نواجه دائما إشكاليات تقف فى طريق إدراكنا للعالم ووجودنا فيه وتبرير سلوكياتنا، وفى غياب المعارف العلمية المتقدمة لا يسعنا إلا اللجوء إلى مسكنات عقلية حتى نواصل العيش دون إرهاق أو قلق أو اضطراب، ولكن الحياة لا تستقيم ولا تستمر دون اللجوء إلى حلول عملية ناجحة للحصول على المأكل وتوفير المأوى والدفاع عن النفس. ولا ننسى أن بدايات العلم ضاربة فى القدم وتعود إلى نشأة الإنسان ومراحل تطوره الأولى عبر ملايين السنين التى سبقت ظهور النوع البشرى الذى ننتمى إليه بين 200 و150 ألف سنة. ويطلق العلماء على نوعنا البيولوجى اسم الإنسان العاقل هومو سابينز Homo sapiens لتميزه بقدرات عقلية متقدمة تعرّف العلماء عليها من آثاره والآلات الحجرية التى صنعها وطرق استخدامها، ومدافنه، والتصاوير التى خلقها على جدران الكهوف والصخور، وهناك أيضا هياكل وعظام وجماجم الرعيل الأول من البشر اكتشفها العلماء فى بقاع متعددة من العالم فى إفريقيا وجنوب غرب آسيا وأوروبا. وتدل بقايا أول الكائنات التى تنتسب إلى أسلاف البشر والتى ظهرت من 4 إلى 2 مليون سنة وتعرف باسم أسترالوبيثيكس Australopithicenes على أن حجم المخ لم يتعدَّ 600 سنتيمتر مكعب، وهو مقارب لحجم مخ الشمبانزى. وجاء بعد هذه الكائنات ما يسمى الإنسان المنتصب القامة هومو أريكتس Homo erectus منذ 2 مليون سنة. ولكن نعرف الآن أن أسترالوبيثيكس كان أيضا منتصب القامة. ولكن ما يميز هومو أريكتس أن حجم مخه يتراوح ما بين 850 و1100 سنتيمتر مكعب، وصاحبت هذه الزيادة القدرة على صنع الآلات من الحجر، مما يدل على قدر من الذكاء يتمثل فى التخطيط للقيام بمهمة، والقيام بسلسلة من الخطوات لتحقيقها بداية من اختيار الحجر المناسب ثم اختير مطرقة من الحجر أو سندان ثم اكتساب خبرة الحصول على حواف حادة لاستخدامها لتقطيع لحوم الحيوانات وتكسير العظام للحصول على ما بداخلها. كما أن من دلائل الذكاء القدرة على استخدام النار التى وجدت آثارها لأول مرة منذ زمن بعيد. كما يبدو أن هومو أريكتس كان يعيش فى جماعات تمارس صيد الحيوانات البرية وجمْع النباتات، كما كان يصنع أجدادنا من البشر الذين ظهروا فى ما بعد. كما يتضح من الآلات الحجرية أنها تمثل تقدمًا ملحوظًا فى تصميمها وإتقان صنعها. ويدل التماثل فى هذه الآلات ونسب التصميمات على عقل هندسى جمالى. ولما كان حظ هذه الجماعات البشرية الأولى يعتمد على كفاءة صنع الآلات ونجاح خطط الصيد فلا بد أن ذلك كان عاملا فى بقاء الجماعات الأكثر ذكاء وانقراض من لم تتوفر لهم ملكات التخطيط والتعقل وحل المشكلات ونقل الأفكار إلى حيز الواقع والقدرة على التعلم. ولكن بقاء الجماعات البشرية الأولى كان أيضا رهينا بالذكاء الاجتماعى الذى كان ضروريا لتماسك الجماعات والتعاون بينها. ومن عديد من بقايا الهياكل العظمية هومو سابينز وما يصاحبها من الآلات الحجرية والآثار نستدل على اختلاف رئيسى بين الإنسان من هذا النوع وأسلافه، ويتمثل هذا الاختلاف فى تقدم قدراته على التخيل، والإدراك، والتفكير التسلسلى. وتتميز جمجمة الإنسان العاقل بكبر حجمها بالمقارنة بما سبقها وبكثرة تلافيفها. ومن أهم خصائص مخ الإنسان العاقل أنه يضم جزءًا اسمه new cortex اللحاء الجديد وهو مختص بالعمليات العقلية، وتحويل المعطيات الحسية إلى رموز، واتخاذ القرار، والتخطيط، وحل المشكلات، والذاكرة، والتحكم فى العواطف. وكان اللحاء الجديد الأساس فى ظهور اللغة. صاحب تضخم ال نيوكورتكس أيضا تضخم نسبى فى مناطق أخرى لها علاقة بالتفكير. وبالإضافة إلى ذلك هناك شواهد على ظهور خصائص فيزيوكيميائية ساهمت فى تطور قدرات التفكير والتعقل والقدرة على الاختيار والتمييز وقد استنتج العلماء أن ظهور المنظومة العقلية الكاملة للإنسان لم يتم إلا منذ نحو 30 ألف عام فقط، ومعنى ذلك أنه كانت هناك تطورات بيولوجية مهمة فى المخ مع تراكم معرفى بعد ما يزيد على 120 ألف عام من ظهور الكيان البدنى للإنسان، كما نعرفه باكتمال كل مقومات العقل البشرى. وتظهر قدرة البشر المتميزة بجلاء فى القدرات اللغوية، وهى بالتحديد، إمكانية تخليق رموز symbols كعلامات عقلية تشير إلى موجودات خارجية، فمثلا كلمة سمكة لا علاقه لها بشكل أو طعم أو الخصائص الأخرى للسمكة فى الواقع، كما أن هذه الرموز يمكن أن تستدعى من الذاكرة دون أن تكون أمامك سمكة فى الواقع. كما أن كلمة سمكة لا تعنى سمكة بعينها ولكنها تنطبق على كل ما يمكن تعريفه كذلك على خصائص مشتركة. وتعتمد اللغة أيضا على تخليق وحدات لا معنى لها فى حد ذاتها كأصوات الحروف phonemes ، التى يمكن بعد ذلك أن تتراصّ فى وحدات ذات معنى كالكلمات والجمل. والميزة هنا إمكانية فريدة لتوليد عدد لا نهائى من الكلمات أو الجمل من عدد محدود من الأصوات. كما أن اللغة تكشف عن مقدرة فى غاية الأهمية وهى القدرة على تخليق تراكيب لغوية كما فى النحو هذه القدرات التى تتمثل فى اللغة تنطبق على كل ما يمكن إدراكه من معطيات حسية كالأصوات والألوان كما فى الموسيقى والفنون البصرية.