يجىء رأى محكمة العدل الدولية الأسبوع الماضى فى شأن قرار كوسوفو تفردها بإعلان استقلالها بأنه «لا يخالف القانون الدولى» تعزيزا لهذا الاستقلال. هذا «الرأى» من أعلى محكمة دولية من شأنه يوفر مرجعية قانونية لأية حركات انفصالية فى عدد كبير من مناطق العالم. وتكمن أهمية هذا الرأى كون «إعلان استقلال كوسوفو هو «قانونى» إلا أن «رأى» المحكمة لم يشر إلى «دولة كوسوفو أنها قانونية بموجب القانون الدولى». بمعنى آخر «الرأى أن إعلان الاستقلال قانونى فى حين أن شرعية الدولة تترك لاعتراف دولى اوسع بها». فى هذا الصدد هناك توافق بين خبراء القانون الدولى أنه باجتناب المحكمة الدولية الإقرار بقانونية الدولة، عمدت ألا يشكل رأيها تشجيعا لتيارات انفصالية، وبالتالى متروك موضوع الاعتراف باستقلال ينتج عن حركة انفصالية لمن يرغب الاعتراف بها. أهمية هذا الرأى لمحكمة العدل الدولية تكمن مستقبلا فى أن عديدا من التيارات الانفصالية قد تعتبرها رخصة للقيام بإعلان استقلال كما فعل الألبان مع صربيا ويترك أمر قانونية «الدولة» التى انتجتها حركة الانفصال إلى حين تتمكن الدولة من تأمين أكثرية من دول العالم الاعتراف بها. هذا ما يفسر فشل القطاع التركى من قبرص الحصول على اعتراف بكيانها والنجاح النسبى لكوسوفو مثلا. إلا أن فرادة هذا «الرأى» لا أعتقد أنه ينطبق على حركات تحرير ضد الاستعمار والاحتلال حيث إن هذه الحركات تتمتع بشرعية ثابتة وأن سعيها لتمارس حقها فى تقرير مصائر شعوبها، هو صيرورة استقلال كيان الدولة التى تنبثق عن نضالاتها. بمعنى آخر إن أهداف حركات المقاومة ضد الاستعمار والاحتلال والعنصرية هى توأمة الشرعية بالقانونية وأن لايبقيا بحالة التضاد أو حتى الالتباس. يستتبع هذه المقدمة ضرورة لفت الأنظار إلى علاقة «رأى» محكمة العدل الدولية فيما يتعلق بالعديد مما هو حاصل فى مختلف أرجاء الأمة العربية، خاصة فى المرحلة الراهنة، وكيف أن علينا جميعا أن نجابه تداعياتها المحتملة والتى قد ترى «بالرأى» الذى صدر بخصوص كوسوفو سندا ومرجعية لما قد تنوى بعض التيارات القائمة والتى أفرزتها النزاعات الداخلية القيام به. ولعل الاستفتاء القادم فى السودان من شأنه تشكيل أول تحد مباشر لامتحان «رأى» المحكمة فى هذا الشأن. صحيح لست مطلعا بما فيه الكفاية على الإجراءات التى تتخذ بشكل شرعى ومقنع للحيلولة دون أن يؤول الاستفتاء إلى توجه «انفصالي» فى دارفور مثلا والتى يجب أن تنطوى على خطوات مقنعة، وبالتالى نافذة توفر الطمأنة الراسخة ومراجعة نقدية للممارسات الخارقة لحقوق الإنسان وكرامة وحقوق المواطنين وضمان سلامة مستقبلهم ما يعنى فى هذا السياق أن نحدد بشكل حاسم أن العروبة مواطنة. هذا التحدى لا فى السودان فحسب، بل فى عدد متزايد من الأقطار العربية و علينا أن نحسم أن التنوع العرقى والدينى لا يجيز أى تمييز بل اعتبار أن حقوق المواطنة توفر المساواة فى الحقوق والواجبات وأن العروبة من حيث المواطنة تحتفل بالتنوع القائم بين المواطنين وترفض اعتبار التنوع تعددية تستولد التمييز العرقى والطائفى والمذهبى مما بدوره يمهد لطعن بشرعية عروبة الانتماء. هذا يجب أن يوحى أن الاحتفال بالتنوع يعنى قانونية وشرعية تأكيد خصوصيات ثقافية ولغوية ودينية وعرقية كونها راسخة فى وجدان المواطن وأن هذا التنوع يثرى ويعزز عروبة المواطنة ويجعلها أكثر انفتاحا، وبالتالى استبعاد ما يخرجها من تعريفات منغلقة لمعناها فى حين تلغى أى تعريف ضيق لما هى وتصبح كما يجب. إن الأمة العربية تحتفل بثراء تنوع مواطنيها وحقوقهم فى المساواة والمشاركة العملية فى القرارات المصيرية كحق لا كمنة-أو تنازل. لذا فما نواجه من تحديات الآن فى اليمن والصومال والسودان وفى عدد من مناطق المغرب العربى الكبير وخاصة ما يختبره العراق فى هذه اللحظة وما ينتج من عطب حيث النظام الطائفى لا يزال قائما. أجل صار لزاما إذا كان من حاجة إلى حرص على وحدة وطنية داخل الأقطار العربية تمهيدا لتنسيق ملزم يوحد بين سياساتها ويعزز علاقات عضوية بمعناها الأشمل فيما بينها، فهذا يعنى من يرجح مواطنيته ويعتبر خصوصيات عناصر تميزه تعزيزا للمواطنة واستقواء بها، عندئذ يتم توفير مناعة قومية غير متوفرة حتى لا نقول مفقودة- وبالتالى تستنفر طاقاتنا الكامنة حتى لا نعود بحالة الاستقالة من التفاؤل، وبالتالى نعزز قناعة وصدقية الانتماء بمختلف الأقطار العربية دون أى توجس من تصنيفات «أكثريات وأقليات»، هذا التوجس الذى يهدد المواطنة ويهدد تعريف العروبة باعتبارها مرادفة للتنوع والانفتاح.