اعتبرت حضارة مصرالقديمة دائما أهم وأعرق حضارات العالم القديم، بما رسخته من دعائم نظام سياسي - هو الأقدم والأهم في التاريخ القديم - استهله ملوك مايسمي بالأسرة خلال عصر الأسرة صفر قبيل الأسرات الفرعونية - وهو ما اكتمل تقريبا علي يد نعرمر آخر ملوك هذا العصر - موحدين مصر تحت قيادة ملكية ونظام مركزي كان هو الركيزة التي قامت عليها وتطورت عنها انجازات حضارية شتي في مجالات الفن والعمارة والفكر الديني والسياسي والاجتماعي، علاوة علي اكتشاف نظام للكتابة التصويرية وضعت لبناته الأولي خلال عصر "الأسرة صفران" - وفقا لاكتشافات بعثة العهد الالماني للآثار في ام القعاب بسوهاج - لتصبح مصر مهدا لأحد أقدم وأهم النظم الكتابية في العالم. إلا ان دارسي ما قبل التاريخ واكتشافاتهم الأثرية وضعت مصر في مكانة متأخرة فيما يتعلق بنشأة وارتقاء الحضارة خلال عصور ما قبل التاريخ - التي تمثل اكثر من 99% من تاريخ الحضارة الإنسانية علي كوكب الأرض. جعل هؤلاء مناطق في سوريا وفلسطين وبعض نواحي إيران وبلاد النهرين والأناضول مهدا لمعرفة الزراعة والرعي اللذين يعتبران الأساس الاقتصادي الذي قامت علي معطياته الحضارة الانسانية المستقرة منذ ثمانية آلاف عام ق م، في حين حددت مثل هذه البدايات في بدايات الألف الخامس ق م في بعض قري وادي النيل (مرمدة بني سلامة والفيوم وتاسا وحلوان). جاءت الاكتشافات في العقد الأخير من القرن العشرين لتثبت معرفة الزراعة ورعي الثيران - وهو ما ترك أثرا بالغا علي الفكرين الديني والسياسي في مصر خلال العصر التاريخي - في مصر في بعض المواقع غربي أبي سنبل (بير كسيبة ونبته وغيرهما) قبيل بداية الهولوسين، لتضع مصر جنبا إلي جنب مع مواقع الشرق الأدني الأخري في مجال نشأة الاقتصاد الانتاجي بديلا عن الاقتصاد الجمعي الذي كان سائدا قبل ذلك. من ناحية أخري، كانت الاكتشافات الأثرية - في مواقع شانيدار / العراق وقفزة والسخول والعمود الطابون / فلسطين والديدرية / سوريا والعصفورية / لبنان - ودراسات علماء ما قبل التاريخ وعلم الانسان الطبيعي قد وضعت بلاد الشرق الأدني القديم هذه جنبا إلي جنب مع الكهوف الأوروبية - لافيراسية ولاتشابل وسانت ولاكومباريل وريجوردو وكرابينا وجواتاري ولا كوينا ولاموستييه وكومب جنرال وروك دي مارسال - التي تنتمي الي العصر الحجري القديم الأوسط - فيما بين 80000 - 30000 سنة ق م كمهد لمعرفة الانسان للدفن البشري وطقوسه ولإدراك وجود عالم آخر يتطلب مجموعة من الأفكار والإجراءات الجنائزية، علاوة علي العثور علي دفنات حيوانية ربما تشير إلي أفكار دينية باكرة في ريجوردو ودراشنلوك / أوروبا والعصفورية / لبنان، في حين غابت الاكتشافات التي تشير إلي ذلك الأمر فيما يتعلق بمصر ما قبل بداية العصر الحجري الحديث ( جبل الصحابة ). وهو ما جعل المشهد المصري متأخرا فيما يتعلق بنشأة وتطور الفكر الجنائزي في العالم. إلا ان