العناوين أعلى الصفحة (على سطرين): الذين يعرفون ترامب، ويعرفون الأبعاد «الحقيقية» لقراراته بشأن القدس والمستوطنات واللاجئين ويهودية الدولة يدركون جيدا أن الشيطان يكمن فى التفاصيل ** لماذا يتصور البعض أن تساؤلا مشروعا وواجبا وإنسانيا حول مصير «إنسان» اختفى، يعنى بالضرورة وقوفك سياسيا فى هذا المربع أو ذاك؟! على جانبى الصفحة: الحقيقة الأولى المؤكدة: أن هذا «كاتبٌ» كان يحمل قلما لا قنبلة. ** والحقيقة الثانية المؤكدة: أنه لا يوجد دولة قوية بلا صحافة حرة المقدمة: على وقع «صفقات» لا يتورع بعض أطرافها أن تكون على «الدماء» يتركنا عام صاخب «ومحبط»، وكنت قد استننت أن أخصص هذه السطور كل عام لحصاد ما اجتهدت به طوال العام «حبرا فى هذه الصفحة، أو رأيا لا نملك غيره فى هذه المناسبة أو تلك». أضعه، كما اعتدت أمام القارئ الكريم، الذى أحسبه كما أقول كل مرة صاحب الحق الأول والأخير فى أن يراجع، ويحاسب.. ومن ثم يقرر «إذا ما كان لحبر أقلامنا ثمة فائدة». اعتادت الصحف، واعتدنا نحن معشر الصحفيين والكتاب أن نخصص صفحات ما بين عامين لحصاد عام مضى، وتوقعات عام جديد. وللتذكير بأكثر الشخصيات التى أثرت فى مجريات الأحداث. كل الصحف العالمية تقريبا وضعت على قوائمها «للشخصيات الأكثر تأثيرا»، بالإضافة إلى جمال خاشقجى؛ الكاتب الذى أحدث مقتله «غيلة» ما لم تحدثه كتاباته من تأثير، الرؤساء: الأمريكى؛ دونالد ترامب، والروسى؛ فلاديمير بوتين، والتركى؛ رجب طيب أردوغان. ورغم أننى كنت قد خصصت مقالا لكل منهم؛ «سمسارا، وقيصرا، وسلطانا» إلا أن اعتبارات المساحة قد لا تسمح لى (إذا أذن لى القارئ الكريم) بغير التذكير بترامب (وصفقته)، وخاشقجى (ودراما قصته)، والصحيفة التى ذكرتنا (وإن نسى البعض، أو تناسى) كيف هى الصحافة فى عالم اليوم. *** «السمسار..» لولا «واقعة خاشقجى»، التى أربكت الحلفاء والتحالفات، ما كان هذا العام الدموى قد انتهى دون أن يعلن دونالد ترامب عن صفقته لحل الصراع العربى الإسرائيلى، أو قل لإعلان الانتصار «النهائى» للمشروع الصهيونى؛ الذى نعرف. صحيحٌ أننا لا نملك، حتى اللحظة نسخة «رسمية» لبنود «الصفقة». ولكننا نعرف (بحكم ما بات واضحا ومعلنا) أن بنودها الرئيسية لن تخرج عن أن تكون «تقنينا» أو بالأحرى «شرعنة» لما حرص الطرفان (نتنياهو ترامب) على أن يجعلا منه «أمرا واقعا»، استباقا لأى صفقة / تسوية «نهائية». 1 ففيما نعرف أن دونالد ترامب اتخذ قراره «الاستباقى» قبل نحو العام بجعل القدس «الموحدة» عاصمة رسمية وأبدية لإسرائيل معتبرا أن ذلك would open the door to a deal 2 وفيما نعرف أن دونالد ترامب اتخذ قراره «الاستباقى» بمحاولة القضاء على وكالة الأممالمتحدة لإغاثة وتشغيل لاجئى فلسطين UNRWA فى محاولة لشطب قضية اللاجئين (أو عودتهم) من بنود التسوية النهائية. 3 وفيما نعرف أن الإسرائيليين اتخذوا قرارهم «الاستباقى» بإقرار قانون «يهودية الدولة» الذى يجعل من تلك الأرض «وطنا قوميا لليهود دون غيرهم» مما يشطب واقعيا قضية «عودة اللاجئين»، والتى من المفترض أنها كانت إحدى قضايا التفاوض حول «الحل النهائى» حسب ما تقضى به تفاهمات أوسلو. 