محافظ القليوبية يقود حملة مفاجئة لإزالة الإشغالات بمدخل بنها    بعد حادث الوفد القطري.. رئيس مجلس الوزراء ووزير الخارجية القطري يستقبل سفير مصر في الدوحة    وزير خارجية لبنان يوجه بتقديم شكوى عاجلة لمجلس الأمن والأمم المتحدة ضد الاعتداءات الإسرائيلية    النقل: تركيب الكمرات لمسار مترو الإسكندرية بين محطتي طوسون وغبريال    محافظ المنوفية يوجه برفع كفاءة محيط المدارس وتكثيف حملات النظافة    إزالة 20 حالة تعدٍ على أملاك الدولة والأراضي الزراعية ضمن الموجة 27 ب الدقهلية    «لن تتعدى 4 ساعات».. صحف عبرية تكشف جدول زيارة الرئيس الأمريكي لإسرائيل (تفاصيل)    قوات باكستانية تدمر مواقع لطالبان الأفغانية وتسيطر على 19 موقعا حدوديا    تصفيات أوروبا لكأس العالم.. «ديباي» يقود هجوم هولندا في التشكيل الأساسي لمواجهة فنلندا    طقس الاثنين 13 أكتوبر 2025: أجواء خريفية معتدلة وشبورة صباحية ورياح تُلطّف الأجواء    «لحيازتهم المواد المخدرة» السجن المشدد ل5 أشخاص في المنيا    رئيس الوزراء يستقبل خالد العناني المدير العام الجديد ل«اليونسكو»    وكيل صحة الدقهلية يبحث خارطة عمل المرحلة المقبلة مع مديري المستشفيات والإدارات الفنية    وزير الري يشارك في الاحتفال بمرور 50 عامًا على البرنامج الهيدرولوجي الدولي لليونسكو    محمد صبحي يفوز ببرونزية وزن 88 كجم ببطولة العالم لرفع الأثقال البارالمبي بالعاصمة الإدارية    تقرير.. ليفاندوفسكي يغلق بابه أمام اللعب في الدوريات العربية    جاكبو يقود تشكيل منتخب هولندا ضد فنلندا في تصفيات كأس العالم 2026    محمد عبد الجليل: حسام حسن اتغير 180 درجة سلوكيًا وفنيًا.. وهذا ما أخشاه قبل مونديال 2026    دمياط: فصل المياه في بعض المناطق منتصف الليل حتى الثامنة صباحا    القناة 12 العبرية: قوة أمريكية تبدأ العمل الأحد بقاعدة إسرائيلية لمراقبة وقف النار    تأجيل محاكمة 25 متهما بخلية الظاهر    تأجيل إستئناف المتهم الرئيسي ب " تظاهرات الألف مسكن "    الخريف.. موسم الانتقال والحنين بين دفء الشمس وبرودة النسيم    27 مدينة أسترالية تنتفض تضامنا مع فلسطين: اوقفوا تمويل الإبادة    على الصعيد المهنى والعاطفى.. حظك اليوم وتوقعات الأبراج الأحد 12 أكتوبر    مي فاروق: أغنية «باركوا» علامة في كل الأفراح.. ومشاركة زوجي في ألبوم «تاريخي» صدفة    منذ الألفية الثانية قبل الميلاد.. إفلاطون بنار بتركيا يتحدى الجفاف    أوسكار عودة الماموث.. فيلم يخطو نحو الإبهار البصري بقصة إنسانية مؤثرة    20 أكتوبر.. انطلاق جولة «كورال وأوركسترا مصر الوطني» بإقليم القناة وسيناء    رئيس منطقة مطروح الأزهرية يكرم الطالبة هاجر إيهاب فهمي لتفوقها في القرآن والخريدة البهية    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم 12-10-2025 في محافظة الأقصر    هل هناك زكاة علي المقتنيات والمشغولات المطلية بالذهب والفضة؟.. أمينة الفتوى توضح    مصر تدين الهجوم على مركز لإيواء النازحين بمدينة الفاشر السودانية    الخريف موسم الانتقال... وصراع المناعة مع الفيروسات الموسمية    قافلة دعوية برعاية «أوقاف مطروح» تجوب مدارس الحمام لتعزيز الانتماء ومحاربة التنمر والتعصب    ما حكم زيارة مقامات الأنبياء والأولياء والصالحين؟ الإفتاء تفسر    مجانًا.. شاهد أحدث المسلسلات بجودة HD على قناة Star TV التركية 2025 (التردد)    وزير الدفاع يشهد تخريج دفعات جديدة من الكليات العسكرية (صور)    سويلم يلتقى نائب وزير البيئة والزراعة السعودى ضمن فعاليات أسبوع القاهرة الثامن للمياه    "سلامة الغذاء" تنفذ 51 مأمورية رقابية على السلاسل التجارية في أسبوع    محمد صلاح يتفوق على ميسي ورونالدو فى سباق الكرة الذهبية 2026    إصابة 5 فى تصادم سيارة ملاكى وتوك توك وتروسكيل بطريق برج نور أجا بالدقهلية    مستشفيات مطروح تقدم 38 ألف خدمة طبية وتجرى 206 عمليات جراحية خلال أسبوع    "الوطنية للانتخابات" تواصل تلقي طلبات الترشح لانتخابات مجلس النواب 2025 لليوم الخامس    مواعيد مباريات اليوم الأحد 12 أكتوبر 2025.. مباراتان لمنتخب مصر    أسعار طبق البيض اليوم 12-10-2025 في قنا    تنفيذ ورش تدريبية مجانية لدعم الحرف اليدوية للمرأة في الأقصر    الداخلية تضبط أكثر من 106 آلاف مخالفة مرورية في 24 ساعة    محافظ أسوان يتابع استكمال تشغيل المراكز الطبية ضمن منظومة التأمين الصحي الشامل    وزير الصحة يشهد حفل توزيع جائزة «فيركو» للصحة العامة في ألمانيا    دعوى قضائية تطالب ببطلان عمومية «الأهلى»    محمود ياسين من نادى المسرح فى بورسعيد إلى ذاكرة الوطن    اللواء طيار سمير عزيز: حملنا حلم النصر لمصر وتفوقنا على أوهام قوة إسرائيل الجوية    مدارس التكنولوجيا تعيد رسم خريطة التعليم الفنى    مصر تتسلم رئاسة المنظمة الدولية للتقييس "أيزو" لمدة 3 أعوام بعد فوز مشرف ومستحق    تركيا تكتسح بلغاريا بسداسية مدوية وتواصل التألق في تصفيات كأس العالم الأوروبية    استبعاد معلمي الحصة من حافز ال 1000 جنيه يثير الجدل.. خبير تربوي يحذر من تداعيات القرار    خالد جلال: جون إدوارد ناجح مع الزمالك.. وتقييم فيريرا بعد الدور الأول    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الثقافة التي قتلت
نشر في الشروق الجديد يوم 28 - 10 - 2018

أود أن أشير أولا إلى أنه لا يوجد عربي «حقيقي» كان يتمنى أن تواجه السعودية / العربية (بفعل بعض أبنائها، وبفعل ثقافة تراكمت، فترسخت) ما تواجهه الآن.
كما أود أن أشير مرة أخرى إلى أننا في هذه الجريدة، وعلى الرغم من كل القرائن والشواهد وارتباك البيانات الرسمية، وعلى الرغم من قائمة من الأسئلة «المفتوحة» التي يظل التهرب منها إدانة في حد ذاته، وعلى الرغم مما ذهب إليه فريق التحقيق «المشترك» من أن القتل غدرا وغيلة كان مرتبا ومخططا، حرصنا، مهنيا على ألا نستبق تحقيقات نعرف بأنها قد لا تكتمل أبدا.
ولكن يبقى على هامش دفتر التحقيق، ما يستحق ربما أن نفكر فيه بهدوء.
من قتل جمال (وكل جمال) ليس مجرد فرد أو مجموعة أمنية رسمية (وإن فعلت)، بل قتلته، وقتلتهم قبل ذلك ثقافة تسمح بذلك
بعض الذين يستنكرون ما يقولون إنه مبالغة في الاهتمام بالواقعة، يتحججون بمقولة إنه «ليس الأول». أتفق معهم. وأضيف: «وليس الأخير». ولكن تمهلوا من فضلكم، فلهذا بالضبط، نهتم بما جرى. لأننا ببساطة نراها واقعة «كاشفة» لواقعنا العربي (وليس السعودي فقط، بالمناسبة)، ولما وجب علينا أن نراه واضحا، وصريحا، إن كنا نريد تغييرا «حقيقيا» لا يسمح بتكراره، وإن كنا نريد خطوة حقيقية «لا دعائية» نحو المستقبل.
