تفسير جغرافى للحرب بين روسيا والغرب على المسرح الأوكرانى بوتين يلجأ إلى شركة «جاز بروم» ابنته المدللة لمنع أوكرانيا من تجاوز الفضاء الروسى الدول الأوروبية تعتمد على الطاقة الروسية بنسبة لا تقل عن 30% وموسكو تمسك بحبل خناقها الإعلام الغربى يتهم روسيا بإشعال حرب عالمية باردة بعد وقف ضخ الغاز إلى أوكرانيا عام 2006 الأمريكيون يرون أن «جاز بروم» حققت أحلامًا تتجاوز ما كان يفكر فيه القياصرة الروس فى الماضى ثورة الورود فى جورجيا و التظاهرات البرتقالية فى أوكرانيا استفزت موسكو لغزو القرم فى 2014 تراكم ثروات الغاز والنفط أعطت الرئيس الروسى فرصة تدعيم أركانه داخليًا والتطلع لاستعادة دور بلاده على الساحة الدولية
يستمد هذا الكتاب «روسياوأوكرانيا.. حرب عالمية غير معلنة» أهميته ليس لكونه يأتى فى الذكرى الثانية لاندلاع حرب بين بلدين تبادلا الأدوار فى النشأة والتكوين للأمة الروسية قبل ألف عام، ولا لأنه يروى قصة الصراع الموغل فى القدم بين قوى البر والبحر فى فضاء أورسى تأرجحت هويته بين قوى الغابات والسهوب، بل لكون مؤلفه الدكتور عاطف معتمد عالما جغرافيا ومثقفا موسوعيا خبر ما يكتب عنه، وهو الحاصل على الدكتوراه من جامعة سان بطرسبرج الروسية 2001، قبل أن يتبوأ منصب المستشار الثقافى ورئيس البعثة التعليمية للسفارة المصرية فى موسكو (2014 2016) ليحط الرحال أخيرا أستاذا فى كلية الآداب جامعة القاهرة. والكتاب الصادر حديثا عن دار الشروق، يقدم عبر أحد عشر فصلا، وخاتمة «تفسيرا جغرافيا» للحرب الدائرة بين روسيا والغرب على المسرح الأوكرانى، مستعينا بحشد من المصادر باللغتين الروسية والإنجليزية.. بعد استعراضه لمسيرة الرئيس الروسى فلاديمير بوتين وصراعه العلنى والخفى مع الغرب منذ أن جاء إلى الحكم عام 2000، والخطوات التى اتخذها طيلة 20 سنة، لإصلاح البنية الروسية فى السياسة الخارجية والداخلية، لاستعادة مكانة روسيا على الساحة الدولية، مرورا بضم شبه جزيرة القرم 2014، ومرورا بالاستفزازات الغربيةلروسيا فى أوكرانيا التى كانت تمهيدا لاندلاع الحرب فى نهاية فبراير 2022، ينتقل الدكتور عاطف معتمد إلى الحديث عن سلاح النفط والغاز فى الحرب الروسية الأوكرانية. ووفقا للكتاب الذى يقدم رؤية بانورامية لأسباب الغزو الروسى لأوكرانيا، والدور الغربى فى اللعبة الكبرى على النفوذ الدولى فى عالم لايزال يتشكل منذ انهيار الاتحاد السوفيتى فى عام 1991، ففى شهر مايو من عام 2022، وبعد مرور 50 يوما على بدء حرب روسيا فى أوكرانيا أصدرت مراكز بحثية غربية تقريرا حمل عنوان «أوروبا تمول حرب روسيا على أوروبا». ذهب التقرير إلى أنه فى خمسين يوما دفعت دول أوروبا لروسيا 50 مليار يورو قيمة مشتريات الغاز الروسى الذى يتدفق إلى أراضيها، بمعدل مليار يورو كل يوم! هذه الأرقام الفلكية التى تدخل الخزانة