4 وفيما نعرف أن شبكة المستوطنات (المستعمرات) الإسرائيلية فى الأراضى الفلسطينية (المحتلة) توحشت وتمددت سرطانيا بشكل يحول واقعيا (واستباقا لأى حل نهائى) دون قيام دولة فلسطينية «قابلة للحياة»، وهو التعبير الدبلوماسى الأثير الذى سمعناه مائة مرة على مدى ربع قرن من عمر أوسلو. 5 وفيما نعرف أن إخلاء تلك المستوطنات ليس موضوعا للتفاوض (حسب كل التصريحات الإسرائيلية والأمريكية ذات الصلة). فبأى دولة فلسطينية إذن يعدنا السيد ترامب. 6 وفيما نعرف أيضا أن إسرائيل هى الدولة الوحيدة فى العالم التى «لا حدود رسمية لها» حتى تاريخه. فى فبراير 2017 طلب رئيس الوزراء الإسرائيلى من الولاياتالمتحدة رسميا أن تعترف «بالسيادة الإسرائيلية» على مرتفعات الجولان «السورية»، وفى ديسمبر من العام نفسه لم يتردد حزب الأغلبية الإسرائيلى «الليكود» فى التصويت رسميا على قرار بضم الضفة الغربية«المحتلة». 7 ثم أننا نعرف أن إسرائيل التى تطالب «بترتيبات أمنية» تضمن لها الأمن، (كما يقولون) أو «السيادة الأمنية»، كما يقول الواقع هى الدولة الوحيدة فى المنطقة التى تملك «سلاحا نوويا». …………….. هل ترك ترامب ونتنياهو شيئا للتفاوض عليه، بعد كل ما جرى على الأرض، وكل ما اتخذ من قرارات بشأن القدس، والمستوطنات، واللاجئين، والحدود؟ عن أى «صفقة» إذن يتحدث ترامب؟ الشيطان يكمن فى التفاصيل. وبالضرورة فى «الورقات الثلاث» التى يلعب بها السماسرة. (من مقال: «الشيطان يكمن فى التفاصيل» 30 سبتمبر 2018). *** ليس معنى هذا بحال أننا نبحث عن حرب أو توتر إقليمى، تغيب فيه طموحات الاستقرار والتنمية والرخاء. ولكننا نعلم: 1 أن لا سلام بلا عدل، (بالضبط كما لا استقرار لوطن بلا عدل). 2 أن لا استقرار مع شيوع الإحساس بالظلم والغبن وضياع الحقوق. 3 أن لا سلام مع عنصرية دينية تجسدها «دولة يهودية نقية» كما يقول المشروع الصهيونى المعلن، حتى ولو كان لدينا من استدرج؛ مفتونا أو مخدرا إلى هذا الفخ «المعلن» بتكريس هويات طائفية تكون أساسا لصراعات المستقبل. باختصار، نحن هنا لا نبحث عن حرب، ولكننا نعلم أن للسلام شروطا إن لم تتحقق فنيران الحرب ستظل تحت الرماد. (من مقال: «هل كانت حقا آخر الحروب؟» 7 أكتوبر 2018). *** بعد أسابيع من صدور كتاب لواحدة من مساعدى ترامب المقربين يصفه بالمعتوه Unhinged صدر كتاب وودوارد حافلا باللقاءات والتسجيلات الموثقة، وكنا قد علمنا أن الصحفى الكبير لم ينجح فى أن يلتقى بالرئيس (رغم عديد المحاولات). فالرئيس لا يحب الصحافة أصلا، فما بالك لو كان الصحفى هو بوب وودوارد الذى سبق له أن أخرج رئيسا من البيت الأبيض. الرئيس خائف. وكيف لا يخاف وأمامه صحفى بقامة بوب وودوارد. لو كان فى عالمنا العربى، ما أضاع «وقته الثمين» مع الصحفى المشاغب. جرة قلم «رئاسية» كانت تكفى لقصف قلم الصحفى، أو وضعه خلف القضبان ليتعلم كيف تكون مخاطبة الرؤساء والملوك. وكيف أن انتقاد الحاكم (وأحيانا حاشيته أو حزبه أو مؤسسته) هو عيب فى «الذات الملكية» المصونة، والمحصنة بحكم القانون، والأعراف البالية، والتخريجات الدينية لفقهاء السلاطين. لا يختلف الترامبيون عن بعضهم البعض فى كرههم للصحافة، أو بالأحرى لبدهية حق الناس فى أن تعرف. فهم