فى صعيد مصر بالقرب من طهطا تقع قرية متواضعة تسمى «نزلة خاطر». لم يخطر ببال ساكنيها أن الصحراء المحيطة بهم تحتوى على بقايا أقدم إنسان فى مصر والبحر الأبيض المتوسط. وتبدأ قصة البحث التى أدت إلى اكتشاف إنسان «خاطر» ببدء العمل فى السد العالى، مما كان سيؤدى إلى إغراق آثار النوبة تحت مياه بحيرة السد. وبعد انتهاء العمل فى النوبة قامت بعض البعثات الأثرية التى شاركت فى الكشف عن آثار عصور ما قبل التاريخ باستكمال الاكتشافات على ضفاف النيل والصحارى المصرية. وأسهمت الاكتشافات وما تبعتها من دراسات فى إعادة صياغة دور مصر فى عصور ما قبل التاريخ قبل أن تتحدد معالم الدولة المصرية القديمة. ومن البعثات التى نشطت فى هذا الميدان، البعثة المشتركة لآثار ما قبل التاريخ التى قادها عبر عشرات السنين البروفيسور فريد ويندورف Fred Wendorf، وكان من اكتشافاته العثور على بقايا هيكل عظمى فى منطقة وادى الكوبانية بالقرب من أسوان، وكان حينذاك أقدم أثر بشرى يكتشف فى مصر، إذ يرجع إلى 18٫000 سنة. كما اكتشف فريق البروفيسور ويندورف أول مقبرة جماعية بالقرب من جبل الصحابة بالنوبة، وهى تضم بقايا 59 هيكلا عظميا، ويعود عمرها إلى نحو 13٫000 سنة. ومع تزايد الاهتمام بآثار ما قبل التاريخ بدأت بعثة بلجيكية يقودها بيير فيرمرش P.Veermersch دراساتها فى المنطقة من قنا إلى نجح حمادى، وخلال عمليات التنقيب الأثرى عثروا على محاجر استخدمت فى ما قبل التاريخ لاستخراج «زلط» من حجر الصوان لصنع الآلات اللازمة لاقتناص الحيوانات البرية والجزارة وتجهيز النباتات للطهى وتقطيع الجلود وهكذا. وكانت هذه المحاجر فى حد ذاتها اكتشافا مهما، لأنها لم تكن هناك سابقة فى مصر لمثل هذه المحاجر سوى من الدولة القديمة، ولكن هذه المحاجر كانت تعود إلى فترة من 30٫000 إلى 35٫000 سنة! وهى بذلك أقدم المحاجر فى العالم. وتتكون المحاجر من أنفاق لتتبع قاع مجرى قديم للنيل يتميز حيث يوجد زلط من أحجام كبيرة (يتكون الزلط من حجر الصوان وهو مكون من معدن الكوارتز المجهرى التبلور). ومن خلال الأنفاق يتم التنقيب عن الزلط المناسب من حيث الحجم والمادة والحالة، ليصلح للحصول على شظايا تصنع منها السكاكين والسواطير ورؤوس الرماح والمخاريز والمكاشط، كما عثر فى المحاجر على فؤوس وبلط صوانية كانت تستخدم للحفر. كانت المفاجأة عثور البعثة على هيكل عظمى فى حالة سيئة وهيكل عظمى آخر أحسن حالاً فى دفنه بالقرب من المحاجر، وكانت بجواره بلطة حجرية من النوع الذى وجد فى المحاجر، مما يرجح أن حياته كانت مرتبطة بالمحاجر. كان الهيكل لشخص فى مقتبل العمر، ولكن عموده الفقرى كان يعانى من تشوهات ترجع غالبا إلى عمله منذ صباه فى المحاجر، حيث يضطر إلى الانحناء لمدد طويلة عن العمل فى الإنفاق الضيقة. كان هذا اكتشافا فى غاية الأهمية أولاً لندرة آثار هذا العصر فى مصر المعروف