الروسية لم تحدث فى التاريخ الاقتصادى لروسيا أو أى دولة نظيرة فى العالم. كان التقرير يريد أن يقول إن بوتين يقتل شعوبا أوروبية بأموال الشعوب الأوروبية. على هذا النحو، لا يمكن فهم حرب أوكرانيا فى فبراير 2022 من دون فهم أبرز معالم أسلحتها. هذه المرة ليست الأسلحة نووية ولا بيولوجية ولا تقليدية، بل سلاح آخر صامت (أو كاتم للصوت) يسمى «سلاح الغاز». تاريخ نفطى حافل تنتهز روسيا الفرصة التى لا تتكرر، فالصراع بأسلحة النفط والغاز متقلب ومتغير وفق التحالفات الإقليمية والدولية، ومن بينها ذلك التفاهم المفاجئ الذى جمع خصمين تاريخيين هما السعودية وروسيا لتتفقا معا فى أكتوبر 2022 على خفض الإنتاج النفطى فى خطوة بالطبع ستحقق أرباحا إضافية لدول أوبك وروسيا، لكنها ستحقق لروسيا نفوذا أكبر ضد القارة الأوروبية. وبالعودة إلى الوراء قليلا، كانت روسيا فى نهاية القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين ( 1898 1901)، رائدة فى إنتاج البترول ومتقدمة عن الولاياتالمتحدة.، لكن الأخيرة تقدمت منذ 1901، وأصبحت أولى دول العالم إنتاجا حتى عام 1975 قبل أن يعود الاتحاد السوفيتى ويصبح أكبر منتج للبترول فى العالم. وبعد تفكك الاتحاد السوفيتى فى 1991، عادت روسيا إلى صدارة دول العالم حتى عام 1992 قبل أن تتجاوزها السعودية لأول مرة. بداية من عام 2007 استعادت روسيا المكانة الأولى بين دول العالم فى إنتاج النفط، ثم تأرجحت مكانتها بين المراكز الثلاثة الأولى فى السنوات الأخيرة ولا سيما منذ عام 2020. واليوم تبرز مكانتها الأساسية بما لديها من احتياطى ضخم وصادرات عظيمة من الغاز الطبيعى. ولقد تمكنت روسيا بعد الأزمة التى عصفت بنظامها الاقتصادى فى أغسطس 1998 من قطع خطوات واسعة نحو استعادة قوتها، رغم كل مشكلات الفساد، وتهريب الأموال إلى الخارج، وتفشى اقتصاد الظل. وفى عام 2008 عزز بوتين حكمه بحصاد 8 سنوات متواصلة من النمو الاقتصادى الذى بلغ معدله 6.5 فى المائة سنويًّا. تقارب مع مجموعة السبع نجح بوتين فى التقارب مع الغرب فى سنوات حكمه الأولى، ونجح فى جعل بلاده العضو الثامن فى مجموعة الدول الصناعية الكبرى (الولاياتالمتحدة، كندا، فرنسا، المملكة المتحدة، ألمانيا، إيطاليا، اليابان). وكانت مؤهلات روسيا فى ذلك أنها تشكل للدول الصناعية عنصرًا أساسيًّا فى أمن الطاقة العالمى. ومن المفيد تذكر أن الدور الذى تلعبه روسيا فى تأمين الطاقة لمجموعة الدول الصناعية، يتفق مع جذور نشأة هذه المجموعة التى قامت بعقد أول اجتماعاتها فى فرنسا عام 1975 كرد فعل على ارتفاع أسعار النفط بعد حرب أكتوبر 1973. مع تفكك الاتحاد السوفيتى، بدأت المجموعة الصناعية مراحل جس نبض روسيا التى تنازعتها القوى الشيوعية والليبرالية، ووجهت إليها خلال التسعينيات من القرن العشرين، دعوة للمشاركة فى اللقاءات