تقدم »أخبار الأدب« في هذا العدد بانوراما شاملة لمدينة دمياط، راصدة تاريخ المدينة الثقافي والأجيال الابداعية المتعاقبة والجماعات الأدبية التي تميزت بها، وأخرجت لنا أسماء معروفة أسهمت في اثراء الواقع الثقافي المصري. وارتباطا بهذا الملف ننشر في ساحة الابداع نصوصا متنوعة للجيل الجديد في دمياط. هذا العدد نواة الملفات أخري ستنشر تباعا عن الحركة الثقافية في مختلف أقاليم مصر. 1 في تلك المدينة المطلة علي المتوسط يوجد شارع اسمه عبدالرحمن. توجد علي ضفتيه مئات الورش التي تقدم يوميا مئات الأطقم من حجرات السفرة والنوم والصالون. حرفة الموبليات هي الأكثر انتشارا ورواجا ، وفكرة تواصل الأجيال تلقي صداها في تلك المنطقة التي تجد فيها " أسطوات " من كافة الأعمار ، ونهر الشارع نفسه مرصوصة علي جوانبه نماذج من الكراسي والمقاعد التي لم ينته تشطيبها ، وأكسسوارات خشبية بعضها مذهب والبعض الآخر في انتظار لمسة أخيرة من يد المذهباتي أو الأسترجي. 2 في حارة البركة يوجد بيت عائلة قديم للسيد النماس واحد من رواد قصيدة التفعيلة في دمياط ، ومن هنا بدأت ملامح التغيير في الذائقة الثقافية لشبان جدد سوف يتمردون علي القديم ليطرحوا مفاهيمهم الأدبية ونصوصهم الجديدة. سيد النماس الذي ترجم للوركا ولصمويل بيكيت لم يكن وحده الذي مهد الساحة للفوران الجديد بل كان معه أنيس البياع الذي نشر دراساته الأولي في " الآداب " البيروتية ، وإن كانت أصوله ترجع لقرية " كفر البطيخ " إلا أن تأثيره اتسع ليشمل المحافظة كلها. فقد كان صديقا لعبدالرحمن الأبنودي الذي جاء المدينة في ليلة شتوية خلال حرب الاستنزاف ( 1969) ليغني علي عود ابراهيم رجب " يا بيوت السويس " ، وكان في أقصي المدينة محل حلاقة أمامه مقهي العزوني يجلس عليه أعضاء الفرقة المسرحية ، أما النبوي سلامة الذي أطلق عليه في ذلك الوقت لقب " شيخ أدباء دمياط " فقد بلغ الإذاعة المصرية ، وأذيعت له أغنيات من أشهرها ما غناه عبداللطيف التلباني " خد الجميل يا قصب" وما غنته ثلاث المرح " صباح الخير " وما قدمه عن الفلكلور الشعبي بتلحين وفيق بيصار ومنه أغنيات " منديلي يا أما " و" الشاي علي النار " و" ردي الباب عيب يا مديحة " ومديحة في الأصل هي عروسة الفنان عبدالعزيز حبة في الزمن الغابر ، وغيرها. وبالقرب من كوبري دمياط المعدني الموصل لمنطقة السنانية كان معرض موبليا " الأيدي الحرة " وقد ورثه مصطفي الأسمر عن أبيه الحاج أحمد الأسمر ، وخلف لوح الزجاج للباب الموارب تكون جلسة مجموعة من جماعة الرواد الأدبية : كامل الدابي ، السيد الغواب ، محمد أبوسعدة ، محمد عبدالخالق ، وهو مركز آخر لكتاب اشتغلوا بمهن مختلفة وتواجدوا في أماكن يمكنهم من خلالها التثاقف والتعارف وتداول شئون الكتابة. 