ربما كنا بحاجة إلى أن نخرج أولا من «حلبة الملاكمة»؛ هجوما ودفاعا. ونعود إلى الخلف خطوتين، علنا نرى الصورة جلية واضحة، فنحسن الوصف «والتوصيف».
ما أقرت به «البيانات الرسمية»، ولم يعد بالتالي محلا للجدال: أن «مواطنا لا يحمل سلاحا قُتل في حرم قنصلية / ممثلية بلاده، وعلى يد نفر من المسؤولين الرسميين».
أغرقتنا التفاصيل، وصخب العراك، فغفلنا عن ما في الحقيقة التي اتفقت عليها البيانات «الرسمية» من دلالات. أرجوكم اقرأوا العبارة مرتين.
لا علاقة لي هنا بمجريات «تحقيق» جنائي، أو سياسي. بل أحاول القراءة فيما لن يدونه المحققون (السعوديون، أو الأتراك، أو حتى الدوليون) في ملف القضية. فعلى هامش الأوراق التي ستكون في النهاية أمام هيئة المحكمة، إن عقدت محكمة ما أحسب أن علينا أن نتدبره.
هل كان يمكن لمن ارتكب تلك الجريمة / المأزق (ومثلها كثير، وإن اختلفت التفاصيل) أن يفعل لو لم تكن هناك منظومة مجتمعية وثقافية وسياسية تسمح بذلك؟
أحسب أن هذا هو السؤال الرئيس. أو بالأحرى هو السؤال الباقي، بعد أن يهدأ الصخب، مثله مثل كل صخب.
ثقافة تسمح بأن يظن من يملك القوة؛ سلاحا كان، أو نفوذا، أو تراتبية اجتماعية أوسياسية أن لا تثريب عليه. لأنه يعرف أن لا أحد يجرؤ على سؤاله
أزعم أن من قتل جمال (وكل جمال) ليس مجرد فرد أو مجموعة أمنية رسمية (وإن فعلت)، بل قتلته قبل ذلك ثقافة تسمح بذلك.
ثقافة «شوفينية أو دينية» مشوهة تسمح بأن يظن من قتل جمال (وكل جمال)، عبر تاريخنا كله أنه إنما يقوم بواجبه لصالح الوطن، أو لرفعة الدين وإعلاء كلمة الله.
ثقافة تسمح بأن يظن من يملك القوة؛ سلاحا كان، أو نفوذا، أو تراتبية اجتماعية أوسياسية أن لا تثريب عليه. فهو يعرف أن لا أحد يجرؤ على سؤاله، فمابالك بمساءلة أو محاسبة.
ثقافة لا تسمح للمرءوس أن يراجع رؤساءه في هذا الأمر أو ذاك. فأحلامهم أوامر. ولهذا ربما (أكرر: ربما) لم يراجع أي من الذين أوكل إليهم تنفيذ جريمة القنصلية من نقل إليهم الأوامر، كما أن من نقل الأوامر لم يكن ليراجع قطعا من أصدرها. يالها من ثقافة قاتلة.
حكى لى يوما من كان المسؤول الأول عن أحد الأجهزة الأمنية في بلد عربي أن «الرئيس» لم يكن أبدا يقول ما يريد، أو بالأحرى ما علينا فعله مع هذا أو ذاك، بل تكفي إشارة من عينيه، لتجتهد الحاشية (وما أدراك ما يعنيه هذا الاجتهاد) ليس في فهم إشارة الرئيس، بل في «المنافسة في تلبيتها».
أزعم أن من قتل جمال (وكل جمال) ليس مجرد فرد أو مجموعة أمنية رسمية (وإن فعلت)، بل قتلته قبل ذلك «ثقافة» تسمح بذلك.
من قتل جمال (وكل جمال) هي هذه البطرياركية الأبوية، التي كتب عنها هشام شرابي قبل ثلاثين عاما. (1988) فلم نقرأ.
