سيذكر التاريخ أنه فى مصر حدث أن التراث دُمر بيد أهلها، وبالرغم من الاستغاثات المتتالية لم يكن هناك صدى يتناسب مع حجم ما دُمر من تراث. هنا تبدأ القصة، مصر طوال عصور تاريخها يمثل الموت حدثًا تهتز له نفوس المصريين، فالفراق الصعب جعل المصريين يهتمون بأماكن دفن الأحبة الذين فقدناهم، لذا ازدانت مقابرهم ولم يبخل الأحياء على الأموات، حتى صار الحوش مكانًا رحبًا فسيحًا، ضم صالونات مذهبة، بل بناه معماريون أجانب ومصريون فصار التأنق عنوان هذه المدافن، موروث عميق ضارب فى جذور هذا الإرث منذ عصور ما قبل التاريخ إلى يومنا غرث مستمر، لذا لو أزلنا طبقة منه فنحن نزيل طبقة من التاريخ الوطنى، فهل يصلح أن نزيل الهرم وهو مدفن أو مقبرة لأحد رجال الدولة فى سقارة مقبرة قدماء المصريين من أجل طريق، وما قرافة القاهرة التى تمتد من مصر القديمة إلى العباسية إلا الامتداد الطبيعى لقرافة الفراعنة التى تمتد من هرم جدف رع ابن خوفو فى أبو رواش مرورا بأهرامات الجيزة وسقارة إلى دهشور، سيسأل سائل هذه القرافة الإسلامية التى تتحدث عنها لا قيمة أثرية لها، فى حقيقة الأمر هى أثرية بتراث سُجل عبر العصور حتى شاهدنا أدلة سياحية فى العصرين المملوكى والعثمانى ترشد زوار القرافة لمدافن العلماء والشخصيات التاريخية، يا سادة يا كرام كانت مزارا مشهورا فى العالم الإسلامى، من منا لا يكرم هؤلاء العظام ويوقرهم، بل فى القرنين 19 و20 شهدت القرافة قفزات متتالية فى عمرانها وتأنقها فشيدت بها الأحواش فى صورة معمارية تشهد بعظمة إحياء تراث العمارة المملوكية كطراز وطنى، لذا كان من الأجدى حين نريد إزالة هذه المدافن أن نفكر فى كيفية التعامل معها بصورة علمية، فعلم الحفاظ على التراث تطور كثيرا فى العقود الأخيرة، ولنا فى ذلك خبرة كبيرة، فحين قررت الدولة المصرية بناء جامع فى ميدان رمسيس أكبر ميادين العاصمة ومركز الحركة فى المدينة، تم فك جامع أولاد عنان الذى شُيد فى عصر الخديوى عباس حلمى الثانى على يد المعمارى المصرى القدير المجهول صابر صبرى، ونقل الجامع إلى ميدان السيدة عائشة وهو يعرف الآن بجامع السيدة عائشة، أى أننا حينما نريد أن نحافظ على تراثنا نستطيع. سيقول البعض إن التراكيب والمدفونين بها نُقلوا إلى حديقة الخالدين، لكنه نقل بلا خطة معلنة واضحة يشرف عليها علماء أجلاء لهم احترامهم وتقديرهم، ثم إن الأحواش والقباب هدمت، وبالتالى فقدنا جانبا من هذا التراث، وعلينا الآن أن نراجع الأمر، ونسأل من صمم مدافن الخالدين، ومن هؤلاء الخالدين، ثم ماذا لو كان لدينا تركيبة وقبة رائعين لشخصية لم تكن فى عداد المشهورين، وماذا لو كان القبر بسيطًا لعالم جليل، ألم يكن من الأجدى أن نفكر خارج الصندقة بأن ننشأ متحفًا للموت، ستقول لى متحف للموت، سأقول لك نعم، وهل جذب لمصر السياح بالملايين إلا تراث الموت عند المصريين، حتى إن الأوروبيين كانوا مندهشين من مواكب الجنائز وطقوسها وأماكن الدفن فى القرنين 19 و20، فإدوارد لين بول المستشرق الإنجليزى أفرد صفحات فى كتابه عن عادات المصريين الذى كتبه فى القرن 19 للجنائز وطقوس الموت، ماذا لو شيدنا فى القرافة متحفًا للموت وورثناه عبر العصور، سيجذب ملايين الزوار بدءا من عرض كتاب الموتى إلى المومياوات إلى شواهد القبور إلى الستائر المنسوجة للقباب الضريحية، إلى الأثاث الجنائزي، هكذا يجب أن يكون التفكير خارج الصندوق، وإلا فأننا لو لم ننشأ متحفًا كهذا، فإننا ندفن تراثًا ونميت متحفًا الذى أنشئ دون أفكار خلاقة.