السياسية (وليس الاقتصادية) للمجموعة، فى خطوة تشجيعية لانتشالها، برئاسة بوريس يلتسين، من الانتكاسة التى بدت وشيكة من عودة الشيوعية، ولدعم الإصلاحات السياسية لنقلها إلى اقتصاد السوق. توقع مراقبو العلاقات الروسية الغربية أن تظل صفة المراقب التى منحت لروسيا فى النصف الأول من التسعينيات فاعلة حتى يثبت الاقتصاد الروسى أهليته، ويرسخ أقدامه فتتحول روسيا بأمان إلى دولة ديمقراطية ورأسمالية. لكنها انتقلت منذ عام 1998 إلى العضوية شبه الكاملة على رغم عدم تحقيقها اقتصادًا رأسماليًّا، ورغم الانتكاسة التى منيت بها فى مساحات الحرية السياسية. ومن ثم فقد تحول اسم المجموعة ومنذ مطلع الألفية الجديدة من سبعة زائد واحد (أى دول المجموعة السبع إضافة إلى روسيا) إلى مجموعة الدول الثمانى. غير أنه بعد ضم روسيا شبه جزيرة القرم فى 2014، تم تعليق عضوية روسيا فى هذه المجموعة ضمن حزمة العقوبات الغربية. الأرقام تتحدث ينتقل بنا الكتاب بعد ذلك إلى الحديث عن شركة «جاز بروم» الروسية التى سمع العالم باسمها عام 1992 باعتبارها ثالث أكبر شركة لإنتاج الغاز فى العالم، ولم يكن يسبقها من حيث الحجم والتأثير سوى اثنتيْن من شركات القطاع الخاص هما: «إكسون موبيل» و«جنرال إلكتريك». بضغطة زر فى المبنى الإدارى للشركة فى موسكو، يمكن للرئيس التنفيذى الجالس فى غرفة التحكم أن يصيب بالتجمد دولا أوروبية بأسرها وهو ما حدث بالفعل عدة مرات. تقف شركة جاز بروم، أو الابنة المدللة للرئيس بوتين، نموذجًا لشركة رأسمالية عملاقة عابرة للقارات والقوميات، بإنتاجها الذى يقترب من 20% من إجمالى الإنتاج العالمى للغاز. وتضخ جاز بروم فى الموازنة الروسية ما بين 25 40% من مجمل عائدات القطاعات الاقتصادية الروسية، ويعمل فيها نحو 330 ألف شخص. وتعتمد الدول الأوروبية بشكل بالغ على الطاقة من روسيا وبنسبة لا تقل فى متوسطها عن 30 %، وكان من المتوقع قبل الحرب على أوكرانيا فى 2022 أن يرتفع اعتماد أوروبا على الغاز الروسى بنسبة 70% بحلول عام 2030. وتعد ألمانيا فى مقدمة الدول التى تعتمد على الغاز الروسى بنسبة 32% من إجمالى استهلاكها من الطاقة، بينما تستهلك بولندا 65% من الغاز من مصادر روسية، فضلًا عن عشر دول فى شرق أوروبا ووسطها تعتمد بنحو 90 95% على الغاز الروسى من خلال سيطرة روسيا على ما يقرب من 154 ألف كيلومتر من أنابيب الغاز فى القارة الأوروبية. هذه الأرقام تفسر ردود الأفعال المتوقعة من حلف شمال الأطلسى «الناتو» تجاه التهديدات المحتملة للغاز الروسى، وبصفة خاصة بعد تكرار أزمة إيقاف موسكو تصدير الغاز إلى أوكرانيا ووسط أوروبا منذ يناير 2006، ثم قيامها بغزو الجزء الشرقى من أوكرانيا فى 2022 بعد أن ضمت القرم فى 2014. وقد حدث ما هو أكثر من مجرد الاستعداد؛ إذ قام الناتو فى رد فعله على عقاب روسيا بضم كل