حزب الإصلاح والنهضة يدشّن حملته الانتخابية للنواب 2025 باستعراض استراتيجيته الدعائية والتنظيمية    نائب محافظ سوهاج يكرم 700 طالب و24 حافظًا للقرآن الكريم بشطورة| فيديو وصور    استبعاد مدير إدارة «قليوب» ومديرة مدرسة «ميت حلفا» الثانوية وأحد المدرسين بعد مشاجرة معلمي التاريخ    هبوط كبير في عيار 21 بالمصنعية.. مفاجأة في أسعار الذهب اليوم بالصاغة بعد قرار البنك المركزي    سعر الفراخ البيضاء والبلدي وكرتونة البيض في الأسواق اليوم الجمعة 3 أكتوبر 2025    رسميا.. 4 شروط جديدة لحذف غير المستحقين من بطاقات التموين 2025 (تفاصيل)    محافظ الإسكندرية يتفقد موقف محطة الرمل ويوجّه بسرعة إنهاء التكدسات المرورية    إنذار جوي يربك سوتشي.. وتعليق الرحلات في مطارين روسيين    أصله سوري.. كشف هوية منفذ الهجوم على كنيس يهودي في مانشستر    فلسطين.. غارات إسرائيلية على خان يونس وتفجير مدرعات مفخخة    كراكاس تتهم واشنطن بانتهاك سيادة أجوائها    يهاجموننا جميعًا.. إسرائيل تضع الاتحاد الأوروبي في مأزق بعد الاعتداء على أسطول الصمود العالمي (فيديو)    معروف حكما لمباراة الزمالك وغزل المحلة    «وي» يلتقي بلدية المحلة في ختام مباريات الجولة السابعة بدوري المحترفين    مشهد مؤثر من زوجة علي زين بعد سقوطه في نهائي كأس العالم للأندية لليد (فيديو)    «ناس ليهم مصالح».. باسم مرسي يهاجم منتقدي فيريرا وجون إدوارد    الزمالك يعالج ناصر منسي والدباغ من آلام القمة 131    انهيار عقار قديم في غيط العنب بالإسكندرية والحماية المدنية تواصل البحث عن ناجين    إصابة مدير مستشفى الصدر ونجله ومصرع آخر في انقلاب سيارة بالعياط    أتربة عالقة في الأجواء .. الأرصاد تكشف حالة الطقس اليوم الجمعة 3 أكتوبر 2025    رابط التقييمات الأسبوعية 2025/2026 على موقع وزارة التربية والتعليم (اعرف التفاصيل)    يحيى الفخراني: «العلاقة الإنسانية أساس نجاح أي عمل فني.. وزوجتي تشاركني في الاختيارات»    تكريم هالة صدقي وعبد العزيز مخيون واسم لطفي لبيب في افتتاح مهرجان المونودراما    5 أبراج على موعد مع الحظ في أكتوبر 2025.. هل برجك منها؟    سماح أنور عن عدم تعاونها مع كاملة أبو ذكري: «أنا بشتغل مع المهنيين فقط»    «هيدوب في بوقك».. طريقة سهلة لعمل الليمون المخلل في البيت    ضيفي ملعقة «فلفل أسود» داخل الغسالة ولاحظي ماذا يحدث لملابسك    ركّز على اللون وتجنب «الملمس اللزج».. 6 علامات تنذر بفساد اللحوم قبل شرائها    لتقصيرها في حق أسرتها.. ليلى علوي تبكي أمام الجمهور في مهرجان الإسكندرية السينيمائي الدولي    العريش بين الإدارة الدولية والسيادة الوطنية.. هل تُباع سيناء بالتقسيط في صفقة ترامب؟    