في إدارة أزمة سد النهضة علي مصر الإنطلاق من مبدأ نبذ الضرر, بإتفاق ملزم- ثنائي أو متعدد الأطراف- علي ضوابط تخزين المياه, ومعدلات تصريف المياه لتوليد الكهرباء, وغيرها من الهواجس ذات الصلة, بما لا ينتقص من حقوق مصر المائية الثابتة. كما أن عليها أن تلتزم بمبدأ الكسب المتبادل, وتفهم الإحتياجات التنموية لأثيوبيا, وغيرها من دول منابع النيل, والتعاون الشامل معها في مواجهة تحديات التخلف والفقر الطاقة والتنمية, والإستغلال المشترك لموارد مياه الحوض المهدر معظمها. وعلي مصر أن تبين لإفريقيا والعالم أن النيل هو حياتها, وأن تستنفد خيارات التنسيق والتعاون والتفاوض والتحكيم; علي أن يبقي الخيار العسكري خيارا أخيرا لحماية أساس وجودها; إذا أصرت أثيوبيا, مدفوعة بمزايدات داخلية أو مؤامرات خارجية, علي الإضرار بحقوق مصر النيلية الثابتة; لأن الأمر حينها يغدو مسألة حياة أو موت لمصر والمصريين. وقد قيل, وبحق, إن المصريين أجهل الناس بمصر! وليس أوضح وأسوأ من الجهل بقصة حضارة مصر سوي الجهل بقصة نهر النيل. وفي إدارة أزمة سد النهضة ينبغي أن تنطلق مصر من رؤية شاملة; لا يقيدها الاستغراق في لحظة تقتطع من سياقها التاريخي. ولعل البداية هي قراءة الفصل الأول من قصة النيل في مصر. ويوجز كتاب حضارة مصر أرض الكنانة بحوث الدكتور سليمان حزين الرائدة تاريخ وجغرافية مصر والنيل. ونعرف من القصة التاريخية المشوقة والمعلمة: إن فضل التكوين الأول للتربة المصرية يرجع الي نهر النيل العظيم; ولكن إعداد هذه التربة وتهيئتها لأن تكون بيئة صالحة لقيام الحضارة الإنسانية, ثم استغلال تلك البيئة واستدرار خيرها والحفاظ عليها وتنميتها علي مر الزمن, كان من عمل الإنسان المصري! وقد كان للنيل, الذي اقتصر جريانه بمصر في البداية علي مصادر المياه من الصحراء الشرقية والنوبة وما جاورها أثناء معظم العصر المطير, فضل حفر مجراه الي البحر المتوسط عبر الصحراء. وقد تحولت دورة النحت والتعميق الي دورة ردم وإرساب في الدلتا ومصر الوسطي ثم الصعيد, وتراجعت دورة النحت نحو الجنوب ليعمق النهر مجراه ويزيل الجنادل والشلالات في النوبة. وقد انطوي تاريخ تكوين نهر النيل لاسيما بمصر علي تنظيم وتتابع متسق جعل البيئة الطبيعية صالحة لأن تقوم فيها حضارة مستقرة. فقد كان للتتابع في الرواسب قيمته العظمي في تكوين التربة المصرية, إذ صارت طبقات الحصي والرمال الخشنة, التي رسبها نيل مصر في القاع, بمثابة مصفاة تتشرب المياه, وتجري بها تحت سطح الماء حتي تبلغ البحر, وصارت بمثابة البطانة; لما جاءت الرواسب الناعمة وغير المسامية والخصبة من الطمي وكونت الطبقة العليا من التربة; حين أخذت روافد النيل الأثيوبية تتجه نحو الشمال. ولو انعكس التتابع لتعذر انصراف المياه الجوفية, ولانتهي ذلك الي تكوين المستنقعات علي السطح وإضعاف صلاحية الأرض للزراعة. وكان نزول الإنسان المصري في عصور ما قبل التاريخ الي وادي النيل نقطة تحول خطير في قصة حياة مصر. فقد بدأ المصريون يقيمون أسباب الحياة المستقرة والحضارة الزراعية حين ارتبطت حياتهم بقطع معينة من الأرض, وأحلوا الوحدة الإقليمية محل الوحدة القبلية, ووحدوا الصعيد والدلتا, لتظهر الي الناس أول أمة وأول دولة مركزية في التاريخ. ولولا أن المصري قد كبح جماح النهر, بل وألجمه كما تلجم الفرس العاتية, لما قامت مصر بصورتها التي مهدت لقيام الحضارة. ومن هنا يقول حزين مخالفا هيردوت: إن مصر الحضارة ليست هبة النيل, بقدر ما هي هبة الإنسان المصري, أو هي ثمرة جهاد المصري في بيئة صالحة. فالزراعة في مصر لم تكن منذ بدايتها بدائية مطرية, وإنما هندسية مروية تعتمد علي تنظيم جريان النهر, برزت فيها براعة المصري في أن يستنبت الزرع ويربي الضرع ويقيم الحضارة, وهذا فضل مصر علي النيل, وهو ما عليها مواصلته بتعزيز نهج التعاون التنموي والكسب المتبادل مع أثيوبيا وغيرها من دول حوض النيل. ونقرأ في كتاب حضارة مصر أرض الكنانة للدكتور سليمان حزين أن نيل مصر كان نهرا عاتيا يفيض بغير انتظام, ويحول مجراه أو مجاريه علي غير هدي, ويجرف التربة ثم يرسبها بغير انتظام, وتغطي المجاري المائية والبحيرات والبراري معظم قاعه. وكان النيل سيد مجراه المطلق وسيد الطبيعة والإنسان معا; بحيث لا يمكن أن تقوم في مجراه أو دلتاه حياه مستقرة تمهد للحضارة. ولما حل الجفاف قبل عصر الأسرات الفرعونية, بدأ الإنسان المصري يضبط جريان مياه الفيضان, ويحكم ضبط مجري النيل, ويحصره بين الجسور والشطوط, بكفاحه الجماعي الدءوب والمنظم. وحين بدأت موارد النيل الشمالي تجف حدث تطور جوهري في حياة النيل; بوصول مياه منابعه الجنوبية: منبع حبشي فصلي ولكنه غزير المياه وفير الطمي, ومنبع استوائي قليل المياه ولكنه دائم الجريان, وهو أساس خصوبة أرض مصر, والقادم من أرض الأجداد في أثيوبيا وغيرها من بلدان حوض النيل الشرقي كما وصفهم المصريون القدماء. ونقرأ لجمال حمدان في شخصية مصر, أنه سواء كانت هبة النيل أو هبة المصريين, تظل مصر في التحليل الأخير هي النيل; لم تكن لتوجد بدونه, وهو أساس الوجود المصري كله. فمصر شبه واحة; لا تعتمد علي المياه الجوفية, كما لا تعتمد علي المطر. وقد تحول الإنسان المصري الي عامل جغرافي فاعل; فكانت حضارة مصر الفرعونية ثمرة الزواج الموفق السعيد بين أبي الأنهار وأم الدنيا, وتلك ملحمة جغرافية ترجمت الي ملحمة حضارية. ولكن علي مدي التاريخ, وحتي بناء السد العالي, كان ارتفاع أو انخفاض منسوب الماء سنتيمترا واحدا يحدد الخط الفاصل بين الغرق والشرق, بين الحياة والموت. وقد تعود مصر مع مشروعات مثل سد النهضة الي ذات التهديد. وللحديث بقية. لمزيد من مقالات د. طه عبد العليم