من فنلندا والسويد إلى عضويته، وذلك فى أعقاب الغزو الروسى للأراضى الأوكرانية فى فبراير 2022. التخلص من حيتان الاقتصاد يعود تاريخ شركة «جاز بروم» إلى تلك الفترة التى شهدت الاكتشافات الضخمة فى حقول الغاز فى سيبيريا والأورال فى سبعينيات القرن العشرين؛ وهو ما أدى إلى تدعيم القدرات التصديرية للاتحاد السوفيتى من خامات الغاز. ومع انهيار الشيوعية وتحول روسيا إلى اقتصاد السوق، عبر سلسلة من الصدمات الموجعة، تعرضت الشركة للخصخصة وعهد برئاستها إلى السياسى الشهير فيكتور تشيرنوميردين الذى تولى رئاسة الوزراء بين 1992 و1998. فى تلك الفترة، رُمى القائمون بعمليات التخصيص الواسعة التى شهدتها روسيا بتهم النهب والاستيلاء على المال العام. ولم تكن شركة جاز بروم بعيدة عن هذا الصخب؛ الأمر الذى كوَّن طبقة من حيتان الاقتصاد الروسى وأدى إلى تفشى نهج الفساد. ولإنقاذ الموقف حرص الكرملين على تعيين رؤساء ومديرى القطاعات فى شركة «جاز بروم» من أكثر المقربين والموالين، واحتفظت موسكو بنسبة 51 فى المائة من أسهم هذه الشركة التى تشرف على أكبر حقول الغاز الطبيعى فى العالم. ويذهب الأمريكيون إلى أن «جاز بروم» تحقق أحلاما تتجاوز ما كان يفكر فيه القياصرة فى الماضى، وما كان يحلم به زعماء الاتحاد السوفيتى. وتزداد قوة الشركة من خلال القرين المقابل الذى يتحكم فى أمن الطاقة وهو شركة «روس نفط». سباق الصدارة فى انتاج الطاقة يدرك بوتين أن كلًّا من «جاز بروم» و«روس نفط» تراكمان كل سنة مزيدا من الثروات ومزيدا من النفوذ والتأثير على مجريات السياسة فى العالم، لا سيما منذ عام 2007 حين أصبحت روسيا أكبر منتج للنفط فى العالم، ولم تغادر هذا الموقع إلا إلى المركز الثانى أو الثالث، على نحو ما صارت وفق إحصاءات 2020 من احتلال المركز الثالث بعد الولاياتالمتحدة والسعودية. وتنتج روسيا اليوم ما يزيد على 10 ملايين برميل يوميًّا. وفى قطاع الغاز، تقدمت روسيا لتصبح ثانى أكبر منتج فى العالم بعد الولاياتالمتحدة بإنتاج يتجاوز 22 تريليون قدم مكعب سنويًّا. وأخذا فى الاعتبار ما لديها من احتياطى يقدر بنحو 1700 تريليون قدم مكعب؛ فإن هذا يعنى أن لديها ما يكفى لتظل على قيم الإنتاج الحالية لمدة 75 سنة على الأقل. ومنذ أحداث عام 2014 التى قامت فيها موسكو بضم القرم، تعرضت روسيا لعقوبات من الولاياتالمتحدة وأوروبا شملت حظرا على حصول روسيا على التقنيات الغربية وإيقاف الاستثمارات الأمريكية فى قطاع النفط الروسى، وتسبب ذلك فى توقف وصول تقنيات التنقيب فى المياه العميقة وغيرها من الوسائل المتقدمة. ومنذ إبريل 2020، استغلت روسيا حالة الركود فى استهلاك الطاقة بسبب وباء كوفيد 19، وبدأت فى التنسيق مع مجموعة أوبك فيما عرف باتفاق «أوبك +» لتنظيم ضخ البترول والحفاظ على أسعار مربحة للمنتجين. وتسيطر الحكومة الروسية