قتل جمال خاشقجي أولئك الذين قتلوا الحلاج (قبل أحد عشر قرنا) ليخرسوه. ثم عاد ورثتهم الأوفياء للثقافة ذاتها ليخرسوا كل رأي «آخر»، أو كل من يغضب عليه ولي الأمر؛ زعيما كان أو خليفة أو ملكا أو رئيس حزب حاكم، أو أميرا لجماعة دينية في الموصل، أو سيناء، أو في أقاصي الصعيد. لا فرق. كلهم يعتقدون أنهم يملكون الحقيقة المطلقة.
هي ثقافة واحدة لا تنتمي لهذا العصر، ، فما بالك بمستقبل يتزينون بلافتاته.
هي الثقافة ذاتها. لا اختلاف مسموحا به مع ما يقول به الحاكم (وفقهاؤه). ولا فارق أن يأتي الأمر بالقتل من سلطة مستبدة، أو من فقيه، أو من أمير لجماعة تكفيرية
هي الثقافة ذاتها: الذين صلبوا الحلاج، وقطعوا أطرافه، ورموا ما بقى منه في نهر دجلة خوف «الثورة» زمن الاضطرابات السياسية والأزمات الاقتصادية الطاحنة، هم الذين جلدوا أحمد بن حنبل (الإمام) لا غيره. وهم الذين أحرقوا عبدالله بن المقفع صاحب «كليلة ودمنة»، والرسالة «الهاشمية» التي أوغرت صدر الخليفة. (وهي قصة تستحق العودة إليها في مقال مستقل). وهم الذين وأدوا الربيع العربي الذي كان يبشر بحرية الكلمة.
هي الثقافة ذاتها. لا اختلاف مسموحا به مع ما يقول به الحاكم (وفقهاؤه). ولا فارق أن يأتي الأمر بالقتل من سلطة مستبدة، أو من فقيه، أو من أمير لجماعة تكفيرية.
قتل جمال خاشقجي أولئك الذين يبدون «متعارضين»، ولكنهم في النهاية «متفقون» في السمع والطاعة، لا يهم إن كانت للمرشد، أو للأمير، أو الرئيس. هي ثقافة واحدة، وإن استل كلٌّ سيفه في مواجهة الآخر.
الذين قتلوا جمال خاشقجي هم الذين قتلوا ناجي العلي (1987)، وسمير قصير (2005)، وشكري بلعيد (2013)، وفرج فودة (1992). وأولئك الذين حاولوا قتل نجيب محفوظ (1995)، وعلي فرزات رسام الكاريكاتير السوري الذي أغضبت رسوماته بشار الأسد فأرسل «شبيحته» ليؤدبوه (أغسطس 2011). هل يختلف شبيحة الأسد الأمنيون عن أولئك الأمنيين الذين ذهبوا إلى إسطنبول لتأديب خاشقجي، أو لإخراسه.
قتل جمال خاشقجي ليس فقط الذين ذهبوا إلى إسطنبول، بل قتله الهتلريون الذين أحرقوا الكتب «لأنها تتضمن أفكارا لا تروقهم». والستالينيون الذين اضطهدوا الكتاب والمثقفين «خوفا من التأثير على عقول الجماهير» وقتله المكارثيون الذين أشاعوا الخوف عند كل من يملك قلما أو فكرا «مختلفا».
قتل جمال خاشقجي أولئك الذين لا يختلفون في التحليل النهائي عن الذين قتلوا غسان كنفاني في بيروت (1972)، وحاولوا إخراس كل من طرح أسئلة؛ مجرد أسئلة حول الأرقام التي راجت حول مذابح الهولوكوست. فأوسعوا المؤرخ البريطاني دافيد إيرڤينج ضربا (1992) لِتَجَرُّئِه على طرح السؤال.
***
قتل جمال خاشقجي أولئك الذين استمرأوا أوضاعا دفعت بآلاف الأبرياء إلى غياهب السجون، أو إلى تلك المنافي القسرية
قتل جمال خاشقجي أولئك الذين استمرأوا أوضاعا دفعت بآلاف الأبرياء إلى غياهب السجون، أو إلى تلك المنافي القسرية.
وأولئك الذين يسمون أنفسهم بالليبراليين ثم لم تتسع ليبراليتهم المشوهة تلك بحق التعبير (ناهيك عن حق الحياة) لمن يسمون أنفسهم بالإسلاميين.
قتل جمال خاشقجي أولئك المثقفون «المتفقون» دوما مع ما يقوله الحاكم (أي حاكم) طمعا ورهبة.