3 في " الجامعة الشعبية " يكون أول ظهور لقاص طليعي هو يوسف القط ، ولفران كتب القصة قادما من قرية " شرباص " هو حسين البلتاجي ، ويقاربهم من حيث إنتاجه طاهر السقا ، المدرس الابتدائي المستنير الذي جمع بين القص والفن التشكيلي ، وهو ما سوف يفعله بعد سنوات عبدالعزيز حبة شاعر العامية الذي اتجه إلي نحت التماثيل لبعض الشخصيات المنقرضة كالسقا ومبيض النحاس والبهلوان والباشكاتب ، وهو ما يوميء إلي تضافر فني الكتابة والفن التشكيلي منذ البدايات الأولي ، وعلي نحو مثير للاهتمام. يتحول الاسم إلي " قصر الثقافة " في بيت يواجه مبني السنترال ، ويكون لجماعة الرواد اصطدام بالسلطة السياسية وقتها خاصة بعد عزل عبدالرحمن عرنسة من وظيفته فينتخبه الرواد رئيسا للجماعة لتتوالي الاصطدامات بالسلطة ، وتعلن " الرواد " عن مسابقتين أدبيتين برعاية عدد من الكتاب المرموقين علي رأسهم الدكتورة بنت الشاطيء ، ويفوز أدباء من شتي أنحاء الجمهورية وتصدر بعض المطبوعات وتحدث هجمة علي الجماعة التي كانت قد تحولت لجمعية مشهرة يكون من نتيجتها الدمج القسري مع جمعية قصور الثقافة الوليدة ، ويتوقف كثيرون عن الكتابة . مثل هذه التحولات لم تقف في وجه الموجات الجديدة التي بدأت في التعبير عن نفسها من خلال أجيال رأت أن تعبر عن نفسها من خلال أنساق وتجمعات متقاربة الفكر والرؤي والإبداعات . 4 أبرز تلك الجماعات هي " جماعة 73 " التي حاولت أن تقدم خطابها الأدبي الجديد في مطبوعة بالاستنسل لكنها تعرضت للمصادرة ، وضمت الجماعة : محسن يونس ، محمد علوش ، مصطفي العايدي ، سمير الفيل ، السيد النعناع " من مهجري بورسعيد، وربما كانت تلك أول جماعة مستقلة تتعرض لضربة أمنية أجهضت مشروعها الجنيني الذي تسرب في كتابات أعضائها فيما بعد . وقريب من ذلك جمعية " ضفاف " الأدبية التي تشكلت من مجموعة أدباء شبان ، رأت أن تمارس نشاطها بعيدا عن المؤسسات الرسمية ونجحت في ذلك إلي حد كبير ( تقريبا سنة 1989 ) وانفتحت علي تجارب كتاب كبار مثل سيد حجاب ، ومن قياداتها حلمي ياسين ، صلاح مصباح ، عزيز فيالة ، أشرف أمين ، كريمة عبدالخالق ، والحسيني عبدالعال ، وغيرهم. كانت جمعية طموحة ما لبثت أن تفككت في ظروف غير مواتية وأغلقت أبوابها لتضرب الحركة الأدبية المستقلة في الصميم. 5 محاولة الاستقلال عبر " جمعية الرواد " وجماعة "73" و" ضفاف " ، و" شروق" في الزرقا ، أعدها ترمومترا يقيس مدي التمرد الذي اتصف به الكتاب في تعاملهم مع المؤسسة ، ولكننا سنعود للفني فنشير إلي كتاب كان لهم تأثير كبير في التحولات النوعية في مبني النص نفسه ، وفي قدرة الكاتب علي استخلاص مشروعه الجمالي من قبضة المكرور والعادي والمألوف. سأبدأ بشعر العامية لأنه كان أكثر الأجناس الأدبية استيعابا لكتابه وتعبيرا عن المتغيرات العميقة في الحركة السياسية التي صنعت جدلها مع الواقع. بدأ الزجالون مشوارهم وتبعهم شعراء عامية حاولوا تقديم نصوصهم الجديدة فكان محروس الصياد ، ومحمد العتر ، ومحمد النبوي سلامة ، وعلي ظلام ، وعبدالعزيز حبة ،وصابر زاهر الذي كان يصنع العود كآلة موسيقية ، وحدث أن جاء شاب أزهري هو السيد الجنيدي فأحدث انقلابا جذريا في مفهوم بنية القصيدة العامية ، وتبعه عدد من الشعراء المجيدين منهم محمد علوش ، و مجدي الحلاد ، ومحمد الزكي ، ومحمد غندور ، وسميرالفيل ، وهؤلاء عبروا عن مفهوم اللغة بنسقها الشعبي في نصوص مختلفة في قيمتها ومعيارها . ومن بعدهم هناك كتاب جاءوا بأنساق شعرية تخص تجربتهم واجتهاداتهم مثل سيد الموجي والسيد عامر وأحمد راضي وأحمد الشربيني وجمال البلتاجي ، وشاكر المغربي ، وأيمن عباس ، وحاتم يحيي طه ، وطه شطا ، وأضرابهم . أما