أن تجد نفسك محشورا فى «خناقة» فتنسحب فجأة من المعمعة كى «تأخذ اسكتشات» وترسم تقاطيع الأجسام المتشابكة، تعبيرات الوجوه المختلفة، خطوط الفك العريضة، والأيدى الضخمة.. هذا ما يفعله أحيانا مجدى الشافعى، صاحب «مترو»، أول «رواية مصورة» مصرية، عندما يخشى أن تفوته فرصة التقاط لحظة نادرة. أحيانا أخرى، يجلس فى مقهى بالغورية ويختلس النظر إلى رواده العواجيز وينهمك فى رسم التقاطيع والتجاعيد؛ أغلب الأوقات تجده جالسا فى مقهاه المفضل فى وسط البلد، مكان يحبه لأنه ليس معروفا من المثقّفين. هناك يلتقى أصدقاءه من رسامى الكوميكس. يجلسون وسط «الصنايعية والنوبيين»، فى حالة يقظة دائمة. قد يتحوّل أى تعبير من الجرسون، أية إيماءة من المعلم، أية شتيمة من الزبون، إلى تفصيلة صغيرة فى كادر من كادرات «النوڤل» القادمة. «الكوميكس فن شعبى، المفروض يطلع من الشارع، من الناس، من حكاياتهم»، يقول مجدى المتخرج فى كلية الصيدلة، الذى عمل عشر سنوات كمندوب تسويق فى شركة أدوية. تحكى «مترو» قصة شاب عادى: «المهندس شهاب» ليس «سوبر مان» ولا «بات مان»، هو مواطن يشتبك مثل غيره من المواطنين مع واقع مرير أرداه عاطلا عن العمل: هدد البنك بالحجز على شركته فيقرّر السطو عليه ويجد نفسه فى عالم المدينة السفلى، عالم البيزنس والجريمة، ويواجه البلطجية دفاعا عن صديقته النشطة فى حركة «كفاية». قبل أن يبدأ الكتابة والرسم، أخذ مجدى «اسكتشات» وصورا للأماكن التى تدور فيها الأحداث، محطات المترو، الشوارع الخلفية، مكاتب البيزنس؛ أصغى جيدا إلى الأصوات، صوت المترو وهو يدخل المحطة: «كلاتشش»، صوت المترو بين محطتين، «تشك، تشك، تشك، تشك»، صوت التليفون فى الكابينة «ترررررررررررن، صوت رنة الموبايل «زووووووو»؛ راقب تصرّفات الشخصيات التى أراد أن يرسمها، علاقتها بعضها بالبعض، ردود أفعالها، والأهم من كل هذا، لغتها. «مترو» تستخدم تعبيرات الشارع وشخصياتها تتحدث كما فى «الحياة الحقيقية». «صباح الخير يا برنس. أنا قلت برضه هو الباشمهندس «شهاب» بس اللى يعرف يخلى التليفونات يرن»، يقول لشهاب صديقه رافعا سماعة التليفون فى كابينة محطة المترو، مشيرا إلى معرفة «المهندس شهاب» بشبكة تليفونات المحطة. لكل شخصية فى «مترو» لغتها، للشباب «إيفيهاتهم» المتجددة و«الصايعة»، لرجال البيزنس تعبيراتهم السمجة المعهودة، لبلطجية الأمن لغتهم العنيفة، لماسحى الأحذية كلماتهم العتيقة البالية. شخصيات «مترو» تسخر وتصرخ وتشتم بلغتها اليومية. لابد من «دفعة تمرّد» لتأليف الكومكس. تمرّد على تابوهات تجعل من غير اللائق إدخال «لغة الشوارع» و«الألفاظ السوقية» فى متن العمل الفنى. تمرّد على الأشكال السائدة أيضا. «معظم مجلات الكوميكس فى مصر موجهّة للأطفال»، يقول محمد شناوى، الذى فاز مؤخرا بجائزة المواهب الشابة فى مهرجان «أنجولام» للكوميكس فى فرنسا. كل فنانى الكوميكس يتذكرون تراثا عربيا عريقا فى هذا المجال، من مجلة «سمير»، ورسومات نبيل تاج و«تنابلة السلطان» لحجازى إلى إصدارات أحدث مثل مجلة «ماجد». يعمل شناوى كجرافيك