وقتله أولئك الذين يخشون الكلمة فيتفنون في «حياكة» قوانين تقيد من حرية الصحافة والتعبير. أولئك «الترامبيون» الذين لا يحبون الصحافة، بل يؤلبون الناس عليها.
ثم كان أن قتل جمال أولئك الذين استمعوا إليه يوم كتب ناصحا بعدم التصدي للسلطة الغاشمة التي لا تعرف إلًّا ولا ذمة ولا رحمة.
***
أستغرب أن هناك من يظن أن بإمكانه أن يحارب «التطرف الفكري» بسلاح المتطرفين ذاته؛ «مصادرة الرأي الآخر».
وأقول للمرة الألف إنني اختلفت مع جمال كثيرا (كما أوضحت في مقالي الأول عن «واقعته»). ولكنني، سواء اتفقت معه أو اختلفت ممن يؤمنون بأنه «لا حق لك في إبداء رأيك إن لم تدافع عن حق الآخرين في أن يكون لهم رأي مخالف». وممن يؤمنون بأن في التنوع الفكري ثراء. وأن الله قد خلق لنا عقولنا لا لكي نسمع فنطيع، بل لكي نسمع فنفكر وننقد. وأن بالتفكير النقدي وحرية التعبير وحدهما تقدمت المجتمعات. أما القول بأن «من اعترض انطرد» فله سياقاته الروحية التي لا محل لها هنا من إعراب.
***
لم يُقتل جمال فقط في هذا اليوم المشئوم الثاني من أكتوبر، بل قُتل ألف مرة بعد ذلك.
قتله أولئك الذين استكثروا علينا الاهتمام بقتله.
وقتله أولئك الذين لديهم ما يخفونه فاعتبروا الاهتمام بقتله (أكرر: بقتله) مجرد «هيستريا».
قتله إعلام استكثر على خبر فاجعة مقتله (وهو كان يوما رئيسا لتحرير مطبوعتين كبيرتين) تغطية لم تعطها للخبر غير مطبوعات أجنبية من الشرق والغرب.
قتله زملاء مهنة وجدوا كراسيهم ومميزاتها «أبقى من دمائه».
وقتلته مؤسسات دينية رسمية، لم تخرج بياناتها لتذكرنا بما نعرف من أن قوما قبلنا هلكوا «لأَنَهُمْ كَانُوا إِذَا سَرَقَ فِيهِمْ الشَرِيفُ تَرَكُوهُ وَإِذَا سَرَقَ فِيهِمْ الضَعِيفُ أَقَامُوا عَلَيْهِ الْحَدَّ» بل لتذكرنا بالطاعة الواجبة لأولي الأمر.
وقتله أولئك الذين تمترسوا في عصبيتهم وقبليتهم فظلوا يرددون الأكاذيب «الرسمية» لثمانية عشر يوما كاملة.
قتله الذين اعتبروا أن الانتصار للقبيلة، أولى من الانتصار للمظلوم. الذين نسوا ما قاله رسولهم الكريم من أن الانتصار لأخيك الظالم «يكون بالأخذ على يديه»
وقتله أولئك الذين لم تردعهم أخلاقهم، فعرضوا بخطيبته على مواقع التواصل الاجتماعي بإسفاف استدرج إليه للأسف مسؤولون رسميون.
وقتله أولئك الذين حاولوا خروجا من مأزقهم أن يشوهوا الرجل للإيحاء بأنه «يستحق القتل» هكذا خارج القانون.
قتله من أجبر من يعرفون الحقيقة على الصمت. ومن أجبر آخرين على الكذب؛ خوفا أو طمعا.
وقتله كل هؤلاء الذين يريدون أن يقلبوا الصفحة، لنعود إلى المربع ذاته، الذي يسمح بأن يموت ألف جمال جديد، لا لسبب غير أنه قال كلمة لم تعجب هذا الحاكم أو ذاك. أولئك الذين (لأسباب مختلفة) يريدون لنا أن نعود إلى ما كان عليه الحال قبل أن تكشف دماؤه الغطاء عن واقع الحريات والقهر في عالمنا العربي. فتضيع دماؤه هدرا، كما ضاعت دماء وتضحيات الكثيرين قبل ذلك. كأن شيئا لم يكن.
