لا فضل (ولا ذنب) للعلماء المصريين المعاصرين فى تطوير أى نظرية علمية بشأن أصل الإنسان فى مصر. وإذا قال باحث مصرى إن أصل الإنسان المصرى من هضبة الحبشة فلا يوجد أى مبرر للهجوم عليه، ذلك لأن البحوث المتداولة فى دوائر النشر العلمى الغربية اتفقت على ذلك فى آخر عقدين من الزمن. وحين يقول الأوروبيون ذلك فهم لا يقصدون أن أصل الإنسان المصرى الأول فحسب من شرق إفريقيا بل أصل الإنسان الأوروبى والأمريكى والآسيوى.. كله أتى من شرق إفريقيا. وأما الاختلافات اللونية والشكلية فى البنية الهيكلية للجسم وملامح الوجه (طول القامة، حجم الجمجمة، بنية الجسم، لون البشرة، شكل ولون العيون، حجم الأنف، لون الشعر ونسيجة وملمسه) فنتاج عشرات آلاف النسين من بصمات البيئة المحلية التى وصلت إليها واستقرت بها موجات البشر الأولى. وحين يقول الباحثون المعاصرون إن أصل الإنسان من شرق إفريقيا لا يعد هذا كلمة النهاية فى مستقبل العلم، فقد تظهر كشوف أثرية أخرى فى المستقبل تغير من الافتراضات المطروحة حاليا وتصيغ نظرية مغايرة. لكن الدارسين وطلاب العلم المصريين -فى عصر التبعية للمدرسة الغربية- لا حل أمامهم سوى السير مع النظرية الحالية. البحوث العلمية التى أجرتها المدارس الغربية (التى نسير خلفها سير التابع المقلد مغمض العينين) تقول إن المصريين جاءوا من مناطق قريبة من وادى النيل فى الصحراء الشرقيةوالغربية، وهؤلاء جاءوا بدورهم من شرق إفريقيا، وعلى الأرجح من هضبة الحبشة. ولو كانت البنية الثقافية المصرية فى حالة سليمة وثقة فى النفس لقال الباحثون والعلماء فى مصر للجمهور العاقل إن هضبة الحبشة وشرق إفريقيا هى جزء أصيل من إفريقيا ويمكن تفسير نشأة الإنسان فيها وفق نظرية التطور، التى تسيطر حاليًا على نظريات نشأة الإنسان ووصوله إلى مصر. حسنًا، بهذه المقدمة دعنا نبدأ القصة المكتوبة فى عشرات البحوث الغربية، والتى تقول إن أسلاف الإنسان الأول عاشوا قبل ما يقرب من 3 ملايين سنة. وليس لدينا فى مصر أدوات حجرية استخدمها الإنسان من هذا التاريخ، بل عثر العلماء على بعض أدوات حجرية فى الصحارى المصرية بمحاذاة وادى النيل أرجعوها إلى ما يقرب من 500 ألف سنة، وتنسب إلى مرحلة فى تطور الجنس البشرى تسمى «الإنسان منتصب القامة». وقد عثر العلماء على أدلة حجرية فى الصحراء الشرقية للإنسان الذى سكن مصر من بنى «البشر المحدثين»، قدرها العلماء بنحو 120 ألف سنة. فى ذلك التاريخ، ظهرت موجة هؤلاء البشر المحدثين فى شرق إفريقيا ونزحوا لتعمير العالم فى اتجاهات عدة، وكان نصيب مصر تلك الشعبة التى نزحت إلينا من ملتقى النيل الأزرق والنيل الأبيض. وقبل أن يتسرع قارئ شاب ويكتب تعليقا (يهرف فيه بما لا يعرف) ويقول لنا "أنتم أتباع نظرية الأفروسنتريك".. نقول له ما يلي: هناك فارق كبير -كما بين السماء والأرض- بين: أصول البشر والتى لا فضل فيها لأى إقليم جغرافى سوى التطور الجيولوجى والبيئى والمناخى، سواء كان ذلك شبه جزيرة العرب وغرب آسيا، كما اعتقد الكُتاب