حقيقة رحيل محمد عواد عن الزمالك في الانتقالات الشتوية    محمود كامل يعلن انضمامه لاعتصام صحفيي "الوفد" السبت المقبل: دعم الزملاء واجب نقابي وأخلاقي    جرعة مخدرات وراء مصرع سيدة داخل مسكنها فى العمرانية    منافسة ساخنة على لوحة سيارة مميزة "ص أ ص - 666" والسعر يصل 1.4 مليون جنيه    ضبط عاطل وشقيقه بتهمة حيازة مواد مخدرة للاتجار بالهرم    انفصال 4 عربات من قطار بضائع بسوهاج    أخبار × 24 ساعة.. رئيس الوزراء: الدولة تدعم المحروقات ب75 مليار جنيه رغم الزيادات المقررة    تعرف على موعد تطبيق التوقيت الشتوي في أسيوط    أسعار اللحوم في أسيوط اليوم الجمعة 3102025    أسعار الفاكهة في أسيوط اليوم الجمعة 3102025    أستون فيلا يقهر فينورد على ملعبه في الدوري الأوروبي    الكويت تدخل موسوعة "جينيس" للأرقام القياسية بأطول جراحة روبوتية عابرة للقارات    خسيت 60 كيلو.. أبرز تصريحات عبد الله نجل غادة عادل ومجدي الهوارى (إنفوجراف)    أسامة كمال: الإخوان "عايزينها تولع" ويرغبون فى رفض حماس لخطة ترامب لوقف حرب غزة    مواقيت الصلاة في أسيوط اليوم الجمعة 3102025    رئيس لجنة تحكيم مسابقة بورسعيد يفوز بلقب شخصية العالم القرآنية بجائزة ليبيا الدولية    عالم بالأوقاف: الوطنية الصادقة لا تنفصل عن الدين.. وعبارة الغزالي تصلح شعاراً لعصرنا    رقم سلبي يلاحق مدرب نوتنجهام فورست بعد الخسارة الأوروبية    موهبة مانشستر يونايتد تثير اهتمام ريال مدريد    بسبب وقائع شغب.. محافظ القليوبية يستبعد قيادات تعليمية بمدارس قليوب وميت حلفا    الكويت تدخل موسوعة "جينيس" للأرقام القياسية بأطول جراحة روبوتية عابرة للقارات    موقف زيزو من مباراة الأهلي وكهرباء الإسماعيلية في الدوري المصري    السوشيال ميديا بكفر الشيخ تتحول لساحة نزال شرسة قبيل انتخابات النواب    رئيس جامعة الإسكندرية يسلم 4 نواب وعمداء جدد القرارات الجمهورية بتعيينهم (صور)    وضع حجر أساس مستشفى «الخليقة الجديدة» بأسيوط بيد البابا تواضروس    استشاري مخ يكشف مدى خطورة إصابة الأطفال ب"متلازمة ريت"    ما حكم التنمر بالآخرين؟ أمين الفتوى يجيب أحد ذوى الهمم    خالد الجندى: كثير من الناس يجلبون على أنفسهم البلاء بألسنتهم    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ثقافة العمل .. قد يمنحنا الحياة وقد يقتلنا أيضا
نشر في الشروق الجديد يوم 30 - 04 - 2009

عندما تدق الساعة الخامسة مساء، ويهم المحاسب هشام عز الدين بمغادرة البنك، يخلع سترته ويضعها على كتفه ملتقطا طرفها بإحدى يديه وبالأخرى يخفف من إحكام ربطة عنقه وهو يتنفس الصعداء.
« الشغل فى مصر بقى حاجة تخنق!» تلك هى الجملة الأولى لهشام وهو يلقى بسترته على مقعده المفضل فى المقهى القريب، حتى قبل أن يلقى التحية على أصدقائه من موظفى البنوك والشركات المجاورة الذين يلتقيهم بشكل يومى بعد مواعيد العمل ويتبادلون أحاديث يدور معظمها حول هذه الفكرة وتفاصيلها.
صراعات ما قبل إعلان الترقيات، التنافس والغيرة والتقييم المتبادل، العلاقات مع الرؤساء والمرؤوسين، التفكير فى تغيير مجال العمل أو مكانه، التذمر من الراتب المجحف بالمقارنة بالمجهود أو بآخرين فى نفس المجال أو بالأقساط مستحقة الدفع كل أول شهر.
