احتفالا بمئوية الأديب العالمى نجيب محفوظ الذى ولد فى 11 ديسمبر 1911، نشرنا فى عدد سابق ملفا عن الأديب الكبير، تضمن عرضا على صفحة كاملة لكتاب «نجيب محفوظ... صداقة ممتدة» لزكى سالم الذى كان الأقرب من محفوظ، وهنا ننشر الفصل الأول من الكتاب الذى يصدر قريبا. البداية من أعظم نعم المولى عز وجل، وهى لا تعد ولا تحصى، أن أقترب وأتعلم من أستاذ عظيم، يعد مثالا رائعا للإنسان حين يقوم بدوره الحقيقى كخليفة لله فى أرضه، فتتجلى فيه القيم الأخلاقية النبيلة، والمعانى الروحية الرفيعة، إنه المبدع الكبير، والإنسان الجميل نجيب محفوظ، الذى لو لم تتح لى هذه الفرصة الرائعة والتى أعتقد أنها مقدرة مذ الأزل لمصاحبته لنحو ثلاثين عاما متصلة، لما عرفت أن مثل هذا النوع الراقى جدا من البشر، يمكن أن يوجد فى مثل هذا العصر الذى نعيش فيه. كنت أعرف تماما، وأنا أجلس معه وحدنا لساعات طويلة، أن ما يقوله من أفكار، وآراء، وتعليقات، ومعانى يجب أن تسجل، وتحفظ لينتفع بها الناس، فسجلت بقلمى بعض كلماته المهمة، واحتفظت معى بجهاز صغير للتسجيل، فاستطعت أن أسجل على مدى سنوات طويلة، الكثير من أحاديثنا، ومناقشتنا، وحواراتنا المشتركة. وكثيرا ما سمعت من بعض الأصدقاء الأعزاء كلمات تدعونى لكتابة كتاب عن حياة نجيب محفوظ وأدبه، كان هذا يتم فى أثناء وجوده بيننا، إذ كان يمكن أن أكتب كتابا عنه، ثم أقرأه بالكامل عليه، وأستمع إلى ملاحظاته، وتعليقاته على الكتاب، ثم أسجلها أيضا فى الكتاب. لعل الفكرة كانت صائبة، ولكنى كنت فى حال من الشوق الدائم إلى الاستماع إلى كل كلمة يقولها، وسؤاله عن كل ما يخطر لى من تساؤلات، ومحاورته فى شتى المواضيع الأدبية، والفلسفية، والدينية، والحياتية، وغيرها. كنت فى حال من الاستقبال المتواصل، ودون استعداد لمهمة الإرسال! ومن ثم فقد حدث الأمر بشكل آخر، فبعد حصوله على جائزة نوبل فى الآداب عام 1988. تبنى الأهرام فكرة إصدار كتاب عن حياته، من خلال حوارات معه يجريها رجاء النقاش، وكنت أجلس معه فى المساء، حين كان يلتقى رجاء النقاش فى الصباح، وكنت أسأله عن أخبار اللقاءات والحوارات، فكان راضيا عنها، فهو صديق لرجاء النقاش مذ سنوات بعيدة، ورجاء حين كان رئيسا لتحرير مجلة الهلال خصص عددا خاصا من أعداد المجلة عن نجيب محفوظ. المهم، على مدى شهور طويلة، استمع وسجل رجاء النقاش الإجابات عن كل الأسئلة التى طرحها على نجيب محفوظ. وهكذا جمع عددا كبيرا من شرائط الكاسيت، ولم يتبق سوى تفريغها لتصبح كتابا مهما عن حياة محفوظ وأدبه. ومن ثم انتظرنا صدور الكتاب فى وقت قريب، وكان محفوظ يفسر اختفاء رجاء النقاش، وعدم اتصاله به، بأنه يعمل فى المادة التى جمعها من أجل الكتاب، لكن عندما مر عام وآخر، أخذ الأستاذ يتساءل: أين الكتاب؟ حتى أننى كتبت فى أخبار الأدب أسأل رجاء النقاش بوضوح: أين الكتاب؟ لكننا لم نحصل على أى إجابة عن هذا السؤال لنحو عشر سنوات! وأخيرا فى عام 1999م. صدر الكتاب المنتظر! وصدر دون أن يطلع عليه الأستاذ، ولا راجعه! وقرأت الكتاب كلمة كلمة على نجيب محفوظ، وكان بيدى قلم لكى أسجل فى الكتاب نفسه ملاحظات الأستاذ، وتصحيحاته لبعض الأخطاء المذكورة فى أجزاء عدة من الكتاب، وهكذا راجعت مع الأستاذ سيرة حياته كاملة، ما ذكر منها، وما حذف أيضا! ولذلك تعاملت مع هذا الكتاب بمنتهى الحرص والحذر، ولكن لا يغنى حذر من قدر، إذ فجأة اختفى هذا الكتاب من مكتبتى بكل ما فيه من إضافات، وملاحظات، وتصويبات! وفى صباح يوم الأربعاء 30 أغسطس 2006. رحل عن عالمنا هذا الرجل العظيم، والذى يعد من أعظم المبدعين الذين أنجبتهم مصر على طول تاريخها الطويل. وطلب منى كثير من الأصدقاء أن أبدأ فورا فى كتابة كتاب عن صداقتى الطويلة مع أستاذنا العظيم نجيب محفوظ، وقد شعر البعض بمدى تأثرى العميق برحيله، فنصحنى بالكتابة عنه حتى أتخفف من الحزن الجاثم على صدرى. فبعدما كتبت عنه عشرات المقالات، ونقدت أدبه فى الصحف والدوريات والندوات، كما تحدثت عنه كثيرا فى محطات الإذاعة والتليفزيون والفضائيات. كان لابد أن يأتى موعد كتابة هذا الكتاب، حين تفضل الصديق النبيل الدكتور حسين حمودة، ودعانى للمشاركة فى احتفال المجلس الأعلى للثقافة بالعيد المئوى لميلاد نجيب محفوظ. وفيما يبدو أننى طوال السنوات الماضية، كنت لا أجد لدى الشجاعة الكافية للبدء فى كتابة كتاب عن نجيب محفوظ، فكتبت أشياء أخرى، على أمل أن الزمن سيهدئ من سخونة مشاعرى، ويسمح لى بكتابة موضوعية عن إنسان حكيم وأديب عالمى، عشت معه أجمل سنوات حياتى جميعا. لكننى أملك الآن الشجاعة الكافية، لكى أعترف بوضوح أننى لا يمكن أبدا أن أكتب بحياد، ولا بموضوعية عن نجيب محفوظ، وذلك لسبب فى غاية البساطة، فهو أكثر إنسان أحببته طوال حياتى. قد يكون من الأفضل أن أبدأ من بداية معرفتى بالأستاذ، وهذا يتطلب أن أقدم اعتذارا للقارئ الكريم، فقد أظهر فى الفصل الأول أكثر مما ينبغى، لكن ثمة ضرورة فنية تتطلبها بداية السرد فى هذا الكتاب المخصص كله للحديث عن أستاذنا العظيم نجيب محفوظ. كنت فى بداية الصبا قد قرأت بعض أعمال طه حسين والعقاد والمازنى وتوفيق الحكيم ويحيى حقى ونجيب محفوظ، فأعجبت بهم جميعا، وبخاصة محفوظ الذى عشقت فنه البديع، ثم شاهدته وهو يتحدث فى التليفزيون، واستمعت إليه فى الإذاعة، وقرأت حواراته فى الصحف والمجلات، فجذبتنى شخصيته الساحرة. فكان لا بد أن أذهب إليه، لأعرض عليه بعضا من قصصى القصيرة، لعله يقدم لى ملاحظات فنية، ونصائح أدبية تنفعنى فى كتابة القصص والروايات التى أيقنت منذ هذه السن المبكرة أنها عملى الأهم فى هذه الحياة! فى النصف الثانى من السبعينيات، كنت طالبا فى كلية التجارة جامعة القاهرة، وكنت على علم بمكان بيت محفوظ وخط سيره كل صباح، إذ يخضع نفسه لنظام صارم جدا، فيخرج من بيته فى السادسة صباحا، ليمارس رياضة المشى