إما لا يحبون أن يعرف مواطنوهم ما يفعلون، وإما يعتقدون بأنهم «وحدهم يعرفون» ما فيه خير البلاد والعباد، بحكم «ما يوحى» به إليهم، وبأنهم لا يُسألون عما لا يفعلون. (من مقال: «الصحافة.. والرئيس» 16 سبتمبر 2018). *** الصحفى … لم ينجح الصخبُ المتعمد حول ما لم يتأكد إخفاءَ ما تأكد: هناك إنسان اختفى. ليس فى قفار بادية، ولا محيط متلاطم، بل بعد أن دخل قنصلية بلاده فى مدينة أوروبية إسلامية كبرى فى وضح النهار فى يوم من أيام العقد الثانى من القرن الحادى والعشرين. حيث لا شىء يختفى هكذا، ولا الحقيقة مهما كان ركام البيانات الرسمية.. والأكاذيب. غاب المنطق عن كثير من الجدل الذى بات عقيما (ولا إنسانيا)، وحضرت ألاعيب السياسة؛ تصفية للحسابات، أو بحثا عن صفقات. ولكن وسط كل هذا الضجيج حول ماذا جرى، ومن فعلها. وهى أسئلة مشروعة وضرورية بلا شك. بقيت الحقيقة «المرة» التى لا جدال حولها، والتى أخشى أنها ضاعت وسط كل هذا الصخب: 1 أن هذا «كاتبٌ» كان يحمل قلما لا قنبلة. 2 أن هذا «إنسانٌ» قُتل أو على الأقل اختفى دون أثر. وفى الحقيقتين ما لا يصح «أخلاقيا» أن نتجاهله، مهما كانت حساباتنا أو انحيازاتنا المسبقة. وأحسب أن مما لا يحتاج «البشر» أن نذكرهم به: أن لك أن تتفق أو تختلف مع سياسات هذا النظام أو ذاك، ولك أن تتفق أو تختلف مع آراء هذا الكاتب أو ذاك، ولكنك قطعا، «كإنسان»، لن ترضى بأن يختفى هذا «الإنسان» أو ذاك. …………….. لم ألتقِ الرجل غير مرة واحدة، وإن لم تخنى الذاكرة فأظنها كانت على الساحل الإماراتى للخليج، وقت أن كان الخليج «العربى» واحدا، أو كنا نظن. كان أمام تشاؤمى متفائلا. وبدا أمامى كعادته، يضع ثقته «متفائلا» فى غير محلها. بالضبط، كما فعل حين خطا خطوته الأخيرة «وحيدا» نحو باب قنصلية بلاده فى ذلك اليوم الملبد بالخيانة. «كلهم قتلوك يا جمال»، ثم وقفوا كما فى حكايا شكسبير يتبادلون الاتهامات. كلهم قتلوك؛ بالسلاح، أو بالصمت، أو متاجرة إعلامية بقضيتك، أو بمقايضة دمائك على طاولة صفقات سياسية، أو اقتصادية قذرة. بعض من يعرف يقينا ما جرى لك (بحكم موقعه، أو بحكم المنطق) لم ينطق. والبعض الآخر لم يتردد فى أن يكذب. كلهم خانوك يا جمال، إلا جريدتك تلك (التى تنتمى للأسف لعالم غير عالمنا) والتى تعرف معنى أن يقتل صاحب قلم لا لشىء إلا بسبب آرائه. …………….. ذهب جمال إذن، إلى حيث لا نعرف (حتى الآن على الأقل)، فأين ستذهب قضيته؟ أخشى ألا تستقر فى النهاية فى ساحة العدل «النقية» التى يرجوها المتفائلون. فالبعض يراهن على الوقت والنسيان. والبعض يراهن على «محفظته». وفى هذا العالم الميكيافيلى / الترامبى يحكم النفوذ والمال المعادلة. (من مقال: «عن الإنسان.. الذى اختفى» 14 أكتوبر 2018). *** أزعم أن من قتل جمال (وكل جمال) ليس مجرد فرد أو مجموعة أمنية رسمية (وإن فعلت)، بل قتلته قبل ذلك ثقافة تسمح بذلك. ثقافة «شوفينية أو دينية» مشوهة تسمح بأن يظن من قتل جمال (وكل جمال)، عبر تاريخنا كله أنه إنما يقوم بواجبه لصالح الوطن، أو لرفعة الدين وإعلاء كلمة الله. ثقافة تسمح بأن يظن من يملك القوة؛ سلاحا كان، أو نفوذا، أو تراتبية اجتماعية أو سياسية أن لا تثريب عليه. فهو