***
وقتله كل هؤلاء الذين يريدون أن يقلبوا الصفحة، لنعود إلى المربع ذاته، الذي يسمح بأن يموت ألف جمال جديد
لم يُقتل جمال فقط في هذا اليوم المشئوم الثاني من أكتوبر، بل قُتل ألف مرة بعد ذلك.
قتله أيضا كل أولئك المتاجرين بقضيته.
وقتله المتعصبون الذين أفرغوا القضية من إنسانيتها، ليأخذوها «مسيسة» إلى ميدان معركتهم الاستقطابية (القبلية) التي لا يبدو لها نهاية.
وقتله أولئك الذين كانوا على استعداد لغض الطرف حتى لا تضيع عليهم صفقات وعقود بالمليارات؟ هل سمعتم ترامب صريحا يقول: إنه لن يضيع 450 مليارا من الدولارات من أجل واحد «مات».
وقتله بين ظهرانينا من يظنون أن الرخاء الاقتصادي؛ مليارات ومشاريع طموح يمكن أن تغنينا عن الاهتمام بحقوق الإنسان، أو بروح بريئة أزهقت. ناسين أن «الظلم يذهب البركة»، وأنه «مؤذن بخراب العمران» كما تعلمنا من ابن خلدون.
وقتله حتى من خدرته نظريات المؤامرة، فاستراح لتعليق الجرس في رقبة الآخرين. غافلا عن حقيقة أن من الطبيعي أن يتآمر أعداؤك عليك، فهكذا شأن الأعداء (بل وواجبهم) في كل زمان ومكان. ولكن أسوأ المتآمرين عليك هي أفعالك التي تفتقد الحكمة فتنقلب عليك.
قتل جمال، أو بالأحرى استهان بقتله أولئك الذين لم يدركوا بعد أن هذا عالم لا يمكنك فيه هكذا أن تتجاهل قيما مثل «الحق في التعبير» و«حرية النشر والانتقاد» و«سيادة القانون»؛ أولئك الذين بحاجة إلى أن يرجعوا ويراجعوا المادة التاسعة عشرة من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان.
***
وبعد..
فلعلي بحاجة لأن أُذكر بما كتبته هنا قبل أسبوعين: «عرفت جمال قليلا.. واختلفت معه كثيرا». ولذلك فأنا هنا لا أتحدث عن الرجل، الذي ذهب إلى ربه؛ الذي « يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِى الصُدُورُ»، حيث «العدل المطلق»، وحيث سيدفع كلٌّ ثمنَ ما فعل، مهما حاول (في دنيانا هذه) إخفاءه.
…………….
كما أن هذا ليس، كما قد يراه البعض، حديثا في شأن داخلي سعودي، بل هو شأن عربي بامتياز، نحن هنا نتحدث عن ثقافة حكم ترسخت «وتشوهت» في عالمنا العربي والإسلامي كله على مدى أربعة عشر قرنا ورثت فيها ثقافتنا تلك من الجاهلية أسوأ ما فيها. واستلت من النصوص «المقدسة»، ما يمكن تأويله تدعيما لتلك الثقافة البطرياركية السلطوية، التي أخذتنا في نهاية المطاف إلى ما صرنا إليه؛ سمعا وطاعة.. ودماء.
…………….
يبقى أن أحدهم كان قد سألني على «تويتر» يوم جلس الكل يترقب متمترسا في مربع أمنياته: وماذا تتمنى أنت؟
وكانت إجابتي بنصها الذي لا أحيد عنه: «أتمنى أن تصبح بلادنا العربية «قوية». ولن تكون كذلك إلا إذا عرفت «الديموقراطية» الحقيقية. وعرف مواطنوها، قبل صحفييها «حرية الرأي والتعبير»، بلا خوف ولا قمع. وتخلصنا من ثقافة «السمع والطاعة». وأدركنا أن «الولاء» يكون للوطن، لا الحاكم.
أرجو أن أكون قد أجبتك»
هكذا كان نص «التغريدة».. وهكذا ما أتصور أنه يلخص كل ما سبق عاليه.
لمتابعة الكاتب:
twitter: @a_sayyad
Facebook: AymanAlSayyad.Page
روابط ذات صلة:
– عن «الإنسان» .. الذي اختفى
– الصحافة حين تسأل
– عن الخليفة والأمير والرئيس .. و«الثقافة الحاكمة»
– عن «الثقافة الحاكمة» .. عودة إلى هشام شرابي (2)


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.