هذه الحالة ليست سمة «الشغل فى مصر» فحسب، وهو ما استدعى الإقبال العالمى من قبل كل من الشركات والأفراد على مجال «التنمية الذاتية» أو «التنمية البشرية» لمعالجة هذه المشكلات ولتحقيق توازن مرضٍ بين أهداف المؤسسات وأهداف الأفراد العاملين بها.
«العمل قد يمنحنا الحياة ولكنه قد يقتلنا أيضا» هكذا تقول ميتى نورجارد، الكاتبة الدنماركية وخبيرة التنمية البشرية فى كتابها «البط الدميم يذهب إلى العمل» الذى ترجمه د. شكرى مجاهد ونشرته دار العبيكان. الاسم الغريب للكتاب نسبة لعنوان إحدى قصص الأديب هانز كريستيان أندرسون: «فرخ البط الدميم».
ففى كتابها تستلهم نورجارد خلاصة الحكمة التى تتضمنها قصص مواطنها الأديب الدنماركى، لتطبقها من وجهة نظرها على مشكلات العمل المعاصرة.
وجدت نورجارد فى القصص الخيالية التى أحبها الملايين من الكبار والصغار مثل الإمبراطور المخدوع بالزى السحرى أو الخنفس المتكبر أو شجرة الصنوبر، معانى وأفكارا تصلح للحياة والعمل معا. لذلك تهدى هذا الكتاب إلى من يبحثون عن الحياة والحيوية فى العمل، من يريدون أن يعيشوا أثناء العمل ولا يعتبرونه وقتا يبيعونه مضطرين من أجل أموال سيستمتعون بها باقى الوقت وهم يرددون أن «الشغل لا يطاق». ونحاول بدورنا استلهام نفس الفكرة وتطبيقها على «الشغيلة» المصريين، أيضا متبعين نهج قصص أندرسون.
1 إنى أرى الإمبراطور عاريا !
يحدث أحيانا أن يقدم المدير إلى مرؤوسيه رؤيته لمشروع أو حله المقترح لمشكلة معينة. يعتقد بعضهم أن هذه الرؤية بها خطأ ما أو أن حله به ثغرة، ولكن لأن معظمهم يشيد بحكمة المدير بشكل أوتوماتيكى أو على الأقل يهز رأسه تخوفا من أن يكون اعتراضه هو الخاطىء فإن المتأكدين من خطأ كلام المدير أو من لديهم رأى آخر متمسكون به سيجدون أنفسهم أمام خيارين: مجاراة المدير والزملاء أو الاعتراض والمغامرة بالخروج عن السياق.
هذا ما رأته ميتى نورجارد فى قصة «ملابس الإمبراطور الجديدة». فى القصة يقنع نصابان الإمبراطور المهتم بزينته ومظهره أنهما سيصنعان له ثوبا بديعا من نسيج سحرى لا يراه الذين لا يستحقون أن يكونوا فى مناصبهم. وعندما يبدأ النصابان فى النسج، يرسل الإمبراطور مستشاريه ووزرائه، وعندما لا يرون شيئا ينسج، يكون عليهم إما التصريح بالحقيقة والمغامرة بأن يكون ذلك اعترافا أنهم ليسوا جديرين بمناصبهم، أو التظاهر برؤية النسيج السحرى والعودة للإمبراطور وطمأنته أن الثوب سيكون رائعا. يصل الأمر فى النهاية إلى أن البلدة كلها تتظاهر بأنها ترى الثوب غير الموجود، ومنهم الإمبراطور نفسه. بل ويستسلم الإمبراطور للنصابين ويتركهما يلبسانه الثوب الخفى ليسير فى موكب حاشد عاريا تماما ولكنه يسمع إشادة الناس بمظهره. ويستمر الأمر حتى يكشف بعض الأطفال الأمر ببراءة وهم يرددون «الإمبراطور عار! الإمبراطور لا يرتدى شيئا!”. الأطفال ليس لديهم حسابات وليست لديهم مناصب يخافون ألا يكونوا جديرين بها.
