عندما تدق الساعة الخامسة مساء، ويهم المحاسب هشام عز الدين بمغادرة البنك، يخلع سترته ويضعها على كتفه ملتقطا طرفها بإحدى يديه وبالأخرى يخفف من إحكام ربطة عنقه وهو يتنفس الصعداء. « الشغل فى مصر بقى حاجة تخنق!» تلك هى الجملة الأولى لهشام وهو يلقى بسترته على مقعده المفضل فى المقهى القريب، حتى قبل أن يلقى التحية على أصدقائه من موظفى البنوك والشركات المجاورة الذين يلتقيهم بشكل يومى بعد مواعيد العمل ويتبادلون أحاديث يدور معظمها حول هذه الفكرة وتفاصيلها. صراعات ما قبل إعلان الترقيات، التنافس والغيرة والتقييم المتبادل، العلاقات مع الرؤساء والمرؤوسين، التفكير فى تغيير مجال العمل أو مكانه، التذمر من الراتب المجحف بالمقارنة بالمجهود أو بآخرين فى نفس المجال أو بالأقساط مستحقة الدفع كل أول شهر. هذه الحالة ليست سمة «الشغل فى مصر» فحسب، وهو ما استدعى الإقبال العالمى من قبل كل من الشركات والأفراد على مجال «التنمية الذاتية» أو «التنمية البشرية» لمعالجة هذه المشكلات ولتحقيق توازن مرضٍ بين أهداف المؤسسات وأهداف الأفراد العاملين بها. «العمل قد يمنحنا الحياة ولكنه قد يقتلنا أيضا» هكذا تقول ميتى نورجارد، الكاتبة الدنماركية وخبيرة التنمية البشرية فى كتابها «البط الدميم يذهب إلى العمل» الذى ترجمه د. شكرى مجاهد ونشرته دار العبيكان. الاسم الغريب للكتاب نسبة لعنوان إحدى قصص الأديب هانز كريستيان أندرسون: «فرخ البط الدميم». ففى كتابها تستلهم نورجارد خلاصة الحكمة التى تتضمنها قصص مواطنها الأديب الدنماركى، لتطبقها من وجهة نظرها على مشكلات العمل المعاصرة. وجدت نورجارد فى القصص الخيالية التى أحبها الملايين من الكبار والصغار مثل الإمبراطور المخدوع بالزى السحرى أو الخنفس المتكبر أو شجرة الصنوبر، معانى وأفكارا تصلح للحياة والعمل معا. لذلك تهدى هذا الكتاب إلى من يبحثون عن الحياة والحيوية فى العمل، من يريدون أن يعيشوا أثناء العمل ولا يعتبرونه وقتا يبيعونه مضطرين من أجل أموال سيستمتعون بها باقى الوقت وهم يرددون أن «الشغل لا يطاق». ونحاول بدورنا استلهام نفس الفكرة وتطبيقها على «الشغيلة» المصريين، أيضا متبعين نهج قصص أندرسون. 1 إنى أرى الإمبراطور عاريا ! يحدث أحيانا أن يقدم المدير إلى مرؤوسيه رؤيته لمشروع أو حله المقترح لمشكلة معينة. يعتقد بعضهم أن هذه الرؤية بها خطأ ما أو أن حله به ثغرة، ولكن لأن معظمهم يشيد بحكمة المدير بشكل أوتوماتيكى أو على الأقل يهز رأسه تخوفا من أن يكون اعتراضه هو الخاطىء فإن المتأكدين من خطأ كلام المدير أو من لديهم رأى آخر متمسكون به سيجدون أنفسهم أمام خيارين: مجاراة المدير والزملاء أو الاعتراض والمغامرة بالخروج عن السياق. هذا ما رأته ميتى نورجارد فى قصة «ملابس الإمبراطور الجديدة». فى القصة يقنع نصابان الإمبراطور المهتم بزينته ومظهره أنهما سيصنعان له ثوبا بديعا من نسيج سحرى لا يراه الذين لا يستحقون أن يكونوا فى مناصبهم. وعندما يبدأ النصابان فى النسج، يرسل الإمبراطور مستشاريه ووزرائه، وعندما