يعرف أن لا أحد يجرؤ على سؤاله، فمابالك بمساءلة أو محاسبة. من قتل جمال (وكل جمال) هى هذه البطريركية الأبوية، التى كتب عنها هشام شرابى قبل ثلاثين عاما. (1988) فلم نقرأ. هى الثقافة ذاتها. لا اختلاف مسموحا به مع ما يقول به الحاكم (وفقهاؤه). ولا فارق أن يأتى الأمر بالقتل من سلطة مستبدة، أو من فقيه، أو من أمير لجماعة تكفيرية. هى الثقافة ذاتها؛ ثقافة لا تنتمى لهذا العصر، فما بالك بمستقبل يتزينون بلافتاته. ثقافة أخذت من الجاهلية أسوأ ما فيها: «العصبية». وأخذت من الرأسمالية أسوأ ما فيها: أن «المال وحده يحكم». وأخذت من الاشتراكية أسوأ ما فيها: «قمع الستالينية»، ودولة الحاكم الفرد. وأخذت من تاريخنا الإسلامى أسوأ ما فيه: فقه الحاكم المتغلب، و«السمع والطاعة» بلا رقيب ولا معقب. (من مقال: «الثقافة التى قتلت» 28 أكتوبر 2018). *** «… والصحيفة» أين جمال خاشقجى؟ السؤال «المنطقى»، أيا ما كان رأيك فى الرجل، طرحته الواشنطن بوست عشية اختفاء كاتبها (الزائر)، ثم كان أن نجحت فى أن تجعله العنوان الأكبر «المانشيت» فى كل جريدة، والخبر الأول فى كل نشرة أخبار. والسؤال الحاضر فى كل مؤتمر صحفى. لا مفر من الإجابة.. وهكذا كان. وهكذا أثبتت الصحافة الحرة «أنها تستطيع». بدا أن «البوست» قررت أن تخوض المعركة. لتبدأ موجة تسونامى إعلامية كفيلة بكشف كل ما تطمره رمال الصحراء؛ نفيا، أو أكاذيبا، أو صفقات مالية. فعلتها الواشنطن بوست (وإن لم يُقض الأمر بعد) كما فعلتها من قبل عندما أخرجت الرئيس الأمريكى من البيت الأبيض (1974) وأعادت الجيش الأمريكى من فيتنام (1973). يقول لنا تاريخ الصحافة إن الجريدة الأمريكية (التى أصبحت عالمية)، لم تكتسب مصداقيتها ومكانتها تلك إلا بعد هاتين المعركتين مع السلطة: البيت الأبيض، ووزارة الدفاع. هذه صحافة تعرف أن «كشف الحقيقة» هو مهمتها. وأن أداءها لمهمتها بحرية هو لصالح المواطن.. «والوطن». لا يوجد دولة قوية بلا حكم رشيد، ولا يوجد حكم رشيد بلا شفافية ومحاسبة. ولا يوجد شفافية ومحاسبة بلا صحافة حرة، وحرية «حقيقية» للرأى والتعبير. لهذا لا يحب المستبدون (والفاسدون) الصحافة «الحرة». لا غرابة فى الأمر. …………….. فللصحافة سلطة، لا يدركها أولئك الذين اعتادوا عليها «داجنة»، لا تكشف المستور، ولا تنطق بما يغضب أولى الأمر، والنفوذ، والسلطان «أصحاب الذهب والسيف». ولكن لا تنسوا أن عدم إدراك الشىء لا يعنى عدم وجوده. فما أحدثه الزخم الإعلامى الذى ترتب على اختفاء خاشقجى، أثبت ذلك واضحا وجليا. لا مكان فى عالم اليوم لصحافة أنور خوجة، وسعيد الصحاف. ولا لخطباء معاوية وكل خليفة «متمكن». أحمد سعيد نفسه (رحمه الله) أدرك ذلك وأكده لى (بصدق نبيل يُحترم) قبل أن يرحل. رحم الله جمال خاشقجى، الذى أحدث بغيابه «إعلاميا» ما ربما لم يحدثه فى حياته. (من مقالى: «الصحافة.. حين تسأل» 21 أكتوبر 2018 / «الرسالة The Post 4 مارس 2018). *** وبعد.. فأعود لأكرر ما أقوله فى مثل تلك الأيام من كل عام. أن هذا بعض مما كتبت فى عام فائت، أو بالأحرى بعض ما وجد طريقه «ممكنا» للنشر، كما قد لا يغيب عن فطنة القارئ الكريم. صاحب الحق «الوحيد» فى أن يحاسب كاتبه.