تميزت الجماعات البشرية الأولى التى كانت تتعايش على القنص وجمع النباتات بصغر حجم الجماعة المحلية (15-50 شخصا) ولم يزد عدد الجماعة الإقليمية أو القوم الذين ينتمون إليها عن 1000 شخص، كما تميزت هذه الجماعات بالترحال بحثًا عن القوت. ولم تتعد أعداد البشر فى العالم كله حينذاك عدة ملايين. وفى غياب العناية الصحية وسهولة التعرض للأمراض والحوادث كانت نسبة الوفاة من المواليد نحو 50% فى المتوسط. والمعلوم أن الجماعة تتعرض للانقراض لو قل عدد الأطفال عن عدد البالغين. وفى نفس الوقت لا يسمح شُح الموارد البرية بزيادة المواليد، ولكن ستنقرض أى جماعة لو تعرضت إلى تناقص عدد إناثها نتيجة مجاعات أو كوارث بيئية. ويبدو أن ذلك وراء القدرة على الإنجاب بما يزيد على العدد الذى تحتاج إليه الجماعة أو الأسرة ليحل محلها نفس العدد من الأفراد. ولتوضيح ذلك إذا أنجب 10 رجال و10 نساء 40 طفلا، وكان معدل وفيات الأطفال 50% فى المتوسط، فسيكون هناك احتمال أن يبقى 20 طفلا إلى سن الإنجاب. ولكن قد يحدث بالصدفة، حسب نظرية الاحتمالات أن يتوفى أكثر من 20 مولودًا، وبالصدفة أيضًا قد يكون عدد الإناث من المواليد الباقيات على الحياة أقل من 10 بنات، قد لا يبقى منهم سوى 7 بنات عند البلوغ. وإذا حدث هذا وكان متوسط الإنجاب 4 مواليد من كل أنثى بالغة فسيكون عدد المواليد من 7 نساء 28 على المتوسط، سيتوفى منهم 14 ولدًا وبنتًا، وبذلك قد لا يتبقى منهن لسن البلوغ أكثر من 6 بنات فقط. لو تصادف أن استمر هذا التناقص فستنقرض هذه السلالة فى غضون عدة أجيال. ومن ذلك نستنتج أن بقاء الجنس البشرى كان مرهونا بقدرة المرأة على إنجاب أكثر من 4 أطفال على المتوسط تحت ظروف الحياة الصعبة فى عصور ما قبل التاريخ. ومن الحسابات النظرية استنتجنا أن 100 سيدة من عصور ما قبل التاريخ يمكن أن ينجبن 471 مولودًا. ويعنى هذا زيادة مطردة فى أعداد الجماعة بالنسبة للموارد المحدودة المتاحة. وإذا حدث ذلك فهناك حلان، أحدهما الهجرة إذا ما كانت هناك أراضٍ مجاورة خالية من السكان ويسهل الوصول إليها. أما الحل الآخر فهو التحكم فى أعداد الجماعة والمواليد حسب ما يتوفر من غذاء. وفى الواقع تدل آثار الإنسان القديم فى العصر الحجرى وأسلافه على أنه كانت هناك هجرات وحركات بشرية من مكان إلى مكان، أدت إلى انتشار أسلاف الإنسان من جنوب إفريقيا وشرق إفريقيا إلى آسيا وأوروبا. وبصورة مشابهة انتشر الإنسان الذى ننتمى إليه Homo Sapiens من إفريقيا عبر مصر إلى آسيا وفلسطين وأوروبا، وانتقل البعض إلى أوروبا عن طريق المغرب والساحل الشمالى الإفريقى. ومن آسيا عبرت مجموعات بشرية -خلال فترات الدفء المناخى- إلى شمال أمريكا ثم إلى أمريكاالجنوبية مخترقة الأماكن التى تغطيها الثلوج فى العصور الجليدية. ومن الجدير بالذكر أن التزاوج بين الجماعات المتجاورة والترحال أسهما فى توحيد الجينات الأساسية للإنسان، فهو رغم تنوعه المظهرى ينتمى إلى نفس الصنف من النوع Home Sapiens sapiens، ولذلك فإن التحدى أمام بقاء البشر كان مرهونًا لا بالتغير فى العوامل البيئية، ولكن فى درجة الذكاء والقدرة على التعاون المجتمعى، وهما ما يميزاننا عن غيرنا من الكائنات، والذكاء بدوره كان مرتبطًا بالذكاء المجتمعى كما كان مرتبطًا بالذكاء فى القدرة على التعامل مع العوامل الخارجية، التى اعتمدت بدورها على التعاون المجتمعى. ولكن الهجرة لا تمثل حلا نهائيا لمن يبقون فى أماكنهم إذا ما زادت الأعداد عن الموارد عندما تتشبع الأقاليم المجاورة بالسكان. وفى الواقع تدل آثار الإنسان القديم فى العصر الحجرى على أن معدل الزيادة السكانية كان شبه معدوم. ويدل ذلك على أن هذه الجماعات قد لجأت إلى وسائل متعددة لتنظيم الأسرة، منها تنظيم العلاقة الجنسية لتفادى الحمل، والإجهاض، ووأد الأطفال. وقد أظهرت الدراسات الإثنوجرافية شيوع كل هذه الطرق فى المجتمعات التى تعيش على الصيد والقنص وجمع النباتات البرية. ولذلك لم تزد أعداد البشر عن عدة ملايين من الأشخاص فى العالم كله خلال العصور الحجرية. ولكن ظهور الزراعة منذ نحو 10 آلاف عام وفّر زيادة هائلة فى الموارد المحلية. واعتمد النمط الشائع من الإنتاج الزراعى على الحبوب كالقمح والشعير. وهى محاصيل تنتج كميات هائلة من مناطق محدودة يسهل تخزينها. كما يتطلب تحويل الحبوب إلى غذاء إلى تذريتها وتجفيفها وطحنها ثم خبزها. ولذلك بدأ ظهور جماعات مستقرة مكانيا. كما واكب ظهور الزراعة زيادة الطلب على العمالة من الذكور. وأسهم كل ذلك فى تقليل التحكم فى عدد الأطفال، مما أدى إلى زيادة غير مسبوقة فى عدد السكان والكثافة السكانية. وأسهم ذلك فى ظهور قرى دائمة تضم ما قد يزيد على 100 شخص، وتجمعات إقليمية قد تصل إلى 10.000 شخص. وجراء ذلك ازداد عدد السكان فى العالم من 4-6 ملايين عند نهاية العصر الحجرى القديم إلى نحو 50 مليونًا فى غضون بضعة آلاف من السنين. ترتب على كل هذه المتغيرات الديموغرافية (السكانية) والإنتاجية تغييرٌ شاملٌ فى كل نواحى التنظيمات المجتمعية والعقائد والسياسة والعلاقة بين الرجال والنساء وأنماط التفكير. ويمثل ظهور المجتمعات الزراعية نقلة هائلة أدت بدورها إلى ظهور المدن والتفاوت الطبقى والمؤسسات الدينية ونظام الدولة والاهتمام بالعلوم.