لا يرون شيئا ينسج، يكون عليهم إما التصريح بالحقيقة والمغامرة بأن يكون ذلك اعترافا أنهم ليسوا جديرين بمناصبهم، أو التظاهر برؤية النسيج السحرى والعودة للإمبراطور وطمأنته أن الثوب سيكون رائعا. يصل الأمر فى النهاية إلى أن البلدة كلها تتظاهر بأنها ترى الثوب غير الموجود، ومنهم الإمبراطور نفسه. بل ويستسلم الإمبراطور للنصابين ويتركهما يلبسانه الثوب الخفى ليسير فى موكب حاشد عاريا تماما ولكنه يسمع إشادة الناس بمظهره. ويستمر الأمر حتى يكشف بعض الأطفال الأمر ببراءة وهم يرددون «الإمبراطور عار! الإمبراطور لا يرتدى شيئا!”. الأطفال ليس لديهم حسابات وليست لديهم مناصب يخافون ألا يكونوا جديرين بها. فى مثل هذا الموقف يتعرض الناس لاختبار: إيثار السلامة أم التزام الأمانة؟ هل يعلنون ما يرونه حقا ويتحملون تبعته لو كان خطأ أم يحافظون على مكانتهم مؤقتا؟ تحذر نورجارد من أن إيثار السلامة وراءه الاعتقاد أن رضا المدير أو رؤساء الشركات هو سبب وجودنا فى أماكننا، ولكن هذا ليس صحيحا دائما فى رأيها. الرؤساء يتغيرون. والمؤسسات نفسها قد تتغير أويعاد هيكلتها. وعلى كل فرد أن يعتبر نفسه عاملا حرا ضمانه الوحيد هو كفاءته فى هذا العالم المتغير. وعندها سيكون مجاراته للآخرين على ما يعتبرونه صحيحا هو خداع لنفسه أولا لأنه لن يسأل ولن يناقش ولن يتعلم، فقط سينفذ الأوامر ويعتمد على علاقته الحسنة برؤسائه. نهال عمران، المتخصصة فى إدارة الأعمال، والتى عملت لفترات فى منظمات المجتمع المدنى المحلية أو الدولية تقول «للأسف، العلاقة الشخصية مع الرؤساء لا الموضوعية هى التى تحكم معظم علاقات العمل التى رأيتها، قيمة الخضوع هى الأعلى وبالتالى التملق وحفظ المقامات هما وسائل الترقى، وأن تكون حازما ومباشرا يهدد بخروجك خارج السياق وفقدانك للتجانس مع محيطك». تؤكد نورجارد أن الميل للتلاؤم هو أمر فطرى لدى الإنسان، إلا أن الإنسان فى سعيه لذلك قد يخلط بين «جوهر وجوده» وبين «وظيفته الحالية». هو فى هذه الحالة يفتقد دور «مديره الذاتى» الذى يضع الحدود بين الاثنين. فى قصة الإمبراطور تظاهر كل الناس بأنهم يرون الثوب السحرى لأنهم خافوا من أن يكونوا غير جديرين بمناصبهم، وكأنه هوكل وجودهم. العمل يشكل جزءا كبيرا من هوية الإنسان، ولكن ليس عملا بعينه أو وظيفة بعينها. نمط الحياة المعتمد على الاستهلاك المفرط والديون والأقساط يهدد بافتقاد ذلك التمييز. الرعب من فقدان الوظيفة الحالية يؤدى بالتأكيد إلى «إيثار السلامة». «الديون تذهب بالشجاعة» هكذا تقول نورجارد. ولنفس السبب تعتبر نهال عمران أن نمط حياتها المتحرر من الديون والأقساط المؤجلة له الفضل فى تحررها لبعض الوقت من الوظائف التى لم ترق لها حتى عثرت على غيرها. فى بعض الأحيان، لا يكون «إيثار السلامة» سكوتا عن خطأ ما، ولكن إسكاتا لرأينا وتفضيلاتنا فى مجالات تعتمد بالأساس عليها، مثل المجالات الفنية أو تلك التى تعتمد على التقدير بناء على الخبرة. مجاراة السائد فى وسط ما قد يضمن أمانا وظيفيا مؤقتا، ولكنه يحول بيننا وبين الترقى الحقيقى فى المجال أو اختبار مقترحاتنا واتجاهاتنا وربما يحرمنا من فرص عظيمة ويجعلنا نخاف من الإبداع والتجديد. تحذر نورجارد: «المغالاة فى صفة العملية والهوس بحساب تفاصيل حياتنا المهنية قد يجعلنا نفصل حياتنا لتناسب توقعات أناس آخرين». 