا في المقابل منجزا روائيا يمكن النظر له بعين الاعتبار. يري ياسر عبد القوي الذي انتقل من قراءة الادب الغربي الروسي علي وجه الخصوص إلي الادب العربي في حركة عكسية, انه لا يوجد قالب صنعه محفوظ للرواية, فالكاتب الذي تسلم الرواية من مراحلها الجنينية علي حد قول ياسر ليطورها عبر ما يقرب من سبعين عاما من الكتابة( من الثلاثينيات وحتي نهايات التسعينيات ومطلع القرن الجديد) استطاع ان يتشرب قالب تورجينيف وغيره من الروائيين العظام, هذا القالب الذي تمرد عليه المبدعون الشباب دون ان يجربوه ودون ان يحاولوا التجديد فيه, هذا القالب ببساطة وفقا لرأيه هو قالب الرواية وما دونه لا يعدو محاولات لاختراع ما تم اختراعه. فنجيب محفوظ معماري روائي علي حد تعبيره قادر علي وضع بناء متماسك للرواية يجعل من حذف أي تفصيلة أو استغناء عنها انذارا بهدم هذا البنيان المميز وهو ما لا يوجد في الكتابات التجريبية الاخري. ويري عبد القوي ان نجيب محفوظ لم يحظ حتي الان بالقراءة النقدية المستحقة ولم يلتفت أحد لعمق التشابه بين ادبه وادب الروسي العظيم تورجينيف. منتظرا ان يري النقاد والقراء نجيب محفوظ بدقة وفقا لتنظير نقدي حقيقي لا يحكمه الانبهار وحده.