شعر الفصحي فقد كان وراءه تراث عريض ، وتولي زمام المبادأة شعراء من طراز السيد النماس وأنيس البياع ، وقد لحق بهم أو جايلهم وشكل أنساقا جمالية مترعة بالجمال شعراء تميزوا بالغزارة والتنوع والارتباط بقضايا الوطن المصيرية منهم د. عيد صالح ، ومصطفي العايدي ، ود. عزة بدر ، وبندرة في الكتابات مثل د. هاني أبازين ، د. حسام أبوصير ، وقد أتي جيل مختلف في أدواته بعد فترة انقطاع نذكر من بينه: عفت بركات ، وسامح الحسيني عمر ، أشرف الخضري ، محمد العزوني ، محمد سالم مشتي ، د. احمد بلبولة والذي يدرس الأدب في كوريا الجنوبية الآن ، أحمد عفيفي ، عبدالناصر ابوالنور . ويذكر هنا شعراء من كفرسعد منهم : صلاح بدران ، أحمد فوزي ، الراحل مصطفي المحلاوي ، محمد محيي الدين ، أحمد ابوالنصر، الراحل محمود بدران وغيرهم. القصة في دمياط كانت تيار مستمر من المبدعين. أشرنا للأسمر والقط والبلتاجي والسقا ، وبعد فترة صمت جاء جيل محسن يونس ، وزينب مصطفي عبده ، أحمد عمارة ، محمد الزكي ، ومحمد الشربيني قبل اتجاهه للمسرح ، وهؤلاء شكلوا تيارا للسرد له فنياته العالية . وقد توالت كتابات عدد من الساردين المتميزين نذكر منهم: حلمي ياسين ، ومحمد شمخ ، وفكري داود ، ومحمد مختار ، وأشرف الخريبي ، وعلي مسافة تقارب العشر سنوات يأتي السادات طه وعبدالوهاب الشربيني وعابد المصري ، وجمال سعد محمد الذي ركز جهده فيما بعد في مجال النقد ، وتلاهم جيل مختلف ما زال يبحث عن أدواته من بينه هشام عبدالصمد ، و الدسوقي البدحي ، وانجي البرش ، ونوران رفعت ، ووائل عبدالخالق ، وأخيرا، رشا عبادة قادمة من عوالم التدوين وكذلك احمد خميس واميرة ابراهيم وهدي قنديل. في بداية الستينات وجد " المسرح العمالي " وعرفت أسماء مخرجين مثل أحمد جبر وحلمي سراج ، وظهر كتاب نصوص مسرحية شباب من أهمهم يسري الجندي الذي هضم شكسبير تماما ونهل من التراث الشعبي في تحليلاته المختلفة من وخيال ظل وأراجوز ، فيما اتجه محمد أبوالعلا السلاموني لمساءلة التاريخ أما ثالثهم بشير الديك فقد اتجه للسينما كسيناريست ، وكان مما لفت النظر إليه فيلم أخرجه عاطف الطيب هو " سواق الأتوبيس" وقصته مستوحاة من تاريخ زميل مناضل من اليسار المصري ، (هو جمعة سلطان) وهناك من نفس الجيل المسرحي والناقد عبدالغني داود والمخرج الطليعي عبدالستار الخضري (بابيون) . هؤلاء مسرحيون أحدثوا نقلة حقيقية في مسيرة المسرح المصري ، ونالوا جوائز الدولة التشجيعية تقديرا لاجتهاداتهم ، وسرعان ما لحق بعهم كتاب ينتمون لمدارس مسرحية متنوعة منهم محمد محمود الشربيني ، ومجدي الجلاد ، وعبدالمنعم عبدالحميد ، وعماد الديب ، وعبدالعزيزاسماعيل . في مسرح الطفل ساهم باجادة ناصر العزبي وحصد جائزة الدولة التشجيعية ، وفي مجال الرسوم المتحركة عمرو سمير عاطف ، وتحققت مقولة ملخصها أن دمياط تصدر الموبليات وكتاب الدراما المسرحية. 6 هذا ليس رصدا دقيقا لكتاب عاشوا في محافظة دمياط ، وكانت لهم عطاءاتهم ، ولكنها محاولة لرسم بانوراما أدبية لا تزعم الإلمام بمشهد متحرك عبر كافة تفاصيله ، هي فقط تقترب من رسم تخطيط هيكلي لبعض الطاقات الإبداعية التي تركت بصمة حقيقية في مجال الاهتمام بالنص وتجاوز سقفه الجمالي في كافة حقوله . وربما كان السؤال الملح في هذا المقال هو : كيف تجلت صورة دمياط في نصوص كتابها المرموقين؟ وهل أمكن لكتابها الاقتراب الحثيث من رسم ملامح خاصة بها . تسجل تحولاتها وتقترب من خصوصيتها؟ سنقدم هنا محاولة خجولة للاقتراب من مجرد محاولة لرسم " اسكتش مبدئي " يجتهد كي يلامس فضاءات النصوص التي أمكنها إنجاز شيء ما : محدد ، ومتفرد ، وكاشف. لا يغيب عن نظرنا كتابات مصطفي الأسمر الأولي التي صور فيها عوالم الصيد في عزبة البرج برؤية ابن المدينة مع استخلاص سمات الدمياطي القح كموظف مشغول بلقمة عيشه وتمسكه بمشروعه الفردي في أضابير الحكومة كما في مجموعة " الحظ " و" المألوف والمحاولة " وغيرها. أما محسن يونس فقد بدأ رحلته السردية برصد تحولات القرية " السيالة " بسرد متماسك ، أصيل ، لفت إليه الأنظار مبكرا منذ مجموعته الأولي " الأمثال " وحتي موجاته الأخيرة " سيرة جزيرة تدعي ديامو" . محسن يونس مشغول بالمكان ولديه حس أصيل في القبض علي أبطاله في احتكاكهم بالمكان مع تبادل مستمر لمعرفة بما بين الواقع والنص . أحمد زغلول الشيطي القاص المجيد في " عرائس من ورق " وشتاء داخلي " أمكنه أن يحدد ملامح المكان في انغلاقه علي أبطال موسوسين ، قدريين ، فيهم الحذر الذي نلمسه في الشخصية الدمياطية التي تعزف عن أي تورط مع واقعها ، وهو ما تردد بذبذبات أخري في رواية ستنال قدر كبير من الشهرة هي " ورود سامة لصقر" . أما حلمي ياسين فقد كانت الحارة الدمياطية القريبة من النهر حيث مجال عمل والده المراكبي هو الحاضرة دوما بنسق معرفي يهتم بالقلب الموار بالحياة في مجتمع يشهد تحولات جذرية وما ينفك يكشف شيئا فشيئا عن اختلال يتبدي مع النظرة الفاحصة له خلال مجموعتي " أولاد البحر .. أولاد نوح " ، و" ذلك البيت" . وغير بعيد عن هذا العطاء سرد دافيء ومتمهل وفيه اقتصاد شديد تردد في قصص محمد مختار الذي يعالج عوالم الطفولة في مدينة دمياط بروح تجمع بين الحلم والتمرد في مجموعته الوحيدة " قلب جمار عزيزة" . وإن كانت دمياط كمدينة حاضرة في قلب المشهد السردي فهناك القرية التي دخلتها الحرفة ولكنها لم تهجر الزراعة وهو ما تحقق مع سارد مجتهد هو فكري داود في مجموعات قصصية وأخري روائية مثل " الحاجز البشري " و" صغير في شبك الغنم " فالقرية هنا هي ظهير للمدينة وبينهما جدل علي مستويين إحداهما جمالي والآخر اجتماعي . وفي نفس الإطار يمكننا أن نتفهم كتابات محمد شمخ الذي نعثر لديه علي الشخصية الدمياطية الحذرة ، والمتوجسة ، والمطاردة من حيث لا تدري بأقدام غليظة تدهس أمنها حتي أن شارع النقراشي وهو أحد الشوارع المتفرعة من " سوق الحسبة " الشارع الأشهر تدور فيه أحداث نصوص له فينطبع المكان علي سلوك ناسه. ولعل القاص سادات طه في " أشياء ثقيلة " وهي مجموعة نشرها قبل الذهاب للقاهرة تعالج عوالم القرية التي لها سمات ذات خصوصية ليست علي المشاع مطلقا . ومن قبل كان حسين البلتاجي قد كتب عن عمال الأفران والمحضرين والعاطلين في مجموعته " المتوحشون " . لقد جاء البلتاجي المدينة بعد أن تسربت قريته " شرباص " في ثنايا نصوصه فكان دائم الحنين إليها . ويقترب أشرف الخريبي من هذا المنحي مع سرود تجريدية في مجموعته " ورد الشتاء " و" التداعيات" . البلتاجي والخريبي ينتميان لنفس القرية مع اختلاف في الروح والمعالجة فإن كان البلتاجي متورط في الواقع بكل تشوهاته فأبطال الخريبي يبحثون دائما عما يجمل دواخلهم الخربة ، المهترئة. البساطة لها كتابها والمدينة واضحة ومشرقة ومنهزمة في جدل خلاق ينبهنا لوجود موهوب ، يصر آلامه في منديل سردي عبر معاناة لا تنتهي ، أليس هذا ما يبسطه عبدالوهاب الشربيني في " إنسان عادي " حين يهدي نصوصه " إلي العاديين مثلي" فيضع بإهدائه عتبة تفضي بنا لمدينة منكسرة ولاشك أن ومضات الشربيني الكاشفة تعبر عن الضعف الإنساني في أجلي صورة. التشوهات التي شهدتها دمياط في الحرفة والمعمار وكل شئونها الصغيرة وجدت مجالا في مجموعة عوض عبدالرازق " الجنين في شهره الأول " لقد نشرها بمقدمة للدكتور مدحت الجيار وشد الرحال ثانية إلي دول الخليج بعد أن رسم ملامح قريته " الحوراني " التي ينتمي إليها صلاح عبدالسيد . وكلاهما تختلف تجربته عن الآخر رغم أنهما ينتميان لجنس أدبي واحد هو القصة القصيرة . يمكن أن نذكر هنا القاص محمد بركة الذي التحق بالصحافة فحقق فيها تميزا مثل الشاعر أحمد الشهاوي . الأول ينتمي جغرافيا لكفر سعد والثاني لكفر المياسرة وعلي ذكر الكفور فسيكون من الوفاء ذكر الشاعر الكلاسيكي الرصين القطب خيرت السالوس الذي لم ينضم لأي تجمع أدبي وهو شقيق القاص عبدالله خيرت مدير تحرير " إبداع" في عهد الدكتور عبدالقادر القط . ولقبه حمله شاعر شعبي رائد هو عبد القادر السالوس الذي أصدر في سنوات صعود الناصرية ديوانه " فلاح وأقول الزجل" . 7 أشرنا فيما سبق لرواية " زهور سامة لصقر " وهي تتفاعل مع واقع عياني ، يتحرك أمامنا لكن كاتبة روائية من مدينة دمياط هي نجوي شعبان استخدمت المادة التاريخية في روايتها " نوة الكرم" لتبحث عن تلك المدينة في فترة سابقة ، وبالتحديد في القرن السادس عشر، حينما كانت دمياط مدينة كوزموبوليتانية تتعدد فيها الجنسيات والديانات، وذات ثغرين: نهري وبحري. وكما نعلم فأبطال الرواية أناس عاديون من الشعب باختلاف مشاربهم وطبقاتهم، حيث لم تلجأ الكاتبة الي التاريخ الرسمي، غير أنها التزمت بمنطق التاريخ، كاشفة تفاعل أهل دمياط مع تغير أنماط الحكم في العصور المختلفة . نجوي شعبان التي ولدت بدمياط وتستقر حاليا في القاهرة تجعل من المكان تكئة لحكاياتها ، فيما أمكن لعبدالفتاح الجمل في روايته" محب" أن يوظف فيها كل الحكايات القديمة للبحث والتنقيب عن قرية ملاصقة للمدينة جامعا أساطيرها وأحداثها نازعا القداسة عن التاريخ اليومي لشخصيات نعرفها ونلتقي بها فكان المدن تبث شفرتها في ملامح وسلوك أبطالها. إن هذا الحفر والدأب رصدناه كذلك في روايات محسن يونس كما في " حكايات عن الألفة " وفي تعديداته في " بيت الخلفة " حين ينزع لتقصي سير الأشخاص العاديين الذين تتخلق أساطيرهم في قرية تبسط مساكنها علي بحيرة المنزلة ، وهناك تكون السيطرة للنسوة الماكرات بعد ذهاب رجالهم للصيد. ويشيد فكري داود معمارا سرديا في رصده لقرية السوالم عبر غياب عنها في قري ونجوع جبلية بأقصي الجنوب الشرقي من شبه الجزيرة العربية. إنه يستجلب أماكن مناوئة ليحضر الأصل والجوهر . وإن كان طاهر السقا في روايته المخطوطة " رحلة الألف ميل " قد عبر عن معاناة جيل الستينات مع واقع متشظ فواحد من رفاق قلمه هو مصطفي الأسمر قد ثبت لحظة الانحدار الحضاري في روايته " جديد الجديد في حكاية زيد وعبيد " . إن طريقة الكاتب في التعامل مع الوقائع التاريخية مع نبرة السخرية وأسلوب الكلام يخص ما اسميه " مكر المدن الحرفية " حيث يواري الكلام المبطن الخفي وراء غلالة من الحديث المنطوق الذي يقصد لذاته. وهو ما يميز كل سرديات الأسمر الذي يعادي السلطة ويعريها بمكر فني حميد مع وجود مساحة للترميز راحت تتصاعد شيئا فشيئا منذ " لقاء السلطان" . 8 لكل كاتب تصوره المبدئي للجمالي ، وتضفيره للمستويات الشعبية من الحكي والأمثال وقد كان محمد الزكي واحدا من الشعراء الذين تعرفوا علي المدينة وعرفوا بها عبر نصوص فائقة القيمة تتضمن توظيف المثل الشعبي فيما استحضر محروس الصياد قريته " السنانية " ليعانق مساحات الزرقة ، وقبل أن تغزو البيوتات الأسمنية منطقة الشيخ سديد . كانت قصائده هي عين المكان. ويبدو أن سيد الجنيدي الذي لم يصدر ديوانا حتي الآن هو الأكثر جرأة في بسط ملامح قريته " شط الملح" عبر ديوانه المخطوط المسمي بالاسم ذاته . هؤلاء شعراء عامية مشغولون بتلمس واقعهم وفي نصوصهم مساحة لتأمل الواقع في تقلباته وقد كان سيد الغواب هو الصوت الساخر المعبر عن الشعب في رباعياته رغم كسورها الوزنية ، وفي مجال القصيدة الفصحي التي تتلمس المكان نجد عفت بركات تقترب في دواوينها من مفردات مدينة" عزبة البرج" صاحبة اكبر أسطول صيد مصري وربما كانت الرومانسية التي تؤطر نصوصها من ترديدات البحر في عناقه مع النيل . أدب الطفل كتابه قليلون ، وسأتوقف أمام حامد ابويوسف الذي شغل مساحة معتبرة في برامج الأطفال كاتبا وملحنا خلال الستينات قبل أن يعود لبلده حرصا علي لقمة العيش ، وممن كتبوا في هذا المجال محمد ابراهيم أبوسعدة ، وهالة المغلاوي ثم ناصر العزبي الذي اهتم بمسرح الطفل وابلي فيه بلاء حسنا مثلما حصل عمرو سمير عاطف علي التشجيعية لكتابته مسلسل »بكار« وغيره من اعمال تعالج قضايا تربوية بخفة ظل ووعي. لن نبتعد كثيرا حين نعرج علي حركة الفنون التشكيلية التي لم يؤرخ لها جيدا وسأتذكر رموز قليلة وستغيب رموز أخري يمكن تدركها في مسح تاريخي مبني علي أسس علمية يتولاه محبون لهذا الفن. يكفي أن أشير لرائد كبير هو الفنان محمد رزق عاشق النحاس فهو ابن دمياط ، ومن الجيل التالي الفنان شادي النشوقاتي الذي مثل مصر في بينالي فينيسيا الدولي 1999، والفنان الدكتور بدر الدين عوض المدرس بقسم الجرافيك بكلية الفنون الجميلة ، والفنان يوسف صلي الذي نبغ في مجال الطباعة بالباتيك ، وهناك أسماء أخري منها الفنان احمد رومية والفنان محمد عزو ، وبالطبع شاعرالعامية المجتهد عبدالعزيز حبة ، وغيرهم. وفي صيف كل عام يهل الفنان حسن غنيم ليقيم معرضه بالقرب من مصب النيل في المتوسط وعلي بعد أمتار من اللسان الصخري في رأس البر. 9 في سنوات الخمسينيات كان يأتي الشاعر طاهر أبوفاشا فيجلس علي مقهي " شاهين " المواجه لبيت جدي الحاج توفيق ، ويتحلق حوله المثقفون وتكون جلسات السهر والفرفشة والقفشات الساخرة. مثل هذه الجلسة كان يؤمها شعراء وكتاب منهم سعد الدين عبدالرازق