فى مثل هذا الموقف يتعرض الناس لاختبار: إيثار السلامة أم التزام الأمانة؟ هل يعلنون ما يرونه حقا ويتحملون تبعته لو كان خطأ أم يحافظون على مكانتهم مؤقتا؟
تحذر نورجارد من أن إيثار السلامة وراءه الاعتقاد أن رضا المدير أو رؤساء الشركات هو سبب وجودنا فى أماكننا، ولكن هذا ليس صحيحا دائما فى رأيها.
الرؤساء يتغيرون. والمؤسسات نفسها قد تتغير أويعاد هيكلتها. وعلى كل فرد أن يعتبر نفسه عاملا حرا ضمانه الوحيد هو كفاءته فى هذا العالم المتغير. وعندها سيكون مجاراته للآخرين على ما يعتبرونه صحيحا هو خداع لنفسه أولا لأنه لن يسأل ولن يناقش ولن يتعلم، فقط سينفذ الأوامر ويعتمد على علاقته الحسنة برؤسائه.
نهال عمران، المتخصصة فى إدارة الأعمال، والتى عملت لفترات فى منظمات المجتمع المدنى المحلية أو الدولية تقول «للأسف، العلاقة الشخصية مع الرؤساء لا الموضوعية هى التى تحكم معظم علاقات العمل التى رأيتها، قيمة الخضوع هى الأعلى وبالتالى التملق وحفظ المقامات هما وسائل الترقى، وأن تكون حازما ومباشرا يهدد بخروجك خارج السياق وفقدانك للتجانس مع محيطك».
تؤكد نورجارد أن الميل للتلاؤم هو أمر فطرى لدى الإنسان، إلا أن الإنسان فى سعيه لذلك قد يخلط بين «جوهر وجوده» وبين «وظيفته الحالية». هو فى هذه الحالة يفتقد دور «مديره الذاتى» الذى يضع الحدود بين الاثنين. فى قصة الإمبراطور تظاهر كل الناس بأنهم يرون الثوب السحرى لأنهم خافوا من أن يكونوا غير جديرين بمناصبهم، وكأنه هوكل وجودهم. العمل يشكل جزءا كبيرا من هوية الإنسان، ولكن ليس عملا بعينه أو وظيفة بعينها.
نمط الحياة المعتمد على الاستهلاك المفرط والديون والأقساط يهدد بافتقاد ذلك التمييز. الرعب من فقدان الوظيفة الحالية يؤدى بالتأكيد إلى «إيثار السلامة». «الديون تذهب بالشجاعة» هكذا تقول نورجارد. ولنفس السبب تعتبر نهال عمران أن نمط حياتها المتحرر من الديون والأقساط المؤجلة له الفضل فى تحررها لبعض الوقت من الوظائف التى لم ترق لها حتى عثرت على غيرها.
فى بعض الأحيان، لا يكون «إيثار السلامة» سكوتا عن خطأ ما، ولكن إسكاتا لرأينا وتفضيلاتنا فى مجالات تعتمد بالأساس عليها، مثل المجالات الفنية أو تلك التى تعتمد على التقدير بناء على الخبرة. مجاراة السائد فى وسط ما قد يضمن أمانا وظيفيا مؤقتا، ولكنه يحول بيننا وبين الترقى الحقيقى فى المجال أو اختبار مقترحاتنا واتجاهاتنا وربما يحرمنا من فرص عظيمة ويجعلنا نخاف من الإبداع والتجديد.
تحذر نورجارد: «المغالاة فى صفة العملية والهوس بحساب تفاصيل حياتنا المهنية قد يجعلنا نفصل حياتنا لتناسب توقعات أناس آخرين».
2 هذا ليس مكانى!
«فرخ البط الدميم»، فى قصة أندرسون التى تحمل نفس الاسم، لم يكن يشعر بالتوافق والانتماء. أحس نفسه مختلفا عن البط، وهم أيضا أحسوا بذلك. وكانت رغباته وأحلامه أيضا مختلفة. ورغم تأنيب الدجاجة له على هذه الأحلام: «أنت فقط تشعر بالفراغ، عليك أن تجد شيئا يشغلك»، ورغم متاعب كثيرة واجهها، فإن فرخ البط قد استمر فى التنقل يبحث عن مكان له وعن مجموعة ينتمى إليها. وبينما كان يهيم حبا فى شكل البجع الجميل، اكتشف فى لحظة عندما نظر فى صفحة مياه البحيرة أنه أيضا بجعة جميلة.