ديزانير. نشر قصصه الأولى فى مجلة «علاء الدين». تحكى قصته المصورة الفائزة فى «أنجوليم» عن شاب أفريقى موسيقى يعيش فى جزيرة منعزلة، تأتى سفينة من بلد غنى وينزل منها رجل سمج طماع يسجله وهو «يطبل» ثم يعود إلى السفينة فتضج بموسيقاه لكنها ترفض أن تأخذه على متنها. «هى قصة عن سيطرة ثقافة الدول الكبرى على ثقافات الدول الصغرى.» يقول شناوى: الكومكس فى نظره «وسيلة فيها حرية شوية» تسمح بالتعبير عن أشياء وأفكار كثيرة، «بحيث تفهمها الناس». التمرد على سوبر مان أحيانا التمرد على «سوبر هيرو» الطفولة هو ما دفع بالرسامين إلى تأليف كوميكس للكبار تدور حول «أبطال عاديين». «فيه أطفال ما كانوش يحبوا السوبر هيرو، فلما كبروا، عملوا كوميكس مختلفة، مستقلة، بعيد عن «السوبر هيرو»، وخلوا المواطن العادى هو البطل». هكذا يحكى مخلوف عن نشأة الكوميكس للكبار فى دول الغرب. إلى جانب عمله فى الكاريكاتير فى جريدة «الدستور» ثم «المصرى اليوم» مخلوف على وشك الانتهاء من أول رواية مصورة له وسيرسلها قريبا إلى دار نشر أعلنت مؤخرا إنشاء سلسلة كوميكس للكبار. فى مقهى وجاليرى «كونست» فى شارع شريف، أحد الأماكن الأخرى التى يلتقى فيها فنانو الكوميكس فى وسط البلد، يستعيد مخلوف مطالعات طفولته، يتذكّر ولعه ب«هيرجى»، صاحب «تان تان» الشهير، و«جوسينى» صاحب «أستيركس وأوبليكس» الذى رسم شخصية «إزنوجود» و«له ألبومات أيضا عن الفراعنة». يتساءل مخلوف عن عدم بروز «سوبر هيرو» مصرى. تراوده فكرة تخيّل شخصية خارقة على غرار شخصية «بات مان»، لكن نابعة من عمق الثقافة المصرية. أسماء أبطاله «أيمن العادى» و«صبحى مزيكا». فى إحدى مغامراته العادية جدا يمشى «أيمن العادى» فى الشارع يغنى «مليون جنيه فى الخزنة ومن فرنسا بدلة ومن إيطاليا جزمة»، فتستوقفه الشرطة: «خد ياض، معاك بطاقة ؟».. ثم تسحبه يد شرطى ضخمة إلى داخل «البوكس».. وينتهى به الحال فى القسم حيث يُستجوب عن مصدر هذه الأموال التى كان يناجى بها نفسه! ولا يصغى أحد إلى قوله إنها كانت كلمات أغنية لفرقة MTM لا غير. «غصبا عنه الواحد بيلاقى نفسه يكتب فى السياسة»، يقول مخلوف. ما حدث ل«أيمن العادى» قد يحدث لأى شاب اليوم، وقد يحدث لرسام الكوميكس نفسه. الحياة اليومية لأبطال عاديين: هذا ما يخرج الكوميكس من دائرة التأثر بباتمان وسوبرمان ومغامراتهم الخارقة للعادة. اليوميات فى شكل كوميكس هى التيمة التى اختارت العمل عليها ورشة انعقدت فى الأسبوعيين الماضيين فى معهد جوته، تحت إشراف مجدى الشافعى والفنانة الألمانية إيزابيل كرايتس. جمعت الورشة ما يقرب من 15 فنان كوميكس لم ينشر أى واحد منهم «نوڤل» كاملة بعد. ألف الرسامون يوميات على مدار أسبوعين؛ لم يدونوا بالضرورة أحداثا وقعت أثناء الورشة، التى تخللتها زيارات ميدانية إلى أماكن مختلفة من القاهرة، من الحسين إلى عزبة الهجانة، حيث قابلوا أطفال الشوارع. «رسام الكوميكس لا يستسلم للمنظر العام بسهولة»، يقول مجدى الشافعى، ويضيف: «عملنا يفرض علينا الاختلاط بجميع أنواع البشر». قد يدونون يوميات