القدامى، أو شرق إفريقيا كما تقول النظرية الحديثة. وحين يتحدث الباحثون عن مئات آلاف السنين فلا توجد إفريقانية ولا مصرية ولا عربية ولا آسيوية. لم يكن وقتها فضل لأحد على أحد: جماعات بشرية بدائية لا تختلف عن بعضها بعضا فى سبل الحياة الأولى من القنص والصيد والجمع.. أى أننا «كنا جميعًا من العصر الحجرى.. متساوون كأسنان المشط». أصول الحضارة، التى تصيب البعض بالهلع من كلمة أفروسنتريك، ويقصد بها هنا الحضارة التى بزغت للنور فى مصر قبل بضع آلاف من السنين. وبكل وضوح نقول: «حضارة مصر القديمة صناعة مصرية لا ينازعها أحد وقد تلقت من الروافد والإسهامات ما حفظته الذاكرة الجمعية لبنى البشر الذين هاجروا ونزحوا وانتقلوا عبر الصحراوات المحيطة بالنيل، تلك الصحراوات الواقعة شمال شرق إفريقيا». ودعنى أضرب هنا مثلًا من الجغرافيا السياسية والجيوبوليتيك، وهو علم بعيد تمامًا عن موضوعنا! العام قبل الماضى قال بوتين فى حوار تليفزيونى أمريكى شاهده ملايين البشر حول العالم «ظهرت روسيا فى التاريخ قبل ألف عام بمجموعة من الشعب الروسى لم يكن لديهم المقدرة على تأسيس نظام حكم سياسى فاستعانوا بزعماء من إسكندافيا (السويد والنرويج والدنمارك) هم الذين أسسوا النظام الأول للدولة الروسية الوليدة». هذا تصريح بالغ الإثارة، فقبل قرن من الزمن، تعرض عدد من علماء الجغرافيا والتاريخ والآثار فى روسيا للنفى والطرد من وظائفهم فى الجامعة، لأنهم قالوا ما يقوله بوتين الآن. وتفسير ذلك أن روسيا قبل قرن من الزمن كانت بالغة الحساسية فى مرحلة لا تريد أن تنسب لأى أحد فضل عليها واستبعدوا تمامًا نظرية الأصل الإسكندنافى فى تأسيس الدولة الروسية. أما بوتين الآن فهو يقول للعالم، إن تاريخ الدولة الروسية جاء بفضل نظام الحكم الذى جاء به الإسكندنافيون إلى الروس فى شرق أوروبا فهو يقول ذلك من موقف قوة بالغة الثقة فى النفس، ولا يخشى أوروبا، بل على العكس يقول ذلك، وهو يشعر بأن روسيا أقوى من أوروبا، ولا تخشى منها أى فضل أو إلهام أو مساهمة. والعبرة من هذه القصة أن الشعوب القوية الناضجة لا تخشى ماضيها ولا تخشى من أى أطروحات علمية، والعكس صحيح: حالة العصبية والاستنفار والوطنية المفبركة الزاعقة الغوغائية لن تخدم الوطن ولن تسهم فى تقدمه. دعنا نعود إلى قصة أصول الإنسان المصرى. استقر الإنسان فى صحراء مصر قبل 120 ألف سنة مضت، وكانت ظروف البيئة فى مصر وفيرة الأمطار ما مكّن الإنسان من العيش والصيد فى هذه الصحارى التى كانت تشبه السافانا الموسمية. ومنذ حوالى 90 ألف سنة، انقطعت الأمطار التى ميزت ذلك العصر الحجرى، ولفترة قصيرة أصبحت الصحراء الكبرى قاحلة، وخلال نوبة الجفاف هذه، لجأت شعوب هذه الأرض إلى هوامش وادى النيل لكن إلى الواحات أكثر لا سيما فى الخارجة والداخلة. سرعان ما عاد المناخ أكثر رطوبة، فغمرت الينابيع والبحيرات والمراعى الخضراء جزءًا كبيرًا من الصحراء الكبرى، وبالتالى انتعشت الحياة مرة أخرى فى الصحراء. وهناك فى الصحراء الغربية