أحيانا تكون المشكلة أننا لا ننتمى إلى هذا المكان أو هذه الوظيفة. قد يجعلنا الخوف من المغامرة نقبل بحالتنا المتواضعة أو السيئة فى مكاننا الحالى. ولكن كما هى العادة، فإن القبول بالمغامرة هو الطريق الوحيد لمكان آخر نتحقق فيه بشكل أفضل.
ميتى نورجارد نفسها مرت بهذه التجربة، فقد كانت طبيبة علاج طبيعى، ولكنها كانت تشعر بأن تحققها ونجاحها هو فى مكان آخر. فتركت الطب واتجهت لمجال الإدارة والتنمية الذاتية. وانتقلت من الدنمارك إلى الولايات المتحدة لتحقق نجاحا كبيرا وتعمل فى أشهر المؤسسات فى هذا المجال «مؤسسة فرانكلين كوفى»، قبل أن تفتتح مكتبها الاستشارى الخاص فى نيويورك.
ترى نورجارد أن «الإنصات إلى شغفنا الداخلى» هو الطريق إلى «اكتشاف الذات». بشرط أن نمارس ذلك بنضج، وأن نخوض المغامرة بحساب وأن نكون على استعداد لتحمل تبعاتها. والأهم ألا نخدع أنفسنا هروبا من مشكلات تواجهنا، وهو ما يمكننا أن نعرفه حين نواجه أنفسنا بصدق.
إيمان عبدالرحمن، مهندسة الاتصالات التى تعمل فى شركة متعددة الجنسيات، تشعر أحيانا بالملل من الوظيفة التى تتضمن الاهتمام بتفصيلة صغيرة بشكل مكرر إلى حد الملل أحيانا. وبعض أحلام التغيير تراودها فى عمل أكثر إبداعا تديره هى من أوله وتخطط له. لا تنكر أن بعض الأحلام تكون كالمسكن وقت الإحباطات: «نهرب من الواقع للحظات حتى نستطيع استكماله». ولكن تحفزها لفرصة مناسبة لتحقيق بعض أحلامها قد يجعل من تلك الأحلام واقعا يوما ما.
تحذر نورجارد من أن بعض أفكار التغيير هى أحلام الحياة المثالية، مثل الرغبة فى الاشتغال فى الفن أو احتراف الكتابة، وقد لا تكون الظروف أو القدرات ملائمة:» قد يمنحنا أسلوب الحياة المثالى الحلم والإلهام، إلا أنه لا يبنى سقفا فوق رؤوسنا».
قد تمثل الرغبة فى التغيير خروجا إلى فضاء العالم الواسع بدلا من حصر أنفسنا فى طريق بدأناه أوقرار اتخذناه فى لحظة معينة. ولكن قد يكون التغيير الأهم أحيانا هو «تغيير أنفسنا لا وظائفنا». وأمام هذه المعضلة يظل «الإنصات إلى صوت الشغف الداخلى» و«قبول نتائج المغامرة» هما الفيصل. هل نستمع إلى قول جوناثان يانج: «التمسك بالوظيفة الحالية، والبحث عن سبل لبعث حياة جديدة فيها لا يقل بطولة وإبداعا مؤثرا عن قرار ترك العمل»، أو إلى قول جيم كولنز ونتبع إجابة السؤال: «ما الشىء الذى أحبه إلى درجة تخلق عندى الدافع والانضباط اللازمين لتحقيقه؟ ما الشىء الذى أحبه إلى درجة تجعلنى أطمح إلى العظمة؟»
3 -هذا ليس مقامى!
قد يكون وراء قرار «هذا ليس مكانى» هو دافع آخر: عندما نشعر أننا لا نلقى المكانة والتقدير الذى نستحقه.
