لا أجد ما أستهل به مقالتي هذه, أبلغ مما انتهي إليه المع المفكرين المصريين جمال حمدان في صفحات من أوراقه الخاصة. والذي نبه فيه الي الواقع الكارثي الذي تمر به حصة مصر من مياه النيل بقوله: كانت مصر سيدة النيل. بل مالكة النيل الوحيدة.. الآن فقط انتهي هذا الي الأبد, وأصبحت شريكة محسودة ومحاسبة, ورصيدها المائي محدود وثابت وغير قابل للزيادة, إن لم يكن للنقص. وهذه العبارة علي ايجازها لها دلالتها, إذا أخذت مرتبطة بالوثائق التاريخية, التي أثبتت بالبراهين الدامغة, أن الري والحضارة صنوان لا يفترقان, فحيثما وجدت الحضارة وظهر التمدن, ازدهرت معهما الزراعة التي تعتمد علي الري, وحيثما وجد نظام الري, ازدهرت معه الحضارة, فما قامت حضارة ذات شأن في تاريخ الإنسان القديم, إلا كانت تنظيمات الري ومشاريعها الزراعية تحتضن تلك الحضارة, فتسير معها جنبا الي جنب في مسيرة تطورها وتقدمها, ولا أدل علي ذلك من ازدهار الحضارات القديمة علي ضفاف الانهار, في الرافدين دجلة والفرات, وفي وادي النيل, أقدم وأرقي حضارتين معروفتين في تاريخ العالم. ونستطيع أن نستمر طويلا, في ضرب الأمثلة الدالة علي قدسية نهر النيل في وجدان قدامي المصريين, نكتفي بواحد منها, وهو أنه كان علي من يمثل بين يدي أوزوريس وقضاة الموت, أن يبرئ نفسه مع اليمين من الكبائر الأربع والأربعين فيقول عند احداها: إنني لم ألوث مياه النيل, ولم أحبسه عن الجريان في موسمه, ولم أسد قناة. ولقد بلغ من تعيينه الجنسية, ماكان الإله آمون يصرح بلسان كهنته قائلا: إن البلد الذي يفيض فيه النيل هو مصر, فكل من يشرب من النيل في مجراه التحتاني بعد بلدة بلاق فهو مصري. ويروي لنا التاريخ قصصا كثيرة عن مآس وأهوال قاستها مصر من غدر النيل, يتبين منها أن النيل وفيضانه وانقباضه, كان الشغل الشاغل لأهل مصر علي مر الزمن, وأنه أمر قديم في التاريخ, ولهذا عمد في عهد أمنحتب الثاني1427 1400 ق. م الي استعمال بحيرة موريس لخزن مياه الفيضان, وتجنب البلاد غوائل النيل. وإذا نحن تركنا العصر الفرعوني, ستقابلنا في القرن الخامس ق. م مقولة أبو التاريخ هيرودوت: إن مصر هي هبة النيل, وجريا علي هذا النسق من الأفكار, وصف عمرو بن العاص مصر الي عمر بن الخطاب, الذي تزخر به العديد من مصادر التاريخ الإسلامي. أما فيما يخص التنازع علي مياه النيل بين دول المنبع ودول المصب.. فيذكر لنا العلامة اميل لودفيج في كتابه حياة نهر في القصة أن الفيضان لم يقع في سنة1106 م فضربت المجاعة أطنابها في مصر, فأوفد السلطان المملوكي الأمير النصراني والبطريرك القبطي ميخائيل الي نجاشي الحبشة النصراني, مع كثير من االهدايا, وقد أثر الذهب في النجاشي, وثارت فيه عاطفة الحنان, فخرق السد الصغير, ولم يلبث الفيضان أن عم السودان صاعدا الي مصر.. وفي نهاية الفيضان, استقبل ميخائيل في الدلتا استقال الظافرين. وما روي من قصة الاجتماع في القاهرة سنة1488 م فيصف لنا السلطان وهو متكئ علي أريكته في خيمته الذهبية, وسفراء جميع ملوك البيض يقبلون الأرض مرتين أمامه, ويصل رسول النجاشي وحده مضطجعا في محفة كالسلطان فيرفض النهوض والخروج منه ويسأل: مولاي أتريد السلم مع سيدي وسيدك القمص يوحنا؟ لقد عاش آبائي مع هذا القسيس! لاتدعه قسيسا وإنما ادعه ب سيدي ويكرر هذا الأمر ثلاث مرات فيقول السلطان بتأن: أريد السلم مع سيدي القمص يوحنا! وهنالك سلم الحبشي الي سلطان مصر قوسا وستة سهام من ذهب وقال: أصبت اذ قلت سيدي فحياتك وموتك بين يديه, وأنت تعرف السبب, فالنيل يأتي من بلدنا, ولو أراد سيدي لقطع الماء وأماتكم جميعكم جوعا! السلطان: ذلك حق. وحاول أحد الغربيين أن يجعل من تلك الأسطورة حقيقة, ففي سنة1505 م, كان قائد الأسطول البرتغالي الفونسو دو البوكيرك نائبا للملك في الهند فأراد ان ينزع من سلطان مصر طرقه التجارية وإهلاك مصر, حيث يستطيع أن يضع يده علي منابع الثروة التي كانت سببا في غني أعدائه في الدين, فاعتمد علي القمص يوحنا, وسعي في تحويل النيل الأزرق الي البحر الأحمر, فلم يحبط عمله كما روي ابنه إلا لعدم وجود عمال ماهرين. ونستطيع أن نمد هذه القائمة وتزيدها طولا, ولكن مايعنينا هنا أن الساسة الأثيوبيين كثيرا مايرددون هذه الأساطير في لقاءاتهم مع الساسة المصريين, إبان معالجتهم لأنصبة دول حوض النيل من مياهه, وإذا كان أسلافهم قد استمدوا التأييد من البلاد الغربية المسيحية, فإن الأحفاد قد زادوا علي ذلك بالاعتماد علي إسرائيل وتكمن خطورة ذلك, اذا أخذ مرتبطا بأن الوصول الي مياه النيل يعتبر حلما توراتيا قديما, ومن ثم أعد الصهاينة مشروع دولتهم علي أمرين السيطرة علي فلسطين في البداية, ثم السيطرة علي المياه العربية وعلي هذا الأساس حرصت إسرائيل علي دعم علاقاتها مع مختلف دول القارة الافريقية, لاسيما اثيوبيا مستغلة في ذلك ماروجته من دعاية عن صلة النبي التوراتي سليمان.. بملكة سبأ بل بلقيس, التي ينتسب إليها أباطرة الحبشة, ولم يشذ عن هذه القاعدة أي من ساسة إسرائيل منذ ديفيد بن جوريون وانتهاء بنتنياهو, اعتقادا منهم أن من يسيطر علي أعالي النيل.. يملك زمام مصر والسودان, ولم يكن ذلك ليتم إلا بمباركة الولاياتالمتحدةالأمريكية, فقد رأت فيه اسهاما في الجهود الرامية إلي إبقاء القارة الأفريقية ضمن مناطق النفوذ الأمريكية وتأمين خضوع مواردها وثرواتها للرأسمالية العالمية. وعلي حد ما ثبت إلي الآن, فقد سعت إسرائيل لاستخدام المياه باعتبارها ورقة ضغط علي مصر والسودان, وبصفة خاصة مصر التي تدخل مصالحها في مياه النيل في دائرة المصالح المصيرية التي تتصل بحياة الشعب وبقاء الدولة ومصير البلاد. رئيس مركز التراث الفلسطيني