المصرية أدلة عديدة من النقوش الصخرية التى رسمها إنسان تلك الفترة فى عصر ما قبل التاريخ تبين أن المنطقة كانت عامرة بالزراف والأبقار البرية والغزلان والنعام. فى هذه الفترة من عمر الإنسان، سيظهر إسهام مصرى حصرى، فمن صحراء مصر الشرقية خرجت أفواج من البشر المحدثين فى اتجاه آسيا وأوروبا لتعمير بقية الأرض، أى أن بلادنا مصر (لا سيما شبه جزيرة سيناء) تعد وفق نظرية الخروج من إفريقيا Out-Of-Africa الجسر الأنثربولوجى لتعمير العالم بسكانه. استمرت الصحراء موطنًا للإنسان بمياه وفيرة وحيوانات كثيرة وحياة تقوم على الصيد والقنص، لكن فى حدود 20 ألف سنة ضرب الجفاف الصحارى المصرية مجددًا، فاضطر الإنسان إلى ترك الصحراء والنزول إلى الواحات، لكن الأهم أنه اقترب أكثر من نهر النيل، لا سيما فى منطقة النوبة ووادى حلفا، حيث عاش البشر حياتهم بشكل موسمى: يعتمدون على النهر فى بعض فصول السنة وعلى الصحراء المجاورة فى بقية الفصول. تشير كثير من الدراسات إلى أنه قبل نحو7 آلاف سنة مضت، بلغ التقدم فى الأدوات الحجرية درجة مرموقة، وظهر أقدم مواقع عصر ما قبل الأسرات فى صحراء الفيوم وهوامش النوبة وهامش غرب الدلتا وصحراء شرق القاهرة (حلوان والمعادى)، حيث اهتدى الإنسان إلى الزراعة، وقرر الانصراف عن حياة صيد الحيوانات وجمع النباتات.. والاعتماد بدلًا من ذلك على زراعة المحاصيل (شرارة تكوين الحضارة). وفى بوطو فى شمال الدلتا (تل الفراعين حاليا) تطورت ثقافة كانت تعيش على صيد البر وصيد النهر (التماسيح وفرس النهر والأسماك)، بل عقدت بوطو علاقات تجارية خارجية مع فلسطين. كما ظهرت فى نفس الفترة (قبل 7 آلاف سنة تقريبًا) ثقافة البدارى فى أسيوط، وكان سكان البدارى أول الجماعات البشرية فى مصر التى تعرف استخدام النحاس، وكانوا يجلبونه من صحراء مصر الشرقية ومن سيناء. وقبل 6 آلاف سنة مضت تطورت ثقافة أكثر تقدمًا نسبيًا من البدارى ستعرف باسم ثقافة «نقادة» نسبة إلى البلدة الشهيرة فى قنا بجنوب مصر خلال عصر ما قبل الأسرات، وتطورت أيضًا نفس الثقافة والحضارة فى جرزة فى محافظة الجيزة حاليًا، قبالة منخفض الفيوم. وقبل نحو 5200 سنة تعاظمت أهمية المراكز الإقليمية فى الوادى والدلتا كما فى نخن ونقادة والمعادى وبوطو، وبدأ امتزاج التقاليد المحلية كخطوة تمهيدية لقرب تكوين الحضارة المصرية فى نظام واحد متكامل، الأمر الذى سيعبر عن نفسه بوضوح فى توحيد القطرين (الوادى والدلتا) قبل 5000 سنة مضت. حين تأسس النظام السياسى المتكامل انتقلت مصر من عصر ما قبل الأسرات إلى عصر الأسرات وقدمت أعرق نموذج بشرى وحضارى وسياسى لدولة موحدة عرفها التاريخ. فى هذه الحضارة، تطورت العلوم والفنون والأساطير والآداب ونظم الإدارة والسياسة، وانطلقت من هنا أولى إشعاعات الحضارة فى تاريخ الإنسانية دون أن يدانيها أو يناظرها إقليم جغرافى آخر فى القارة الإفريقية.. تلك القارة الإفريقية التى جاء منها البشر لتعمير الأراضى المصرية، وفق آخر ما تقوله النظريات العلمية.