2 هذا ليس مكانى! «فرخ البط الدميم»، فى قصة أندرسون التى تحمل نفس الاسم، لم يكن يشعر بالتوافق والانتماء. أحس نفسه مختلفا عن البط، وهم أيضا أحسوا بذلك. وكانت رغباته وأحلامه أيضا مختلفة. ورغم تأنيب الدجاجة له على هذه الأحلام: «أنت فقط تشعر بالفراغ، عليك أن تجد شيئا يشغلك»، ورغم متاعب كثيرة واجهها، فإن فرخ البط قد استمر فى التنقل يبحث عن مكان له وعن مجموعة ينتمى إليها. وبينما كان يهيم حبا فى شكل البجع الجميل، اكتشف فى لحظة عندما نظر فى صفحة مياه البحيرة أنه أيضا بجعة جميلة. أحيانا تكون المشكلة أننا لا ننتمى إلى هذا المكان أو هذه الوظيفة. قد يجعلنا الخوف من المغامرة نقبل بحالتنا المتواضعة أو السيئة فى مكاننا الحالى. ولكن كما هى العادة، فإن القبول بالمغامرة هو الطريق الوحيد لمكان آخر نتحقق فيه بشكل أفضل. ميتى نورجارد نفسها مرت بهذه التجربة، فقد كانت طبيبة علاج طبيعى، ولكنها كانت تشعر بأن تحققها ونجاحها هو فى مكان آخر. فتركت الطب واتجهت لمجال الإدارة والتنمية الذاتية. وانتقلت من الدنمارك إلى الولاياتالمتحدة لتحقق نجاحا كبيرا وتعمل فى أشهر المؤسسات فى هذا المجال «مؤسسة فرانكلين كوفى»، قبل أن تفتتح مكتبها الاستشارى الخاص فى نيويورك. ترى نورجارد أن «الإنصات إلى شغفنا الداخلى» هو الطريق إلى «اكتشاف الذات». بشرط أن نمارس ذلك بنضج، وأن نخوض المغامرة بحساب وأن نكون على استعداد لتحمل تبعاتها. والأهم ألا نخدع أنفسنا هروبا من مشكلات تواجهنا، وهو ما يمكننا أن نعرفه حين نواجه أنفسنا بصدق. إيمان عبدالرحمن، مهندسة الاتصالات التى تعمل فى شركة متعددة الجنسيات، تشعر أحيانا بالملل من الوظيفة التى تتضمن الاهتمام بتفصيلة صغيرة بشكل مكرر إلى حد الملل أحيانا. وبعض أحلام التغيير تراودها فى عمل أكثر إبداعا تديره هى من أوله وتخطط له. لا تنكر أن بعض الأحلام تكون كالمسكن وقت الإحباطات: «نهرب من الواقع للحظات حتى نستطيع استكماله». ولكن تحفزها لفرصة مناسبة لتحقيق بعض أحلامها قد يجعل من تلك الأحلام واقعا يوما ما. تحذر نورجارد من أن بعض أفكار التغيير هى أحلام الحياة المثالية، مثل الرغبة فى الاشتغال فى الفن أو احتراف الكتابة، وقد لا تكون الظروف أو القدرات ملائمة:» قد يمنحنا أسلوب الحياة المثالى الحلم والإلهام، إلا أنه لا يبنى سقفا فوق رؤوسنا». قد تمثل الرغبة فى التغيير خروجا إلى فضاء العالم الواسع بدلا من حصر أنفسنا فى طريق بدأناه أوقرار اتخذناه فى لحظة معينة. ولكن قد يكون التغيير الأهم أحيانا هو «تغيير أنفسنا لا وظائفنا». وأمام هذه المعضلة يظل «الإنصات إلى صوت الشغف الداخلى» و«قبول نتائج المغامرة» هما الفيصل. هل نستمع إلى قول جوناثان يانج: «التمسك بالوظيفة الحالية، والبحث عن سبل لبعث حياة جديدة فيها لا يقل بطولة وإبداعا مؤثرا عن قرار ترك العمل»، أو إلى قول جيم كولنز ونتبع إجابة السؤال: «ما الشىء الذى أحبه إلى درجة تخلق عندى الدافع والانضباط اللازمين لتحقيقه؟ ما الشىء الذى أحبه إلى درجة تجعلنى أطمح إلى العظمة؟» 3 -هذا ليس مقامى! قد يكون وراء قرار «هذا ليس مكانى» هو دافع آخر: عندما نشعر أننا لا نلقى المكانة والتقدير الذى نستحقه. فى قصة أندرسون ترك الخنفس إسطبل الإمبراطور غيرة من الحصان الذى حصل على حدوات ذهبية مكافأة له على إنقاذه الإمبراطور فى إحدى المعارك. فقد طلب تقديرا مماثلا وعندما رفض طلبه قال: «حسنا! إنها إهانة. أنا خارج إلى العالم الواسع». وبعد سلسلة من المواقف التى استمر فيها الخنفس يرى نفسه فى مكانة أرفع من التى تتاح له. وعندما يتم تقديره يتعالى على من قدروه. وفى النهاية عندما لم يجد ملجأ إلى الإسطبل وعاد إليه مرة أخرى أقنع نفسه أن تقدير حصان الإمبراطور هو تقدير له أيضا لأنه ساعتها سيمكنه أن يعتلى ظهر حصان ذى حدوات ذهبية. أحيانا ما يتعلق بصرنا بالمكانة: اسمنا الوظيفى ومناصبنا وتراتبنا مقارنة بالزملاء. بغير أن نتطلع بشكل صادق إلى إمكاناتنا أو نحاول الاستفادة من مواقعنا الحالية فى تطويرها. وذلك بالتأكيد يؤثر على العمل الجماعى فى فريق واحد. يعترف المحاسب هشام عز الدين بذلك: «فى فترة سابقة سيطرت علىّ الرغبة فى ضرورة الترقى بأى شكل، كان هناك بعض من هم أصغر منى سنا فى مناصب أعلى وكان ذلك يعكر مزاجى جدا. وانتهى الأمر بأنى طالبت رؤسائى بما أظنه حقى فى الترقى، وفعلت ذلك ببعض الحدة. ساءت علاقتى بهم وتركت هذه الشركة بعد فترة وضاعت علىّ فرصة تعلم خبرات كثيرة وندمت على ذلك». أحيانا ما تتعارض الرغبة فى المكانة مع الرغبة فى التعلم. بعض النرجسية مضر جدا، ولكن نورجارد ترى أن بعضها ضرورى بشرط أن يكون الشخص متمكنا من نقاط قوته ومدركا لنقاط ضعفه. لا تمانع فى أن يظهر البعض قدراته على نحو جيد. يستخدم البعض أحيانا تعبير «يعرف كيف يسوّق نفسه». وترى نورجارد أن هناك ثلاثة أشياء ضرورية لكل فرد عامل: التمكن من تخصصه، وشبكة علاقات عمل فى المجال، و«تسويق ذاته» فى الوسط المحيط وهذه الشبكة بشكل جيد. لا مانع من أن نصور تاريخنا المهنى بشكل جذاب، ولكن لابد أن يكون ذلك مبنيا على حقائق لا أكاذيب. ولكن يمكن لبعض اللمسات الإبداعية أن تحسن عرض الجوانب المضيئة وربما تحسن أيضا عرض التجارب الفاشلة أو المتعثرة. ولكن تحذر نورجارد من أن بعض النرجسية قد يمنع بناء علاقات عمل جيدة مع الزملاء، وقد يسبب نقصها أيضا مشكلة. توضح نورجارد أن هناك توازنا ضروريا بين التنافس والتعاون فى كل فريق عمل. لا تدع التنافس يفسد التعاون الضرورى، ولا تدع التعاون يجعلك تتنازل عن حقك فى تأكيد ذاتك وإنجازك الشخصى. المهندس طارق عبدالله يرى أن نظام الشركة التى يعمل بها يتجاوز هذا الأمر، فبرغم توسع الشركة وتنافس الأفراد على الترقى إلا أن نظام العمل بها يجعل الفرد من جانب مثابا على إنجاز