يقول الله تعالى في كتابه العزيز "لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب"، من هذا المنطلق تستعرض الشروق مجموعة قصصية عن سير أنبياء الله، خلال شهر رمضان الكريم، بهدف استخلاص الموعظة والحكمة. نستعرض في الحلقة الثامنة والعشرين من هذه السلسلة، قصة نبي الله المسيح عيسى عليه السلام، من أنبياء بني إسرائيل، وذلك من خلال كتاب "البداية والنهاية" عن قصص الأنبياء، لمؤلفه الإمام الحافظ أبي الفدا إسماعيل ابن كثير القرشي، المتوفى عام 774 هجريا. * نسب النبي عيسى عليه السلام ينتسب النبي عيسى عليه السلام إلى أهل أمه مريم العذراء، لأنه ولد بمعجزة إلهية بدون أب، وهو نبي الله من بني إسرائيل، وقد أنزل الله عليه كتابا سماويا هو الإنجيل، وهو عيسى ابن مريم ابنة عمران، من نسل النبى سليمان عليه السلام، ملك اليهود في بيت المقدس قبل خرابه على يد الملك نبوخذ نصر. كان عمران والد السيدة مريم حبر أحبار -أى شيخ مشايخ- بنى إسرائيل، وكان رجلًا صالحًا، وكانت زوجته صالحة طيبة طاهرة، ووفيّة مطيعة له ولربها، فخرج نتاج هذا الزواج المبارك مريم العذراء البتول عليها السلام، لكن أبيها مات بالمرض وهي لا تزال جنينا فى بطن أمها، فكفلها النبي زكريا عليه السلام، وكانت تعيش في قرية صفورية الفلسطينية فلما كفلها النبي اتخذ لها محرابا للتعبد في بيت المقدس فكانت تجتهد في العبادة، حتى إذا مر عليها عليه السلام في المحراب كان يجد عندها طعاما، فيتعجب ويسألها من أين لك هذا يا مريم، فترد عليه بأن ذلك من عند الله الذي يهب من يشاء بغير حساب. * بشارة وميلاد النبي عيسى عليه السلام أرسل الله تعالى الى مريم جبريل عليه السلام، ليبشرها بأن الله اصطفاها بين سائر نساء العالمين ليهب لها ولدا بدون أب، وبشرها بأن يكون نبيا شريفا، فقالت له كيف يكون لها ولد وهي لم تتزوج ولم تأت الفاحشة، فقال لها إن الله يفعل مايريد، يقول الله في كتابه العزيز: { وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ * يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ * ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ * إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ * وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلا وَمِنَ الصَّالِحِينَ * قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ * وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ * وَرَسُولا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ}. وحملت مريم البتول ولما بدا عليها الحمل وشاع أمرها، لم يدخل على بيت أحد من الهم والحزن مثلما دخل على بيت أهل زكريا الذي كفلها، واتهمها زنادقة بأن يوسف ابن خالها الذي كان يتعبد معها في المسجد هو أبو الطفل. قضت مريم أوقاتا عصيبة حتى توارت عن الناس إلى جذع نخلة في بيت لحم، فجاءها المخاض وولدت سيدنا عيسى، فحزنت مريم من قول الناس عليها بالباطل، وتمنت الموت، لكن جبريل عليه السلام جاء لها وطمأنها بألا تخاف وأن الله تعالى وهب لها نهر تشرب منه وأن تهز جزع النخل يتساقط عليها رطبا من التمر، وأن تصوم عن الكلام إذا رأت أي أنسان لأنه لن يجدي، يقول الله تعالى في سورة مريم: { فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانا قَصِيّا * فَأَجَاءهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيا مَنْسِيّا * فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيّا * وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبا جَنِيّا * فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْما فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيّا}. * عيسى ينطق في المهد ولما فاقت مريم البتول من مخاضها في بيت لحم بالقدس، ذهبت إلى قومها تحمل عيسى عليه السلام، فاتهموها بالفحشاء وخاضوا في عرضها، واتهموا فيها النبي الله الكريم زكريا عليه السلام، الذي كان في مقام والدها وكفلها بعد وفاة أبيها، وأرادوا قتله فهرب منهم وانشقت له شجرة حتى يختبئ بداخلها فأمسك الشيطان بطرف ردائه فظهر لهم فنشروها وهو بداخلها، فمات نبي الله مظلوما، لذا ذكر الله تعالى في كتابه العزيز أن بني إسرائيل كانوا قتله أنبياء، ولما ذهب القوم الى مريم يسألونها عن نسب رضيعها لم تنطق بكلمة وأشارت الى سيدنا عيسى في مهدده حتى يأخذوا منه الجواب، فقالوا لها كيف تريدينا أن نكلم رضيعا، فأنطق الله تعالى النبي عيسى ليقول لهم إنه رسول الله اليهم. يقول الله تعالى في سورة مريم: { فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئا فَرِيّا * يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيّا * فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيّا * قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيّا * وَجَعَلَنِي مُبَارَكا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيّا * وَبَرّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارا شَقِيّا * وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَموتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّا * ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ * مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ * وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ * فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ }. * مريم تهرع لمصر وتعيش فيها لحماية عيسى من القتل يقول الإنجيل إنه لما ولدت مريم النبي عيسى وذاع صيته لحديثه في مهده، أراد ملك اليهود أنذاك قتله خوفا على ملكه بسبب نبوء عيسى عليه السلام، فشدت مريم رحالها إلى مصر لتحتمي بها، وهكذا نجا المسيح من الموت وشرفت مصر بإيوائه وأمه مريم العذراء عليهما السلام، على أرضها لمدة 12 عاما، حتى شب عيسى وظهرت عليه الكرامات، وقد مرت العائلة المقدسة على أماكن كثيرة في مصر بينها المطرية، وعين شمس، حيث كانت توجد في هذا المكان شجرة استظلوا بها من حر الشمس، وتعرف حتى اليوم باسم "شجرة مريم"، بالنبع ماء وشرب منه، وغسلت فيه العذراء ملابسه، حتى وصلت العائلة الى دير درنكة في جبل أسيوط حيث توجد مغارة قديمة منحوتة في الجبل أقاما بها بما يمثل اخر محطات العائلة فى رحلتها لمصر. * رسالة النبي عيسى عليه السلام ومعجزاته عاد عيسى عليه السلام وأمه مريم من مصر الى بيت المقدس وهو ابن 12 عاما، ثم قضى الله أن ينزل عليه الإنجيل ليصبح من الرسل أولى العزم، الذين واجهوا مشقة نشر دعوة التوحيد بالله في قوم بني إسرائيل، وحتى يؤمنوا به وهبه الله معجزات عظام فكان يحي الموتى بأمر الله، ويخلق الطير من الطين بأمر الله، ويشفي المرضى بينهم الأكمه والأبرص. يقول الله تعالى في سورة آل عمران: { وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ * وَرَسُولا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * وَمُصَدِّقا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ }. * كفر وعناد بني إسرائيل وتعاونهم على قتل النبي عيسى مكث عيسى يدعو قومه في بيت المقدس وظهرت كراماته، فكان يبريء الأكمه والأبرص ويخلق الطير بأمر الله، لكن هذه المعجزات لم تردهم عن كفرهم وشركهم بالله، وكان لنبي الله فئة صالحة أنصارا وعونا له، فلما أحس النبي عيسى منهم الكفر استنصر "الحواريين" لنصرة الدعوة، وأمرهم بصيام ثلاثين يوما، فلما أتموها سألوا النبي أن يطلب من الله أن ينزل عليهم مائدة من السماء، فخشى عيسى ألا يشكروا الله بعدها، فأكدوا له، فأنزل الله مائدته من السماء عليها سمك وخبر وفاكهة، وكانوا أكثر من ألفا فأكلوا وشبعوا، وأمرهم الله ورسوله ألا يدخروا منها شيئا لغد، فأبوا وعصوا أمرا الله فمسخهم الله كهيئة القردة والخنازير. يقول الله في سورة البقرة: { قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِّنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِّأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِّنكَ ۖ وَارْزُقْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (114) قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ ۖ فَمَن يَكْفُرْ بَعْدُ مِنكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَّا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِّنَ الْعَالَمِينَ}. وهم بنو إسرائيل بقتل النبي عيسى، فأوشوا عليه عند بعض الملوك، فعزموا على قتله وصلبه، لكن الله تعالى أنقذه من بين أيديهم، وألقى على أحد رجال بني إسرائيل شبهه فظنوا أنه عيسى عليه السلام، فقتلوا الرجل وصلبوه، بينما رفع الله تعالى رسوله عيسى، سالما لم يمسسه سوء إلى السماء. يقول الله تعالى { إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَىٰ إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ ۖ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ * فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ * وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ ۗ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * ذَٰلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ * إِنَّ مَثَلَ عِيسَىٰ عِندَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ ۖ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ * الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلَا تَكُن مِّنَ الْمُمْتَرِينَ * فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنفُسَنَا وَأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ}.