الكشف في أواخر القرن العشرين عن دفنة انسان حديث في تل الترمسا شمال شرق دندرة / قنا مصر/ حوالي 55000 ق م أعاد لمصر وضعها المستحق. لقد تم العثور علي أقدم دفن عمدي - في مصر - لهيكل كامل تقريبل لطفل (8 - 10 سنوات) من جنس الانسان الحديث، وقد سجي بعناية جالسا في ركن خندق عمقه 100 سم، الظهر مائل للخلف والوجه يتجه لأعلي وإلي الأفق الشرقي (هل يكشف ذلك عن بدايات فكر جنائزي يتعلق بالشمس ؟ ). جاءت التشابهات التشريحية بين انسان الترمسا وانسان قفزة الفلسطيني والقول بنشأة الانسان الحديث في شرقي أفريقيا لتجعل من وادي النيل معبرا خرج منه الإنسان الحديث من شرق أفريقيا إلي شرق المتوسط، ومنه إلي أوروبا عبر بوابتها الشرقية، لتجعل من مصر أحد أهم مناطق انتشار الانسان الحديث في العالم. لم يكن المشهد مختلفا فيما يتعلق بنشأة الفن خلال عصور ما قبل التاريخ (السجل المادي لمعتقدات وأفكارالإنسان خلال ما يقترب من 99 % من حياته علي كوكب الأرض، ومرآة لمواقف الانسان الأكثر بدائية من عالمه ومعبوداته ومنشأه ومصيره وأفراد جماعته وما يحيط به من كائنات) - وهو أهم دلائل ارتقاء السلوك الرمزي للإنسان - فقد اسندت الاكتشافات لموقعين في فرنسا وسلوفينيا ينتميان للعصر الحجري القديم الأوسط - فيما بين 40000 - 30000 سنة ق م - تشكيل أقدم فلوت من العظم (The Divje Babe I - سلوفينيا) وأقدم قناع ذي هيئة آدمية (le Roche Cotard- فرنسا)، كما نسبت للكهوف الأوروبية التي تنتمي إلي العصر الحجري القديم الأعلي حوالي 40000 - 8000 ق م في فرنسا وإسبانيا وايطاليا ومناطق أخري مفتوحة في البرتغال العديد من أعمال الرسم والتصوير والحفر علي الصخر (ظهرت أقدم أعمال الفن الصخري حوالي 50000 سنة ق م وهو ما يتوافق الي حد بعيد مع مرحلة الهجرات وتوزيع الهوموسابيانيس في العالم بين 70-30 الف سنة ق م، كما ان فن الصيادين الاوائل - الذي مثل ثلاثة أرباع فنون انسان ماقبل التاريخ - يكشف عن تماثلات أسلوبية ونظم تمثيلية وارتباطات رمزية وتشكيلية نتجت عن منطق مشترك في أجزاء مختلفة من العالم، وهو ما يكشف عن أنماط تفكير وتعبير متوازية بين الجماعات المختلفة عبر العالم رغم توظيفها لمصادر متباينة وتكييفها لبيئات مختلفة)، علاوة علي العديد من التماثيل الآدمية (تماثيل آلهة الأمومة) والحيوانية، وهو ما تضمن الإشارة إلي اكتشاف فن النقش البارز وقواعد المنظور وربط الصورة بمكانها والتعبير عن خصائص الحيوان وانفعالاته وحركاته المميزة، والدمج بين أكثر من عنصر زخرفي في عمل واحد، والتعبير عن قيمتي المسافة والمكان، والتعبير عن الحركة والمشاهد القصصية واستخدام الألوان والظلال والتجسيد والجمع بين الاشكال الادمية والحيوانية pictograms والعلامات والرموز ideograms ذات الدافع السيكولوجيpsychograms في بلاد الشرق الأدني أيضا أشارت الدراسات أيضا إلي بعض أعمال الفن الصخري - علي الحجر