وعبدالوهاب شبانة وزكريا الحزاوي صاحب أقدم جريدة إقليمية وهي " أخبار دمياط " وكان الشيخ سيد مكاوي يحضر أحيانا بعوده ليدندن ألحانا من وضع صديقه مؤلف حلقات " ألف ليلة وليلة " واذكر من أغنياته الرائعة التي لحنها بعد جلسة سلطنة " علي دمياط هيلا هالله" . في منتصف الستينيات كان مقهي البسفور ومن قبله كازينو أنسطاسي مكانا لتجمع الكتاب الجدد ، وهناك كان سيد النماس يقوم بدور مهم بالتعريف بالإصدارات الجديدة ، وكان المترجم أحمد حسان الذي يعمل أمينا للمكتبة العامة يعّرف المجموعة علي تراجمه للشاعر الأسباني لوركا ، وكان يأتي محمد أبوالعلا السلاموني كي يستعد لتشكيل فريق نادي المسرح أما محسن يونس فكان أكثر كتاب السرد غزارة في إنتاجه وما زلت اذكر له قصة " غرفة مطلة علي أرض خراب" ، وكان بشير الديك يستعد لشد الرحال إلي القاهرة وممن كانوا يحضرون تلك الجلسة القاص الحسيني عبدالعال والشاعر محمد الهريجي والقاص محمد فايد والقاص أميز زهران والقاص يوسف القط في أحيان قليلة وشاعر المنصورة الراحل محمد يوسف ، وأغلبهم توقف عن الكتابة . بعد سنوات طويلة سيكون بيت عائلة محمد الزكي في حي الأعصر مكانا لقراءة النصوص والتشاجر أحيانا ومقاومة الصمت خلال سنوات السبعينيات المريرة . من الأدباء الذين كانت تقرأ نصوصهم هناك : أحمد عبدالرازق أبوالعلا ، محمد علوش ، عبدالمنعم عبدالحميد ، محسن يونس ، عز الدين صميدة ، سمير الفيل ، مصطفي العايدي ، وغيرهم. كانت قرية " السيالة " مكانا للزائرين من كل أنحاء مصر ففيها أعمام محسن يونس وحضر مرات الشاعر محمد سيف والشاعر حسن عقل والمترجم أحمد حسان . كان السمك يصطاد ويطهي فوق الزوارق التي تجوب بحيرة المنزلة. هناك ألقيت الأشعار ، وقرأت القصص ، وعوملت النصوص بكل جدية ممكنة. بعد ثلاثين سنة لا يجد الأدباء الشباب غير مقهي شعبي يضمهم بعد ندوة الإثنين ، وهناك تكون جلسة تناول الشاي بعد التهام سندويتشات الفول والطعمية ، وتتم قراءة النصوص الجديدة والتعقيب عليها بمعايير نقدية صارمة ، ويشهد هذه الجلسة التي ما زالت قائمة وان تذبذت صعودا وهبوطا كل من : القاص أحمد منصور ، والشاعر سيف بدوي ، والقاص حلمي ياسين ، والشاعر سامح الحسيني عمر ، والشاعر عادل طاهر زين الدين ، والروائي فكري داود ، والقاص الدسوقي البدحي ، والناقد جمال سعد محمد وأحيانا الناقد الراحل مصطفي كامل سعد ، والشاعر ضاحي عبدالسلام ، من المنصورة القاص الدكتور عبدالمنعم الباز ، ومرة حضر الروائي الدكتور محمد ابراهيم طه ومرة ثانية أدباء ديرب نجم ، والغريب أن الجلسة علي تواضعها تشهد نقاشا في غاية الجدية والقوة ، وهو ما يغيب أحيانا عن الجلسة الرسمية . اما نادي الادب فيحضره جيل جديد من الكتاب منهم أحمد خميس ورشا عبادة ودعاء البطراوي ومحمد حمدي ، وحنان سعد ، ومحمد موسي ، ويعقد الإثنين الأخير ندوة نقدية بالتعاون مع فرع اتحاد الكتاب المنصورة يديرها في الغالب القاص فرج مجاهد، ومن نقادها : أحمد رشاد حسانين ، وعبده الريس ، وابراهيم حمزة ، صبري قنديل ، وابراهيم جاد الله ، وآخرين . وتستمر الكتابات وتظل هواجس المبدعين وقلقهم الروحي العميق ومسراتهم القليلة هي عنوان تجمعهم علي امتداد سنوات العمر .