إننى هنا أثنى على جهود بذلت بإخلاص من مجموعات من الشباب والمحبين للتراث، على رأسهم الدكتور مصطفى الصادق الأستاذ فى طب قصر العينى الذى أنطلق فى القرافة يوثق ويصور القباب الضريحية والأحواش الأثرية قبل هدمها، ثم أصدر كتابا مصورا رائعا ضم جزءا بسيطا مما وثقه عنوانه (كنوز مقابر مصر) هذا الكتاب كان له الفضل فى تقديم معالم من قرافة القاهرة فقدناها، وبعضها ما زال باقيا، قرأ نصوص شواهد القبور ولأنه من أسرة عريقة فقد ساعده هذا فى التعرف على عدد كبير من المدافن، كما غاص فى كتب التاريخ ليستدل على ما لا يعرفه، وقد صدر هذا الكتاب عن مكتبة ديوان. لكن أيضا بُذل مجهود كبير من كل من الأستاذ حسنى جعفر، وهو من أبرز عشاق التراث فى مصر والأستاذة أية إبراهيم وهى مرشدة سياحية، وبالتالى هما من خارج القطاع الأكاديمى ككلية الآثار فى جامعة القاهرة وكلية الآثار فى صمت مطبق إزاء ما يحدث فى القرافة، ماعدا الدكتور محمد حمزة الذى كرس جهده لإيضاح أهمية القرافة الأثرية فهى كانت موضوع أطروحته للدكتوراة.
أصدر الأستاذ جعفر حسنى، والأستاذة أية إبراهيم (موسوعة القرافة.. التوثيق قبل الاندثار) فى تسع أجزاء عمل جبار طُبع وأُنجز بجهد شخصى، اختار القائمون على الموسوعة التركيز على المنطقة من ميدان القلعة إلى مصر القديمة، وصحب كل مدفن أو حوش أو قبة خريطة تحدد موقعه وصور دقيقة توثق كل كبيرة وصغيرة، ومما تضمه الموسوعة حصر دقيق فمثلًا نرى مدفن قاسم أمين وإلى جواره رزواليوسف، لنرى غيرهم عددًا من العائلات المصرية التى شيدت لها أحواش، وألحق ببعضها استراحات مجهزة لراحة زوار الحوش، وزود بعضها بأسبلة لتوفير المياه لزوار القرافة ولكسب الثواب على غرار السبيل الملحق بحوش الأمير حسين بك الشماشيرجى. إن من المثير فى الموسوعة هو نجاح المؤلفين فى بناء علاقات القرابة بين المدفونين فى هذه الأحواش، فالحوش الواحد يضم أجيالًا متعاقبة من الأسرة الواحدة، فكانت الكتابات على شواهد القبور تكشف الزواج من سيدة من عائلة أخرى، حتى أصبح من الممكن اكتشاف التداخل العائلى، فعبدالخالق باشا ثروت الذى رأس وزراء مصر وتوفى فجأة فى عام 1928 هو ابن إسماعيل عبدالخالق ابن المرحوم عبدالخالق أفندى من أصل أناضولى، ووالدة عبدالخالق ثروت من أصل تركى هى الأخرى، حوش عائلة عبدالخالق يضم العديد من الشواهد لكننا سنقف لنقرأ الفاتحة لعبدالخالق ثروت، ونقرأ المكتوب على شاهد قبره كما يلى: هو الحى الباقى هذا قبر ساكن الجنان حضرة صاحب الدولة عبدالخالق ثروت باشا ولد سنة 1873 وتوفى سنة 1928
لكن أيضا تكشف القرافة عن عدد من القبائل العربية الممتدة من الأردن، وفلسطين، ومصر، وليبيا إلى المغرب ومنهم عائلة نوفل، ومنهم شهاب الدين بن نوفل الذى صار من كبار أعيان الغربية، يضم حوشه مجموعة من التراكيب الرخامية التى تعكس تقدما فى فنون الرخام فى مصر، وإبداعًا فى الزخارف يجعل الواقف فى المكان مذهولا من جمالها. تكشف الموسوعة وجود أحواش لعدد من نوابغ مصر منهم حوش الدكتور حسن محمود باشا الذى توفى سنة 1906، والذى عمل فى قصر العينى وألف 26 كتابًا فى «حمى الضنك»، وفى أمراض «الكوليرا» وفى الأمراض الجلدية، وكان عميدًا للقصر العينى، ومن شهرته فى العالم شارك بأبحاثه فى مؤتمرات دولية ونال عضوية العديد من الجمعيات العلمية فى العالم حتى صار عضوًا فى أكاديمية البرازيل.
إن من المثير أن قرافة القاهرة بشواهد قبورها، وروعة الخطوط العربية بها تكشف أن مصر فى القرن 19 عادت لها الريادة فى فن الخط العربى الذى غاب عنها منذ دخول العثمانيين مصر، فنجد شواهد قبور بخطوط مشاهير مثل سيد إبراهيم، ويوسف كمال الذى أحى الخط الكوفى، ومحمد أفندى، وإذا احتفظنا بها فهى تعطى مصر السبق فى تطوير الخط العربى وتؤكد على أن هذا البلد بلد مبدع حقا. إن هذه الموسوعة جهد يجب أن يقدر وأن يكرم المؤلفين فقد أنجزا ما عجزت وتخاذلت عنه مؤسسات وعلماء تخلوا عن مسئولياتهم.