لا ريب أن المصريين أجهل الناس بمصر! وليس أوضح وأسوأ من الجهل التاريخي بأفضال حضارة مصر سوي الجهل الجغرافي بأصول نهر النيل، كما سجل عالمنا الجغرافى الموسوعى جمال حمدان. وهو عار علي أمة بادرت بصنع التاريخ في فجر الحضارة وطوعت الجغرافيا في قلب العالم. ومن لا يعرف قصة حياة النيل لا يعرف قصة تكوين مصر المكان! فمصر واحة مدينة بوجودها الطبيعي إلي نهر النيل, بقدر ما هي مدينة بمأثرتها الحضارية للإنسان المصري. فلولا النيل, بمنابعه الاستوائية ثم بمنابعه الحبشية, لما توافرت البيئة التي مكنت المصريين من الاستقرار بفضل الزراعة والمبادرة بصنع الحضارة, حين حل عصر الجفاف محل العصر المطير قبل عصر الأسرات الفرعونية. وعرضت كتاب حضارة مصر أرض الكنانة للدكتور سليمان حزين، وهو من روائع الفكر المبدع في مجال المعرفة والتعريف بجغرافية وتاريخ مصر والنيل, وفيه يلخص عالمنا الجغرافي الرائد نتائج بحوثه الرصينة, التي قدمت اسهاما رائدا في كشف فضل النيل في تكوين مصر, وفضل مصر في إبداع الحضارة. فنسبة فضل التكوين الأول للتراب المصري ترد إلي مصدره الطبيعي وهو نهر النيل العظيم، لكن إعداد هذا التراب وهذه الأرض وتهيئتها لأن تكون بيئة صالحة لقيام الحضارة البشرية التي نعرفها, ثم استغلال تلك البيئة واستدرار خيرها والحفاظ عليها وتنميتها علي مر الزمن، كان من عمل الإنسان المصري! فلولا أنه قد كبح جماح النهر, بل وألجمه كما تلجم الفرس العاتية, لما قامت مصر بصورتها التي مهدت لقيام الحضارة. ومن هنا يقول حزين مخالفا هيردوت إن مصر الحضارة ليست هبة النيل.. بقدر ما هي هبة الإنسان المصري للحضارة الإنسانية والتاريخ البشري, أو هي في الحقيقة ثمرة جهاد الإنسان المصري في بيئة صالحة. وحيث لم تكن لنهر العطبرة إذ ذاك شدة الانحدار وقوة النحت التي تمتاز بها منابعه الآن فقد اقتصر جريان النيل في الشمال علي المياه التي تأتيه من الصحراء الشرقية والنوبة وما جاورها أثناء معظم العصر المطير؛ فأتت منها رواسب من مواد خشنة أو حصباوية كونت المدرجات الجانبية وملأت قاع الوادي, وكانت بمثابة البطانة لما جاء بعدها من رواسب الحبشة الدقيقة بعد أن اتصلت بنهر النيل الأدني لترسب في الطبقات العليا من التربة المصرية. وكما سجل حزين فقد كان لهذا التتابع في الرواسب قيمته العظمي في تكوين التربة المصرية, إذ تعتبر الطبقات الخشنة في القاع بمثابة المصفاة التي تتشرب المياه وتجري بها تحت سطح الماء حتي تبلغ البحر, وأما الطبقة العليا من التربة فتكونت من رواسب الحبشة الغرينية الناعمة وغير المسامية. ولو أن التتابع انعكس لتعذر انصراف المياه الجوفية من التربة نظرا لعدم مسامية طبقات الطمي, ولانتهي ذلك إلي تكوين المستنقعات علي السطح وإضعاف صلاحية الأرض للزراعة والاستقرار. وكان نزول السكان في عصور ما قبل التاريخ إلي وادي النيل نقطة تحول خطير في حياة مصر والمصريين, حيث بدأ الأخيرون يقيمون أسباب الحياة المستقرة والحضارة الزراعية؛ حين ارتبطت حياتهم بقطع معينة من الأرض, وحلت الوحدة الإقليمية محل الوحدة القبلية, ووحد المصريون الصعيد والدلتا فظهرت الى الناس أول أمة وأول دولة قومية مركزية. ومهما عانت مصر من أهواء فيضان النيل على مدى تاريخها الألفى العريق فقد كانت مدينة بكيانها الطبيعي لفيضان وغرين النيل الأزرق، الذي صنعته البراكين والسحب والأمطار والرياح علي هضبة الحبشة، وهو ما سرده الباحث الألماني الرائد إميل لودفيج، الذي ترجم فيه للنيل كما يترجم للعظماء. والأمر ان رجال صحراء مصر الذين صاروا فلاحين, بعد أن هبطوا إلي واحة النيل بنهاية العصر المطير, كانوا ينتظرون واقفين في مجري النهر ورود الفيضان الحبشي الذي لولاه لهلكوا. ومنذ فجر التاريخ كان رجال صحراء مصر الذين صاروا فلاحين, بعد أن هبطوا إلي واحة النيل بنهاية العصر المطير, ينتظرون واقفين في مجري النهر ورود الفيضان الحبشي الذي لولاه لهلكوا. ومهما عانت مصر من أهواء فيضان النيل فقد كانت مدينة بكيانها الطبيعي لفيضان وغرين النيل الأزرق الذي صنعته البراكين والسحب والأمطار والرياح علي هضبة الحبشة. ونقرأ: أنه فى الشتاء تأتي رياح موسمية من الشمال الشرقي حاملة المطر من آسيا إلي البحر الأحمر، وتهب في الربيع رياح من جنوب الأطلنطي وفوق إفريقيا, لتضيف إلي السحب، التي تكونت من بخار مياه البحر، جميع رطوبة الغابة البكر في خط الاستواء. وتجوب السودان رياح مثقلة بالمطر المنتظر حتي تلطم جدر الجبال الوعرة والشاهقة التى صنعتها البراكين وتنتصب أمامها فى الحبشة لتفرغ ما يحمله البخار من ماء. وفي حوض النيل الأزرق ذي الانحدارات القوية تتدفق الفيضانات القوية ويصل المطر الى مصر ويبلغ أقصاه في وسط شهر يونيو، كما تدل سجلات المصريين منذ ألوف السنين. وقد نحت المطر أخاديد عميقة وضيقة في جبال الحبشة البركانية, تجري منها سيول نحو النيل، وحينما تبلغ السيول الحجارة الرملية تشقها شقا خفيفا. ثم يلاقي النيل صخور الأراضي البركانية فيشق مجراه الأرض عموديا, ويفصل منها ما يخلطه بتراب صالح للنبات, وهكذا يتألف الغرين؛ صانع خصوبة مصر؛ تلك الواحة في الشمال البعيد. وتكشف الحركة الأولي للنيل الأزرق عن عبقرية في سجيته, إذ يجوف لنفسه عند خروجه من بحيرة تانا ممرا عميقا في الصخر, ويحمل الغرين. وينخفض ماؤه في الموسم الجاف فلا ينقل أكثر من اثنين في المائة من المواد, فيبدو في الغالب أزرق صافيا, ومن هنا اسمه, ثم يتحول إلي اللون الأسمر حين يحمل الغرين معه في الموسم المطير, وتكتسب مصر اسمها القديم الأصيل: السمراء! نسبة إلي تربتها السمراء بفضل الغرين, صانع خصوبة أرض مصر. وللقصة بقية. لمزيد من مقالات د. طه عبدالعليم