على 80 % من إجمالى إنتاج النفط والغاز عبر أربع شركات رئيسية هى: «روس نفط» و«جاز بروم» و«لوك أويل» و«تات نفط». وذلك بعد أن وجه بوتين ضربة قاضية للقطاع الخاص والأجنبى كان أبرزها تأميم شركة «يوكوس» الخاصة التى كانت أكبر شركات النفط فى البلاد، حين تم اعتقال رئيسها ميخائيل خودوركوفسكى فى أكتوبر 2003 بتهمة التهرب من الضرائب، فتمت تصفية الشركة لصالح الكرملين. خنق غرب أوروبا أول تجربة عرفتها «روسيا بوتين» لاستخدام أنابيب الغاز كسلاح فى الصراع مع الغرب جاء فى شتاء 2006، وفى شهر يناير، وخلال أوج البرودة القارسة، عندما أوقف الكرملين تدفق الغاز إلى أوكرانيا؛ وهو ما قلل بدوره من تدفقه إلى دول غرب أوروبا. بررت جاز بروم، خفض التدفق إلى كل من أوكرانياوجورجيا ومولدوفا؛ لأن هذه الدول الثلاث لم تدفع لروسيا نفس الأسعار الأوروبية، على الرغم أن روسيا كانت تسمح لها من قبل بالحصول على أسعار متدنية مقارنة بأسواق أوروبا الغربية؛ وذلك بهدف أن تبقى الدول الثلاث تراعى مصالح موسكو وأمنها القومى. وقد اتضح أن السبب الحقيقى هو السياسة وليس الأسعار؛ لأن روسيا استمرت فى ضخ الغاز إلى كل من بيلاروسيا وأرمينيا بأسعار أقل من السوق الأوروبية تقديرا للعلاقات الإيجابية معهما. ويعد هذا مثالا حديثا على استخدام روسيا للغاز كسلاح سياسى أكثر منه ورقة اقتصادية. كانت حادثة عام 2006 جرس إنذار كبيرا للأوروبيين الذين صاروا يدركون أنهم سيكونون عرضة فى المستقبل لتهديد روسى بشأن إمدادات الغاز ووقوعها فعليًّا تحت رحمة جاز بروم. يسمح الموقع الجغرافى لأوكرانيا بأن تلعب دور الممر فى التجارة الخارجية لروسيا. إذ تمثل أوكرانيا محطة عبور مهمة للسلع الروسية إلى السوق الأوربية؛ حيث تستفيد أوكرانيا جغرافيًّا من العجز الذى تعيشه الموانئ الروسية على بحر البلطيق والبحر الأسود. وتصدر روسيا نحو 40% من سلعها عبر أوكرانيا، بل إن معظم الغاز الذى تستهلكه أوروبا من روسيا يمر عبر الأراضى الأوكرانية من خلال الخط المعروف بخط دروچبا (الصداقة). خلال السنوات الماضية بدأت روسيا فى ممارسة ما صار يعرف بالهيمنة الروسية على أمن الطاقة فى أوروبا. وسرعان ما وصف الإعلام الغربى ارتهان العواصم الأوروبية للغاز الروسى بمصطلحات الحرب الباردة على شاكلة «حرب الهيمنة« و«حرب أنابيب الغاز» ومعركة روسيا من أجل «تركيع أوروباى. وفى مطلع 2006 وبعد أن أوقفت روسيا ضخ الغاز عن أوكرانيا بحجة عدم دفع «كييف» السعر المناسب عالميًّا، وبعد أن عاشت أوروبا أزمة طاقة حادة بسبب توقف الغاز المار عبر أوكرانيا، نشبت حرب إعلامية تتهم روسيا بإشعال حرب عالمية باردة عبر إيقاف ضخ الغاز، لكن فى النهاية نجحت موسكو وكييف فى الاتفاق على أن ترفع روسيا سعر بيع الغاز فى مقابل رفع أوكرانيا رسوم مرور أنابيب النفط الروسية عبر أراضيها. وقد