فى ماض سحيق شق هذا النهر العظيم نهر النيل مجراه منطلقا من قمم الجبال العالية ليعبر الغابات والصحارى بحثا عن هذه الأرض، أرض مصر، ليمهد الطريق أمام الإنسان القديم فيها لتشييد حضارة من أقدم الحضارات التى عرفها البشر وأعظمها. حديثنا اليوم عن ذلك النهر الذى تعتمد عليه حياة مصر، والذى أدرك الأجداد قيمته فقدسوه، فهو مصدر الحياة، وسر استمرار الحضارة فى هذه الأرض، والحديث عن النهر الخالد يدفعنا إلى الماضى البعيد، قبل العصور التاريخية، إننا نعود إلى الفترة التى تُعرّف بالحقب الجيولوجية، ولا تُعرّف بالسنوات، ووفقا لكثير من الأبحاث والدراسات الجيولوجية والجغرافية فإن النيل الذى نعرفه اليوم قد بدأ ظهوره فى العصر الجيولوجى الرابع والأخير والذى يعرف بعصر البلايستوسين. ويقول الدكتور سليمان حزين فى دراسته عن حضارة مصر، إنه قبل تكوين النهر فى صورته الحالية كانت هناك ثلاثة نظم نهرية مستقلة عن بعضها، أولها فى الهضبة الاستوائية، وثانيها فى الهضبة الحبشية، وثالثها فى النوبة ومصر، ومن هذه النظم الثلاثة تكون النهر العظيم. وسر عظمة هذا النهر كما يقول الدكتور سليمان حزين ترجع إلى تكوينه الطبيعى، وإلى ما يمتاز به من ميزات جغرافية طبيعية، وإلى تطوره الفيزيوغرافى، وإلى ما تميزت به مراحل ذلك التطور، لاسيما خلال الزمن الجيولوجى الرابع، من ترتيب خاص وتتابع فى الأحداث، كان لهما أبعد الأثر فى تكوين أرض هذا الوادى، وإعدادها لأن تكون مهد حضارة تعتبر من أعرق الحضارات. وقد كان من نتائج ذلك كله أن جمع نهر النيل، فى مصر على الأقل ما بين خاصيتين فى واقع الأمر مترابطتين أشد الترابط: أولاهما أن هذا النهر يعتبر من الناحية الجيولوجية من أحدث أنهار العالم الكبرى تكوينا، وثانيتهما أن أرضه مع ذلك كانت مهدا لحضارة من أعرق الحضارات المستقرة. لقد ربط المؤرخون والرحالة الذين زاروا مصر منذ القدم، بين نهر النيل والحضارة المصرية القديمة، ومن هنا جاءت العبارة الشهيرة «مصر هبة النيل» والتى تنسب إلى المؤرخ الإغريقى هيرودوت الذى يوصف بأنه أبوالتاريخ، وهيرودوت مؤرخ إغريقى عاش فى القرن الخامس قبل الميلاد، ولد فى هاليكارناسوس من مدن جنوب غرب آسيا الصغرى، وقد هاجر هيرودوت من بلاده وهو فتى، وتنقل فى رحلات عديدة جاب فيها العالم القديم وسجل خلالها مشاهدته، التى جمعها تاريخه الشهير الذى اسماه «تمحيص الأخبار» واستحق بسببه أن يكون أبوالتاريخ. وزار هيرودوت مصر فى فترة الاحتلال الفارسى الأول للبلاد الذى بدأ عندما غزاها قمبيز فى سنة 525 قبل الميلاد، وفى الفترة التى زار فيها هيرودوت مصر كانت هناك جالية يونانية كبيرة تعيش فى مصر، وقد اختلط هيردوت بهم واعتمد على آرائهم كثيرا، عند تأريخه لمصر. لكن ماذا يقول هيرودوت عن فضل النيل على مصر، وننقل هنا عن الترجمة العربية لكتاب هيرودوت والتى قام بها الأستاذ الدكتور محمد صقر خفاجه بعنوان «هيرودوت يتحدث عن مصر» حيث يقول هيرودوت: «أما بخصوص المسائل الإنسانية فالكهنة متفقون فيما بينهم على أن مينا كان أول ملك لمصر من البشر، وإن مصر فى عهده كانت كلها مستنقعا ما عدا ولاية طيبة، بينما لم يظهر فوق الماء جزء واحد من الأرض التى توجد الآن شمال بحيرة مويريس، وهذه تقع من البحر على سفر سبعة أيام تصعيدا فى النهر، ويظهر لى أن كلامهم عن وطنهم صحيح، إذ يتضح لمن لم يستمع إليهم من قبل، ولمن عساه أن يكون قد رأى البلاد وحسب، وكان عليما بصيرا؛ يتضح له أن مصر التى يبحر إليها اليونانيون أرض مكتسبة، وأنها هبة من النيل». من هنا جاءت المقولة الشهيرة لأبى التاريخ هيرودوت «مصر هبة النيل»، وهى مقولة رددها قبله وبعده عديد من المؤرخين. لكن هل هذه المقولة صحيحة؟.. أو بمعنى آخر هل تعبر بالفعل عن حقيقة نشؤ الحضارة المصرية وتطورها؟ لقد رد الجغرافى المصرى الكبير الدكتور سليمان حزين على مقولة هيرودوت بمقولة أخرى قدم بها لكتابه «حضارة مصر أرض الكنانة»، فقال: «لم تكن مصر الحضارة هبة النيل كما قال عنها هيرودوت وإنما هى كانت هبة الإنسان المصرى للحضارة والتاريخ». وقبل ذلك ذهب الأستاذ محمد شفيق غربال المؤرخ المصرى البارز نفس المذهب فى أحاديثه الإذاعية التى قدمها بالإنجليزية من دار الإذاعة المصرية، ثم جمعها فى كتاب باسم «تكوين مصر» حيث يقول: «النيل منبع حياتنا، ومصر ما هى إلا الأراضى الواقعة على ضفتى النهر، وليس لها من حدود إلا المدى الذى تصل إليه مياه النهر ومع ذلك فإن المصريين هم الذين خلقوا مصر، تأمل النيل مجتازا آلاف الأميال من خط الاستواء إلى البحر الأبيض، هل تجد على طول مجراه إلا مصرا واحدة؟ إن هبات النيل كهبات الطبيعة سواء بسواء، طائشة عمياء، إذا ما تركت دون ضبط فإنها تدمر كل شىء وتخلف مستنقعات الملاريا الوبيلة. والإنسان وحده هو الذى يستطيع أن يجعل من هذه الهبة نعمة لا نقمة. وقد كان ذلك ما عمله الإنسان فى مصر، فمصر هبة المصريين». لقد كان المؤرخ المصرى محمد شفيق غربال محقا كل الحق عندما قال: إن مصر هبة المصريين، فهذه الأرض وتلك الحضارة الرائدة العظيمة لم تظهر وحدها لمجرد اختراق النهر للصحراء، بل هى حضارة من صنع الإنسان. فوراء قصة هذه الحضارة رواد عظام خلقوا مصر وانتزعوها من بين المستنقعات والصحارى، وأبدعوا هذه الحضارة، ولأولئك الرواد قصة ترجع إلى آلاف السنين، وهذه القصة يرويها لنا المؤرخ الكبير أرنولد تويبنى، مفسرا الأحداث وفقا لنظريته الشهيرة «التحدى والاستجابة»، فيقول: «إن المصريين الأوائل شأنهم فى ذلك شأن بعض الشعوب واجهوا بعد نهاية عصر الجليد التحول الطبيعى العميق فى مناخ الأرض، والذى تمثل فى ارتفاع درجات الحرارة والجفاف». هذا هو التحدى فماذا كانت الاستجابة من الأقوام الذين واجهوا التحول، منهم من لم ينتقل من مكانه ولم يغير طرائق معيشته فلقى جزاء إخفاقه فى مواجهة تحدى الجفاف الإبادة والزوال. ومنهم من تجنب ترك الموطن ولكنه استبدل طريقة معيشته بأخرى فتحولوا من صيادين إلى رعاة رحل عرفتهم المراعى الأفروأسيوية. ومن هؤلاء من رحل نحو الشمال وكان لزاما عليهم أن يواجهوا تحدى برد الشمال الموسمى. ومن الأقوام من انتقل صوب الجنوب نحو المنطقة المطيرة وهنالك أوهن قواهم جو تلك المناطق المطير الجارى على وتيرة واحدة. وأخيرا منهم أقوام استجابوا لتحدى الجفاف بتغيير وطنهم وتغيير طرائق معيشتهم معا. ومن هؤلاء كان الأجداد الأوائل للمصريين، وكانت استجابتهم للتحدى هى العمل الإرادى الذى خلق مصر كما عرفها التاريخ. ويمضى توبينى فى رسم صورة الرواد الأوائل مؤكدا على فكرة أساسية هى أن مصر وحضارتها هى هبة هؤلاء الرواد الأسلاف القدماء للشعب المصرى، لقد هبط أولئك الرواد الأبطال بدافع الجرأة أو اليأس إلى مستنقعات قاع الوادى، واخضعوا طيش الطبيعة لإرادتهم، وحولوا المستنقعات إلى حقول تجرى فيها القنوات والجسور، وهكذا استخلصت أرض مصر من الأجمة التى خلقتها الطبيعة، وبدأ المجتمع المصرى قصة مغامراته الخالدة لتستقيم له أمور دنياه وأمور أخراه. ويذهب تويبنى إلى أن المستنقعات التى تحكم فيها المصريون الأوائل هذا التحكم الحاسم كانت لا تختلف كثيرا عن منطقة المستنقعات بجنوب السودان، بل إن العلماء يظنون أن أسلاف القوم الذين يعيشون الآن فى تلك المنطقة كانوا يقطنون فيما مضى ما يعرف الآن بصحراء ليبيا جنبا إلى جنب مع مبدعى الحضارة المصرية، عندما استجاب هؤلاء لداعى الجفاف واختاروا لأنفسهم أن يتخذوا خطة بالغة الخطورة إلى أقصى مدى. ويرى تويبنى أن وجود الرجل أو الرجال ونقول أو النساء الموهوبين الذين قادوا شعبهم فى الساعة الملائمة إلى مغامرة كبرى من مغامرات الخلق والتكوين كانت عاملا أساسيا وراء نجاح الأسلاف الأوائل للمصريين فى مواجهة تحدى الجفاف، حقا إن مصر هى هبة المصريين الأوائل الذين عرفوا كيف يروضوا الطبيعة ويستفيدوا منها لأقصى درجات الاستفادة، وهو ما ظل يفعله أحفادهم لآلاف السنين من بعد هذه المغامرة الأولى التى خلقت مصر التى نعرفها.