الفريق ككل، ومن جانب آخر يثاب على عمله الفردى. النرجسية قد ترتدى ثوبا آخر فى رأى نورجارد وهو ثوب «الاستعلاء الأخلاقى». عندما يرى البعض المنافسة على أشدها ينزوى ويقول:«أنا المحترم الوحيد فى هذا المكان». ترى نورجارد أن «الأخلاقيين أحاديو البعد» يقابلهم «واقعيين أحاديو البعد» لا يرون أى مشكلة فى أى طريقة للوصول إلى أهدافهم وأن تضمنت التملق أو التسلق. نورجارد تدعونا ألا نكون من هؤلاء أو هؤلاء. وتدعونا لأن نستدعى مرة أخرى «مديرنا الذاتى» لكى يضبط التوازن بين رغبتنا المشروعة فى تحقيق الذات عبر التنافس وبين ضرورة التعاون مع الآخرين والتعلم منهم. 4 -الآن وهنا فى قصة أندرسون مالت أشعة الشمس على شجرة الصنوبر الصغيرة المنتصبة فى الغابة وقالت لها: «اسعدى بشبابك النضر وبالحياة المتدفقة داخلك». ولكن شجرة الصنوبر كانت مشغولة عن ذلك بالتطلع إلى الأشجار الأكبر التى تقطع وتذهب لتكون صوارى للسفن أو لتكون شجرات عيد الميلاد. وعندما كبرت قليلا وقطعت من جذورها وذهبت إلى منزل دافىء وتم تزيينها بالألعاب والحلوى ظلت قلقة: «ماذا سيحدث لى بعد ذلك؟». ما حدث أنها انزوت بعد انتهاء الاحتفال فى صندرة علوية ورغم أنها حظيت بصحبة عدد من الفئران الذين اهتموا بحكاياتها عن أيام الغابة، إلا أن صحبتهم لم تسعدها وظلت تحن للأيام الماضية حتى قطعت أجزاء وألقيت فى المدفأة وانتهى كل شىء. «السخط يجعلنا نتمنى ما ليس فى أيدينا» تحذرنا نورجارد «بالرغم من أننا نعيش عصرا أغنى بالفرص عن ذى قبل، فإننا أقل رضا. عقولنا زائغة خشية أن يفوتها شىء». من يتعجل المراحل لا يعيش أى مرحلة بحق، يظل بصره متطلعا إلى مرحلة لاحقة أو حنينة يربطه بمرحلة سابقة. فى العمل نتعلم من المرحلة الحالية ما سيؤهلنا إلى ما بعدها. حتى مراحل الفشل والتدهور نتعلم منها، «التدهور معلم قاس» كما تقول نورجارد. ولكن فى الوقت نفسه علينا أيضا ألا ندع السعى لتحقيق إنجاز فى العمل «الآن وهنا» يستحوذ على كل اهتمامنا. تدعونا نورجارد إلى أن يكون لدينا دائما «منتجعنا الصغير»، الذى لا يلزم أن نسافر إليه. فهذا المنتجع ليس إلا حرصنا على مساحة من التأمل والاسترخاء واستعادة تدفق الحياة داخلنا وسط زحام الالتزامات. “الآن وهنا» يمكن أن يكون تحقيقا مؤقتا أو خطوات قليلة نحو تغيير بعيد. المهندس طارق عبدالله لن يترك عمله ليتفرغ لما يحلم به: إنجاز تطبيقات ويب مختلفة تحقق نجاحا كبيرا على غرار الفيس بوك، ولكنه يعمل على مشروعه هذا بجانب عمله. وكذلك المهندسة إيمان عبدالرحمن، فالمشروع الإبداعى الخاص الذى تحلم إليه وينتمى إلى «النيوميديا» ( الوسائط الجديدة) يبدو بعيدا الآن ولفترة قادمة. تسعى إليه «الآن وهنا» من خلال تطوعها فى مشروعات مماثلة، فهى تكتب وتحرر فى موقع «أصوات عالمية» Global Voices. لما توقفت شجرة الصنوبر عن التعلم والعمل والاستمتاع بما لديها «الآن وهنا» وقالت: «غدا سأستمتع بحياتى، بكل ما لدىّ من بهاء». لم يأت ذلك الغد أبدا، ولم تعرف أبدا متى كانت أكثر بهاء بما يكفى ليجعلها تسعد.