بالعصر الحجرى الأعلى، وثانيا لأن هذه الفترة شهدت ظهور الإنسان الحديث، كما نعرفه الآن Homo sapiens sapiens (يكتب الاسم العلمى بالحروف المائلة). وأثبتت الدراسات التشريحية أن الجمجمة تشابه ما يماثلها فى أوروبا والهياكل من شمال إفريقيا فى العصور الأحدث. يحق لنا أن نتساءل إذا كان أول إنسان ظهر على الأرض هو إنسان نزلة خاطر. وسيحق للبعض أن يتساءلوا: «إذا كان (آدم) هو أول إنسان، فهل ينتمى إنسان نزله خاطر إلى العشيرة الأولى للبشر؟ وليس من السهل الإجابة عن هذه الأسئلة، لأن هناك تنويعات عديدة من الجنس الذى ننتمى إليه وأيضا الفرع (تحت- النوع) الذى نصنف تحته. كما أننا لا نعرف الصفات التشريحية لجدنا (آدم)». ولكن إنسان «خاطر» ينتمى بالتأكيد إلى أول «البنى آدميين»، إذ يرجع عمره إلى 37٫000 سنة. المعروف أن ظهور النوع البشرى الذى ننتمى إليه Homo sapiens قد ظهر فى جنوب وشرق إفريقيا منذ نحو 200٫000 سنة، وأن أفراد هذا النوع انتشروا إلى آسيا وأوروبا، فى الأغلب عن طريق مصر وشمال إفريقيا. وعن طريق التكاثر والمتغيرات الوراثية عبر 5000 جيل مع الانفصال والتباعد الجغرافى، والتغيير المناخى الذى يؤثر على البيئة، وبالتالى على بقاء أو فناء بعض الجماعات، بدأ ظهور أفرع وأصناف مختلفة من النوع البشرى فى أماكن متباعدة فى العالم. كان منها إنسان النياندرتال فى أوروبا (انقرض منذ نحو 40٫000 عام). فهل كان إنسان خاطر من فرع جديد (فى الواقع ما يسمى علميا تحت نوع sub-Species)، أو من «صنف» Variety ينتمى إلى بشائر الإنسان الحديث، وهل ظهر أول مرة فى مصر ثم انتقلت سلالته إلى أوروبا وآسيا وباقى القارات، ليكونوا بذلك أسلاف الشعوب التى تحيا على الكرة الأرضية؟ أما الافتراض الثانى فهو أن الإنسان الحديث ظهر فى جنوب أو شرق إفريقيا منذ 200٫000 سنه، ثم تطور إلى فروع وأصناف على فترات متتالية، وتحديدا من 130٫000 إلى 100٫000 سنه، ثم فى الفترة من 70٫000 إلى 50٫00 سنه. تلا ذلك انتشارهم فى موجات متتابعة إلى مصر ومنها إلى باقى أنحاء العالم. ومن رأى أن التطورات الجينية لم تكن مقصورة على مكان بعينه، وأن الصفات الجينية المستجدة بغض النظر عن موطنها كانت تنتشر إلى جميع من يمكنهم التزاوج إذا كانت تسهم فى تحسين فرصهم على البقاء. هذه الافتراضات تنتظر ما ستسفر عنه الاكتشافات والدراسات الجديدة. «إنسان خاطر» هو أول مصرى احتفظت أرض مصر برفاته من البشر الذين ننتمى جميعا إليهم، وهو من أوائل البشر الذين تنحدر منهم كل شعوب العالم. لقد عاد «خاطر» إلى مصر بفضل جهود وزارة الآثار، بعد أن استكملت البعثة البلجيكية دراسته. وسيحظى «خاطر» بمكان متميز فى المتحف القومى للحضارة بالفسطاط التى سيتم الانتهاء منه وتجهيزه للافتتاح قريبا، حيث ستتاح للمصريين أن يروا بأعينهم رفات الإنسان الذى خطى على أرض مصر منذ 37٫000 عام.