الرملي - تنتمي إلي أواخر البلايستوسين تشمل أشكالا حيوانية- خاصة مثل أبقار ووعول في كلوة علي الحدود الاردنية السعودية / الباليوليثي النهائي أو العصر الحجري الوسيط، وما شابهها من رسومات حيوانية للصيادين الأوائل في موقع ابار داثامي في منطقة بيشة جنوبي غرب السعودية (14000 - 10000 ق م)، وفي حاركركوم في جنوبي صحراء النجف. كذلك أشارت الدراسات إلي أعمال الفن الصخري الأفريقية الباكرة / نهايات البلايستوسين في تاسيلي في الجزائر وعنيدي في تشاد والاكاكوس / ليبيا: المرحلة الواقعية حوالي 12 ألف سنة ق م بينما تسبقها علي مستوي القارة الافريقية مناظر حيوانية علي ألواح حجرية عثر عليها في كهف ابوللو 11 في ناميبيا / عصر حجري قديم أوسط حوالي 26 - 24 ألف ق م وفي المأوي الصخري في Kondoa في تنزانيا حوالي 40 الف ق م. في مقابل ذلك كانت أصداء كلمات مايكل هوفمان في كتابه الأشهر " مصر ما قبل الفراعنة " التي تشير إلي غياب الفن الباليوليثي عن وادي النيل ودلتاه تواصل اقصائها لمصر عن مشهد البدايات. مرة أخري جاءت اكتشافات الفن الصخري في صحراء مصر الشرقيةوالغربية لتغير من معالم الصورة وتعيد لمصر مكانتها في سجل نشأة وتطور الفنون العالمية. في البداية كان الكشف عن مجموعة من علامات هندسية علي الصخر غرب أسوان عند الشلال وقبالة المدينة الحديثة الأول تقارن بمثيلات لها عثر عليها في ابكا عند الشلال الثاني والحوش عند جبل السلسلة وان كانت اكثر تنوعا. أرخت أقدم الأشكال تأريخا نسبيا بالعصر الباليوليثي النهائي حوالي 7000 - 5000 ق م علي الأقل. ثم جاء العقد الأول من القرن العشرين بالكشف الأهم فيما يتعلق بنشأة الفن المصري، لقد أدي المسح الذي قامت به البعثة البلجيكية بقيادة HUYGE في اكتوبر - نوفمبر 2005 ثم في فبراير - مارس 2007 شرقي النيل عند الحافة الشمالية الشرقية لسهل كوم امبو حوالي 40 كم جنوبي ادفو و15 كم شمالي كوم امبو وحوالي 10 كم من جبل السلسلة إلي الكشف عن نقوش صخريةPetroglyphs أي التمثيل علي الصخر بالقطع والحز والحك والنقر) في ثلاثة مواقع صخرية مفتوحة في الهواء الطلق في قرطة (QI, QII, QIII) بلغ عدد الرسوم في مواقع قرطة الثلاثة حتي الآن مائة وستين رسما صخريا (العدد مرشح للزيادة مع استمرار العمل في الموقع) تشمل رسوما ونقوشا تمثل أبقارا برية وأيائل وأفراس نهر وغزلان واسماك وطيور وحمارا وحشيا، علاوة علي مجموعة أشكال لنساء مثلن من الجانب (تتضمن حفرا يمثل ادميا يمد ذراعيه الي الجانبين افقيا، وهو ما ربما يكون النموذج الأول لأوضاع رقص ظهرت لاحقا في مصر خلال عصر ماقبل الأسرات)، وهو ما يقارن جميعه بأروع أعمال الفن في غربي ووسط أوروبا خلال عصر الثقافة المجدلينية / العصر الحجري القديم الأعلي، كاشفة عن تماثلات أسلوبية وفكرية مع فنون سادة الفن الباليوليثي الأوروبي. قدمت نقوش وأعمال الحفر في قرطة علي ذلك عنصرين موضوعيين (المرأة والحيوانات) من ثلاثة موضوعات تركزت حولها فنون ما قبل التاريخ (الجنس والغذاء والأرض). بذلك يكون فن الصخر في قرطة قد قدم لنا ثلاثة من أربعة انواع من التمثيلات التي تناولها فن الصخر عموما : الصور (آدمية وحيوانية) والخطوط البيانية النفسية، بينما غابت الرموز المجردة التي لعبت دورا بارزا في فن الكهوف المجداليني الاوروبي . لم يخرج فنانو قرطة علي قاعدة استنها فنانو الباليوليثي الأعلي الأوروبي، واهتدي بها معظم فناني الصخر عبر العالم، فقد اندمجت الرسوم الحيوانية الطبيعانية مع الرسوم الآدمية الاصطلاحية والرسوم ذات الطابع الرمزي. لا يحول ذلك دون ملاحظة وجود تراوحات نمطية بين نقوش الآدميين في قرطة والنمط الأوروبي الذي تضمن بدوره أنماطا فرعية عديدة. وفقا للتنظيم المكاني للرسوم، تتميز الرسوم بالفردية ولاتوجد تكوينات تدعو الي تصور توفر علاقات سردية بينها، ربما عدا افريز من الطيور وحيوانين متواجهين في قرطة. تتفق نقوش قرطة في ذلك مع الطابع الأوروبي المجداليني. مقارنة بمثيلاتها الباليوليثية الأوروبية، ربما مثل الفنان حيوانات اعتقد أنها تمثل قوي سحرية فوقية. رغم تميز نقوش الحيوانات في قرطة بالفردية، إلا أنه يبدو انها قد نفذت في طور واحد .نسبت أعمال الفن في قرطة إلي الباليوليثي المتأخر حوالي 13000 سنة ق م بناء علي وسائل تأريخ علمية غير مباشرة تمثلت في طريقة OSL dating ، وكذلك بناء علي معطياتها الفنية التي شابهت مثيلتها الأوروبية المجدلينية، واختلفت اسلوبيا عن فنون ما قبل الأسرات المصرية التي كشف عنها المسح الذي أجري في بداية القرن الحالي لأكثر من 800 منظر صخري في 220 موقعا بين الوادي ومرتفعات البحر الأحمر في الصحراء الشرقية بين خطي عرض 62 - 25 شمالا، وعن فنون كهف الأيدي وكهف العبيد ووادي صورة - السابحين والوحوش وطبعات الأيدي والأقدام - في الصحراء الغربية، وتميزها عن رسوم الثقافة البوبالينية التي اهتدي الي وجودها في الصحراء الوسطي والليبية خلال الألف السادس واوائل الالف الخامس ق م، حيث لا تتسم الأخيرة بالواقعية وانما بمعالجة كاريكاتورية للطبيعة، كما انها من حيث الموضوع تحتوي علي العديد من رسوم الحيوانات الاثيوبية الضخمة التي تواجدت هناك بينما غابت عن البيئة المصرية حتي اوائل عصر الهولوسين حوالي 1000 ق م. لقد أعاد الكشف عن الرسوم والنقوش الصخرية في قرطة رسم خريطة التوزيع الجغرافي لأعمال الفن في عصور ماقبل التاريخ، فهو يثبت - إلي جانب رسوم ونقوش الحوش من الباليوليثي المتأخر ومثيلتها التي يحتمل نسبها إلي ماقبل الألف الخامس ق م في أبوصويرة غرب - وجود جذور فنية باليوليثية في مصر، وان الفنان الأوروبي في العصر الباليوليثي الأعلي لم يكن يعزف منفردا علي صفحة الصخر كما كان معتقدا من قبل، كما يبرز الكشف عن مكانة فن الصخر كأقدم أشكال الفن المعروفة في مصر، كما هو الحال في قارات العالم أجمع.