قديمة، يوميات طلاب، رسامى كاريكاتير، مواطنين عاديين فى مدينة عنكبوتية مجنونة. الحياة اليومية مادة خصبة للرسم. «أنا ما بأحكى غير عن حياتى اليومية، وين رحت، وين اتعشيت»، يقول فنان الكوميكس اللبنانى مازن كرباج (انظر البروفايل). يتحول أى حدث صغير قد يبدو عاديا أو شديد الشخصية أو حتى مبتذلا إلى جزء من «يوميات مصورة»، سرعان ما تنتقل من الشخصى إلى العام والسياسى عندما يظهر يحدث شىء استثنائى فى حياة الفنان. لا يتخيل قصصا ولا شخصيات، ولا حتى «عادية». لا يستخدم اسكتشات، يرسم مباشرة. رسوماته مستوحاة من حياته اليومية الخاصة. عندما تتلبد سماء بيروت بغيوم الحرب، يرسم نفسه منهمكا فى الرسم على ضوء شمعة، أو منتظرا موجة القصف القادمة، أو مرهقا أثناء ليال الأرق والقلق الطويلة. اشتباكه مع الحياة هو الذى ينتج فنه. أجيال الكوميكس الصاعدة «الكومكس يحتاج إلى تأمل» يقول مجدى الشافعى. «لازم أتساءل: إيه موقفى من الحياة؟». هذا ما أراد أن يفعله كمشرف على ورشة معهد جوته. سبق له أن شارك فى العديد من الورش، منها ورشة فى الجامعة الأمريكية فى القاهرة أشرف عليها جولو، الفنان الفرنسى الذى حوّل رواية الكاتب المصرى ألبير قصيرى «شحاذون ونبلاء» إلى كوميكس. قرر جولو (1948)، الذى يعيش فى مصر منذ أكثر من 15 عاما، بين «القرنة» فى الأقصر والسكاكينى فى القاهرة، أن يرسم مذكراته فى العاصمة المصرية، إذ صدر له مؤخرا كتاب «ليلاتى الواحدة والألف فى القاهرة». يرى فى «ورش الكوميكس» أداة جيدة لتشجيع الفنانين الشباب. «لاحظت اهتمام الشباب فى مصر بهذا الفن منذ عدة سنوات. البعض تعلم الفرنسية ليتمكن من قراءة الكوميكس الفرنسى.» «يتميز المكان فى الكوميكس الفرنسى بروح ورائحة خاصة»، يقول مجدى وهو يتذكر صدمته عندما شاهد لأول مرة كوميكس للفنان الأمريكى «كرومب» وولعه بالمجلات الفرنسية «شارلى إبدو» و«هارا كيرى». مع ظهور الإنترنت أصبح من الممكن الاطلاع على مجلات كوميكس «أون لاين» من العالم كله، مثل مجلة «سمندل» اللبنانية. «هناك أجيال جديدة تتذوق الكوميكس أكثر»، يقول مجدى الشافعى، بنفس نبرة جولو المتفائلة، ويضيف: «قد تطرح الورشة أسماء جديدة». وجوها جديدة ونوافذ جديدة مرشحة للنشر. سيطبع نتاج الورشة فى كتاب ستنشره «دار ميريت»، كما انعقد خلال المعرض لقاء بين الفنانين المشتركين فيه ودور النشر المهتمة بالكوميكس، ومنها دار العين والشروق وميريت. عبر خلال اللقاء الفنانون عن توقعاتهم فيما يخص علاقة الفنان بالناشر وروت إيزابيل كرايتس تجربتها فى هذا المجال. «أن تكون فنان كوميكس» لا يعنى فقط أن تتمرد على الفنون السائدة وعلى قواعد اجتماعية تمنعك من أن تجعل لغة الشارع لغة فنك. أن تكون فنان كوميكس يعنى أيضا أن تتمرد على قواعد النشر التقليدية، أو على الأقل أن تدرك «أهمية الاستقلالية» على حد تعبير مجدى الشافعى، وأن تحافظ عليها، مثلما فعل بعض كبار رسامى الكوميكس الذين لا يدينون بشهرتهم لدور النشر الكبيرة بل لقدرتهم على مواكبة روح التمرد والتعبير عنها فى عالمهم الفنى المستقل.