على كل مصرى أن يحتفى بكل من يهبون حياتهم فى مجال الأبحاث والدراسات التى تعود بالنفع على المصريين فى مجالات الاقتصاد والبيئة والتنمية والعلوم. ونذكر كمثال ساطع الباحثة السويدية «Vivi Tackholm 1978 – 1898»، التى كانت رائدة فى علم النبات والبيئة، وأسست إحدى مفاخر جامعة القاهرة ألا وهى المعشبة، التى تتلمذ على يديها رواد علم البيئة والنبات من المصريين، ومنهم القامة المرموقة الدكتور عبد الفتاح القصاص والدكتور لطفى بولس (رحمهما الله) وغيرهما. وهناك أيضا علماء الآثار من مختلف الدول، الذين يساهمون فى استجلاء معالم الحضارة المصرية، وسيذكر التاريخ منهم بلا شك فريد ويندورف، واحد من أهم هؤلاء العلماء فى مجال آثار ما قبل التاريخ، الذى توفى فى 15 يوليو 2015 عن 90 عاما، قضى منها قرابة أربعين عاما يطوف أرجاء الصحارى المصرية ووادى النيل وسيناء بحثا عن شواهد آثار ما قبل التاريخ، وما طبيعة علاقات مصر الحضارية مع الشام والسودان والمغرب، وما أقدم الجماعات التى عاشت فى مصر. نستطيع الآن بفضل أبحاث البروفيسور ويندورف وفريقه البحثى أن نقدم إجابات شافية عن هذه التساؤلات، كما أن اهتمام ويندورف بهذا المجال فى مصر أدى إلى تنافس العلماء لدراسة آثار ما قبل التاريخ، مما أسهم فى إثراء معارفنا بمجريات الأمور فى هذه الفترة التى سبقت ظهور الكتابة، التى تعود شواهدها فى الصحارى المصرية إلى ما يزيد على مليون عام. جاء ويندورف إلى مصر ليسهم فى إنقاذ آثار النوبة فى الستينيات، كان قد قام باكتشافات هامة فى تكساس مسقط رأسه، حيث ولد فى 1924 وفى جنوب غرب أمريكا، بعد أن حصل على الدكتوراه من «هارفارد» فى 1953. جاء إلى مصر، والتقى الدكتور رشدى سعيد، الذى كان زميلا له فى جامعة «هارفارد». قدم العالم الجيولوجى رشدى سعيد كل التسهيلات اللازمة من خلال موقعه كرئيس لهيئة المساحة الجيولوجية المصرية لكى يتسنى لويندورف العمل فى الأماكن النائية من الصحارى، وأسهم معه فى الأبحاث الجيولوجية عن تاريخ النيل القديم. وكان من أهم المساهمين فى أبحاث ويندورف لاستجلاء معالم البيئة القديمة، التى عاش فى ربوعها الإنسان فى عصور ما قبل التاريخ الجيولوجى القدير البهى عيسوى، الذى قدم نظريات هامة عن تاريخ النيل والأنهار القديمة، التى كانت تخترق الصحارى المصرية فى الأزمان المطيرة السحيقة. التقيت ويندورف بعد أن انتهيت من دراسة الماجستير فى الجيولوجيا من جامعة عين شمس، عندما اختارنى الدكتور رشدى سعيد للمساهمة فى دراسة التاريخ الجيولوجى للنيل، وفى السنة التالية (1968) كنت فى دالاس، تكساس بعد أن اختارنى فريد ويندورف لأكون واحدا من طلبة الدكتوراه فى جامعة سوزرن ميثودست Southern Methodist University التى عهدت إليه فى 1964 بإنشاء قسم خاص لعلم الإنثروبولوجيا (علم الإنسان والحضارة)، الذى يتكون فى أمريكا من علوم الآثار والإثنوجرافية واللغويات وبيولوجيا الإنسان. وكان من دواعى امتنانى أنه أتاح لى هذه الفرصة، وأنه منحنى ثقته وتقديره وصداقته. رأيته منذ أقل من