لمدة ساعة، فيمشى نفس المشوار على شاطئ النيل، ويشترى ذات الجرائد والمجلات من نفس بائع الصحف، ثم يكمل مشواره الصباحى حتى مقهى «على بابا» بميدان التحرير، حيث يقرأ الجرائد والمجلات فى ساعة زمن، ثم يعود بعد ذلك إلى بيته ليبدأ فى ممارسة إبداعه الأدبى! فقد اعتاد على أن يروض إبداعه، إذ إنه يكتب كل يوم، وفى ساعات محددة فقط، وباقى وقته المنضبط يمضيه فى القراءة المنظمة، وبعد ذلك يتبقى وقت محدد للأسرة، ووقت آخر للأصدقاء، فكل شىء له وقته، وكل شىء مهما كان، لا يسمح له أبدا بأن يتجاوز وقته المحدد بدقة! خرجت من بيتى قبل شروق الشمس، واشتريت صحف الصباح جميعا من أجله، واستقبلته بعدما خرج من بيته، وبدأ فى مشواره الصباحى، سلمت عليه، فقابلنى ببشاشته المعهودة، فعرفته بنفسى، وكلمته عن حبى للأدب، وحدثته عن بعض قصصه ورواياته، وتشعب بنا الحديث، وتطرقنا إلى موضوعات أدبية وثقافية متنوعة، وأذكر أننى سألته عن أهمية الالتزام بكل قواعد اللغة العربية القديمة فى الكتابة الأدبية الحديثة، وأن الأساليب اللغوية تتغير، وتتطور، وتتحرر مع الزمن من بعض قيود اللغة الجامدة، فقال بوضوح إنه مع الالتزام الكامل بكل قواعد اللغة، وإنه لا يرى أى ضرورة لكسر مثل هذه القواعد المستقرة، فضربت له مثالا بعنوان أول مجموعة قصصية ليوسف إدريس، وهو « أرخص ليالى» وذكرت له ما قاله الدكتور طه حسين عن وجود خطأ لغوى فادح، ولا يصح، فى عنوان المجموعة، فالصحيح هو أن تكتب هكذا: «أرخص ليالٍ»، بحذف الياء الأخيرة، وهنا قدم الأستاذ نجيب مخرجا لغويا، أو تبريرا يسمح بأن يبقى العنوان كما هو! وهكذا أخذنا نسير معا متجاورين، وقد اشتبكنا فى أحاديث أدبية عدة، نتحدث معا كأصدقاء قدامى برغم فارق السن والمكانة، وبرغم أنه كان أول لقاء بيننا! وحين قدمت له الصحف التى أحضرتها من أجله، اعتذر عن عدم قبولها، وقال لى إنه أعتاد أن يطلع على الصحف والمجلات جميعا، قبل أن يشترى بعضها، ثم حدثته عن القصص التى أكتبها، فدعانى إلى قراءة قصصى فى ندوته الأسبوعية، التى يعقدها كل يوم جمعة فى تمام الساعة الخامسة بكازينو قصر النيل. بعد فترة من التردد ذهبت إلى الندوة، ولكنى لم أجد الجو يسمح بعرض قصصى القصيرة على الحضور، وبعدما مرت سنوات عدة، وأنا أجلس مع محفوظ وحدنا على مقهى (لم يعد موجودا)، على رصيف فندق شهرزاد القريب من بيته، حينئذ تقدم منا شاب كان يسير فى الشارع، ورأى بالمصادفة نجيب محفوظ يجلس أمامه، فتقدم إلينا وسلم، ثم طلب أن يقرأ الأستاذ قصة كتبها الشاب، فسمح له أن يقرأها، حاول الشاب أن يُسمع الأستاذ، لكنه فشل تماما، فاضطررت أن أخذ منه القصة، وأقرأها للأستاذ، كانت قصة ضعيفة، ومع ذلك شجعه الأستاذ ببضع كلمات طيبة، وذهب الشاب، ولم أره مرة أخرى، ولكنه شجعنى على أن أقرأ قصصى للأستاذ، ومن يومها، أخذت أقرأ قصصى ورواياتى واحدة بعد أخرى على نجيب محفوظ. لقاء الناس ندوة قصر النيل