فى قصة أندرسون ترك الخنفس إسطبل الإمبراطور غيرة من الحصان الذى حصل على حدوات ذهبية مكافأة له على إنقاذه الإمبراطور فى إحدى المعارك. فقد طلب تقديرا مماثلا وعندما رفض طلبه قال: «حسنا! إنها إهانة. أنا خارج إلى العالم الواسع». وبعد سلسلة من المواقف التى استمر فيها الخنفس يرى نفسه فى مكانة أرفع من التى تتاح له. وعندما يتم تقديره يتعالى على من قدروه. وفى النهاية عندما لم يجد ملجأ إلى الإسطبل وعاد إليه مرة أخرى أقنع نفسه أن تقدير حصان الإمبراطور هو تقدير له أيضا لأنه ساعتها سيمكنه أن يعتلى ظهر حصان ذى حدوات ذهبية.
أحيانا ما يتعلق بصرنا بالمكانة: اسمنا الوظيفى ومناصبنا وتراتبنا مقارنة بالزملاء. بغير أن نتطلع بشكل صادق إلى إمكاناتنا أو نحاول الاستفادة من مواقعنا الحالية فى تطويرها. وذلك بالتأكيد يؤثر على العمل الجماعى فى فريق واحد.
يعترف المحاسب هشام عز الدين بذلك: «فى فترة سابقة سيطرت علىّ الرغبة فى ضرورة الترقى بأى شكل، كان هناك بعض من هم أصغر منى سنا فى مناصب أعلى وكان ذلك يعكر مزاجى جدا. وانتهى الأمر بأنى طالبت رؤسائى بما أظنه حقى فى الترقى، وفعلت ذلك ببعض الحدة. ساءت علاقتى بهم وتركت هذه الشركة بعد فترة وضاعت علىّ فرصة تعلم خبرات كثيرة وندمت على ذلك».
أحيانا ما تتعارض الرغبة فى المكانة مع الرغبة فى التعلم. بعض النرجسية مضر جدا، ولكن نورجارد ترى أن بعضها ضرورى بشرط أن يكون الشخص متمكنا من نقاط قوته ومدركا لنقاط ضعفه. لا تمانع فى أن يظهر البعض قدراته على نحو جيد. يستخدم البعض أحيانا تعبير «يعرف كيف يسوّق نفسه». وترى نورجارد أن هناك ثلاثة أشياء ضرورية لكل فرد عامل: التمكن من تخصصه، وشبكة علاقات عمل فى المجال، و«تسويق ذاته» فى الوسط المحيط وهذه الشبكة بشكل جيد. لا مانع من أن نصور تاريخنا المهنى بشكل جذاب، ولكن لابد أن يكون ذلك مبنيا على حقائق لا أكاذيب. ولكن يمكن لبعض اللمسات الإبداعية أن تحسن عرض الجوانب المضيئة وربما تحسن أيضا عرض التجارب الفاشلة أو المتعثرة.
ولكن تحذر نورجارد من أن بعض النرجسية قد يمنع بناء علاقات عمل جيدة مع الزملاء، وقد يسبب نقصها أيضا مشكلة. توضح نورجارد أن هناك توازنا ضروريا بين التنافس والتعاون فى كل فريق عمل. لا تدع التنافس يفسد التعاون الضرورى، ولا تدع التعاون يجعلك تتنازل عن حقك فى تأكيد ذاتك وإنجازك الشخصى.
المهندس طارق عبدالله يرى أن نظام الشركة التى يعمل بها يتجاوز هذا الأمر، فبرغم توسع الشركة وتنافس الأفراد على الترقى إلا أن نظام العمل بها يجعل الفرد من جانب مثابا على إنجاز الفريق ككل، ومن جانب آخر يثاب على عمله الفردى.
النرجسية قد ترتدى ثوبا آخر فى رأى نورجارد وهو ثوب «الاستعلاء الأخلاقى».