عام، عندما دعتنى الجامعة للاحتفاء بمرور خمسين عاما على تأسيس القسم، الذى أصبح بفضل ويندورف من أهم معاقل دراسة ما قبل التاريخ والآثار فى العالم. كانت أول أبحاث ويندورف فى النوبة، وكان حصادها مجلدين ضخمين Prehistory of Nubia يوثقان تاريخ النوبة فى عصور ما قبل التاريخ من 1961 إلى 1967. كان لهذا العمل دوى هائل فى دوائر علم الآثار فى العالم، لأنه كان نتيجة أول دراسة منهجية على طول 500 كيلومتر من ضفاف النيل، أظهرت آثار الإنسان القديم من عُدد وآلات صوانية وحجرية، ورصدت ارتفاع فيضانات النيل القديمة، وأظهرت العلاقة الوثيقة بين مصر والسودان وشمال إفريقيا من دراسات مستفيضة عن 100 موقع أثرى. استخدم ويندورف فى مصر لأول مرة المناهج الحديثة الإنثروبولوجية لدراسة الآثار، ومنها طريقة التأريخ بالكربون المشع، ودراسة البيئة المصرية القديمة، والتعرف على النباتات والحيوانات التى كانت مصدر غذاء الإنسان القديم مع الدراسات المتخصصة فى طرز وأنواع وتقنيات الآلات الحجرية والفخار. وقد أظهرت دراسة الآلات الحجرية شواهد أثرية من عصور ما قبل التاريخ السحيقة (الأشولى الأسفل) كما أظهرت أقدم بقايا للإنسان الحديث من العصر الحجرى الوسيط (الموستيرى)، كما كشفت الدراسة عن مواقع أثرية من 25.000 إلى 7000 سنه. وكان من أهم الاكتشافات أول مقبرة جماعية من 59 شخصا منذ نحو 13.000 عام تدل على معركة سقط خلالها 26 شخصا قتلى كما يتضح من الإصابات وشظايا السهام التى اخترقت عظام البعض. وأظهرت الدراسات أيضا أن الإنسان المصرى القديم قام بخطوات رائدة فى مواجهة نقص الغذاء نتيجة للمتغيرات المناخية سادت منذ نهاية العصر الجليدى الأخير (25.000 سنه)، ومنها الاهتمام بحصد النباتات البرية واستخدام أحجار الطحن والتخزين. كما أظهرت دراسات ويندورف أن المحاولات الأولى لاستئناس البقر الإفريقى كانت فى جنوب الصحراء الغربية، وأظهرت دراساتى أنها انتشرت من مصر إلى باقى شمال إفريقيا قبل أن تنتشر جنوبا. كما اكتشفت ويندورف فى النبطة (النبتة) غرب أبو سمبل أول مرصد فلكى من أحجار مرصوصة بطريقة هندسية، وهو الآن فى متحف النوبة. لم يكتف ويندورف بهذه النتائج المذهلة، وقرر بعد انتهاء حملة النوبة البدء فى عمل مسح أثرى ودراسات لما قبل التاريخ على ضفاف نهر النيل فى الصعيد والصحراء الغربية وسيناء. وأدى ذلك إلى معرفة مفصلة بالتتابع الزمنى للجماعات التى عاشت على ضفاف النيل وعلاقتها بالتغيير المناخى والصلات الحضارية بين ساكنى وادى النيل وشمال إفريقيا والشرق الأدنى. وحتى تقاعده فى 1999 أصدر ويندورف ما يزيد على 30 كتابا ومئة مقالة، بناء على إصرار ومثابرة، وقدرة تنظيمه هائلة، وانضباط فى مسيرة العمل والإتقان فى أعمال المسح الأثرى والحفائر والدراسات المحلية والنشر. ماذا ستقدم مصر تكريما لهذا العالم المتميز الذى كان له فضل إعادة كتابة تاريخ مصر فى فترة تمتد لأكثر من 200.000 عام قبل ظهور الدولة المصرية القديمة ووضع مصر بجدارة على خريطة التراث العالمى لفترة ما قبل التاريخ.