شهد عام 2006 ارتفاع سعر الغاز من 55 دولارا لكل ألف م3 إلى 110 دولارات لنفس الوحدة، ثم ارتفع السعر إلى 160 دولارًا للألف م3. وفى يناير 2009 قفز السعر إلى 400 دولار للألف م3؛ وهو ما قدم لروسيا ثروة هائلة استثمرتها فى غزو القرم فى 2014 وتحمل العقوبات الاقتصادية الغربية اللاحقة. ومن خلال استخدام سلاح الغاز سعت موسكو إلى تخفيف الوزن الجيوسياسى لأوكرانيا إن لم يكن خنقها وذلك من خلال حرمانها من عائدات مرور الغاز والنفط الروسى والتربح من تجارة الترانزيت عبر أراضيها، ومن أجل ذلك مضت بكل قوة فمدت خطين يطوقان أوكرانيا من أجل تجاوزها؛ أحد الخطين مزدوج عبر بحر البلطيق يسمى «السيل الشمالى» أو «نورد ستريم» (1 و2)، والآخر عبر البحر الأسود ويسمى «السيل الجنوبى» (1و2) والذى يحمل مسميات أخرى عديدة مثل «الخط التركى»، ويمر بالبحر الأسود إلى تركيا ومنها إلى أوروبا من خلال شعبتين: تتجه الأولى شمالا عبر بلغاريا وصربيا وصولا إلى النمسا، وتتجه الثانية غربا عبر بلغاريا واليونان وصولا إلى إيطاليا. والهدف هو تطويق أوكرانيا وإبطال فاعلية شبكة أنابيب «دروچبا» المارة عبر أراضيها. وفى مجمل الأمر يمكن القول إن الكرملين قد نجح فى تحويل ملف الغاز إلى ورقة ضغط جيوسياسية فى القارة الأوروبية، وتجاوز مرحلة الاستعانة بالغاز فى إعادة ميلاد الدولة الروسية على المستوى الاقتصادى. البرتقالى والورود الملونة يعيد الدكتور عاطف معتمد جذور الأزمة التى نعيشها اليوم وتحمل نذر حرب عالمية ثالثة، وفقا لرؤيته، إلى عام 2004 مع «الثورة البرتقالية» فى أوكرانيا التى جاءت فى أعقاب «ثورة الورود» فى جورجيا 2003، وهى أساليب تغيير الحكم إلى النموذج الديمقراطى المدعوم من الغرب والولاياتالمتحدة. وترتب على الثورة البرتقالية خلع الرئيس الموالى لروسيا فيكتور يانوكوفيتش وفوز الرئيس الموالى للغرب فيكتور يوشينكو، وهو ما اعتبرته موسكو عدوانا على مجال نفوذها الإقليمى. استمر مسلسل انسلاخ أوكرانيا عن الفضاء الروسى والانضمام للفضاء الأمريكى وحلف الناتو لدرجة خلقت المبررات والذرائع لفلاديمير بوتين للقيام بخطوته التالية فى 2022 بغزو الأقاليم الشرقية من أوكرانيا وضمها إلى الدولة الروسية. وفى المحصلة، وفق الكتاب الذى نستعرض جوانب منه، ترى موسكو أن اندفاعها إلى أوكرانيا لم يكن اختياريًّا ولا وليد اللحظة، بل إنها حاولت تفادى تلك الحرب، غير أن ما حدث كان تراكميًّا أشبه بنظرية الألواح التكتونية، حيث تتحرك الألواح باستمرار فى مواقعها بقشرة الأرض، لكن التحرك غير ملموس وبطىء ويقاس بعدة ملليمترات فى السنة، حتى إننا ننام ونصحو وتمر عشرات السنين دون أن نلحظ شيئا من الطاقة الحركية دائمة الحدوث. ثم فجأة يقع زلزال أو انفجار بركانى بعد وصول هذه الألواح إلى مرحلة التصادم الحتمى، وهو ما حدث فى أوكرانيا.