عندما يرى البعض المنافسة على أشدها ينزوى ويقول:«أنا المحترم الوحيد فى هذا المكان». ترى نورجارد أن «الأخلاقيين أحاديو البعد» يقابلهم «واقعيين أحاديو البعد» لا يرون أى مشكلة فى أى طريقة للوصول إلى أهدافهم وأن تضمنت التملق أو التسلق. نورجارد تدعونا ألا نكون من هؤلاء أو هؤلاء. وتدعونا لأن نستدعى مرة أخرى «مديرنا الذاتى» لكى يضبط التوازن بين رغبتنا المشروعة فى تحقيق الذات عبر التنافس وبين ضرورة التعاون مع الآخرين والتعلم منهم.
4 -الآن وهنا
فى قصة أندرسون مالت أشعة الشمس على شجرة الصنوبر الصغيرة المنتصبة فى الغابة وقالت لها: «اسعدى بشبابك النضر وبالحياة المتدفقة داخلك». ولكن شجرة الصنوبر كانت مشغولة عن ذلك بالتطلع إلى الأشجار الأكبر التى تقطع وتذهب لتكون صوارى للسفن أو لتكون شجرات عيد الميلاد. وعندما كبرت قليلا وقطعت من جذورها وذهبت إلى منزل دافىء وتم تزيينها بالألعاب والحلوى ظلت قلقة: «ماذا سيحدث لى بعد ذلك؟». ما حدث أنها انزوت بعد انتهاء الاحتفال فى صندرة علوية ورغم أنها حظيت بصحبة عدد من الفئران الذين اهتموا بحكاياتها عن أيام الغابة، إلا أن صحبتهم لم تسعدها وظلت تحن للأيام الماضية حتى قطعت أجزاء وألقيت فى المدفأة وانتهى كل شىء.
«السخط يجعلنا نتمنى ما ليس فى أيدينا» تحذرنا نورجارد «بالرغم من أننا نعيش عصرا أغنى بالفرص عن ذى قبل، فإننا أقل رضا. عقولنا زائغة خشية أن يفوتها شىء».
من يتعجل المراحل لا يعيش أى مرحلة بحق، يظل بصره متطلعا إلى مرحلة لاحقة أو حنينة يربطه بمرحلة سابقة. فى العمل نتعلم من المرحلة الحالية ما سيؤهلنا إلى ما بعدها. حتى مراحل الفشل والتدهور نتعلم منها، «التدهور معلم قاس» كما تقول نورجارد. ولكن فى الوقت نفسه علينا أيضا ألا ندع السعى لتحقيق إنجاز فى العمل «الآن وهنا» يستحوذ على كل اهتمامنا. تدعونا نورجارد إلى أن يكون لدينا دائما «منتجعنا الصغير»، الذى لا يلزم أن نسافر إليه. فهذا المنتجع ليس إلا حرصنا على مساحة من التأمل والاسترخاء واستعادة تدفق الحياة داخلنا وسط زحام الالتزامات.
“الآن وهنا» يمكن أن يكون تحقيقا مؤقتا أو خطوات قليلة نحو تغيير بعيد. المهندس طارق عبدالله لن يترك عمله ليتفرغ لما يحلم به: إنجاز تطبيقات ويب مختلفة تحقق نجاحا كبيرا على غرار الفيس بوك، ولكنه يعمل على مشروعه هذا بجانب عمله.
وكذلك المهندسة إيمان عبدالرحمن، فالمشروع الإبداعى الخاص الذى تحلم إليه وينتمى إلى «النيوميديا» ( الوسائط الجديدة) يبدو بعيدا الآن ولفترة قادمة. تسعى إليه «الآن وهنا» من خلال تطوعها فى مشروعات مماثلة، فهى تكتب وتحرر فى موقع «أصوات عالمية» Global Voices.
لما توقفت شجرة الصنوبر عن التعلم والعمل والاستمتاع بما لديها «الآن وهنا» وقالت: «غدا سأستمتع بحياتى، بكل ما لدىّ من بهاء». لم يأت ذلك الغد أبدا، ولم تعرف أبدا متى كانت أكثر بهاء بما يكفى ليجعلها تسعد.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.